الباحث القرآني

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) ﴾ قال أبو جعفر: أما قوله:"ومن الناس"، فإن في"الناس" وجهين: أحدهما: أن يكون جمعًا لا واحدَ له من لَفْظِه، وإنما واحدهم"إنسانٌ"، وواحدتهم"إنسانة" [[في المطبوعة: "واحده إنسان، وواحدته إنسانة".]] . والوجه الآخر: أن يكون أصله"أُناس" أسقِطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخلتها الألف واللام المعرِّفتان، فأدغِمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون، كما قيل في ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ [سورة الكهف: ٣٨] ، على ما قد بينا في"اسم الله" الذي هو الله [[انظر ما مضى ص ١٢٥ - ١٢٦.]] . وقد زعم بعضهم أن"الناس" لغة غير"أناس"، وأنه سمع العرب تصغرهُ"نُوَيْس" من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير: أُنَيس، فرُدَّ إلى أصله. وأجمعَ جميع أهل التأويل على أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهلِ النِّفاق، وأن هذه الصِّفة صِفتُهم. * ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم: ٣١٢- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ، يعني المنافقين من الأوْس والخَزْرج ومَنْ كان على أمرهم. وقد سُمِّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم [[الخبر ٣١٢- مضى نحو معناه: ٢٩٦، وأشرنا إلى هذا هناك. وأسماء المنافقين، من الأوس والخزرج، الذين كره الطبري إطالة الكتاب بذكرهم - حفظها علينا ابن هشام، في اختصاره سيرة ابن إسحاق، بتفصيل واف: ٣٥٥ - ٣٦١ (طبعة أوربة) ، ٢: ١٦٦ - ١٧٤ (طبعة الحلبي) ، ٢: ٢٦ - ٢٩ (الروض الأنف) .]] . ٣١٣- حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ، حتى بلغ: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ قال: هذه في المنافقين [[الأثر ٣١٣- الحسن بن يحيى، شيخ الطبري؛ وقع في الأصول هنا"الحسين"، وهو خطأ. وقد مضى مثل هذا الإسناد على الصواب، رقم: ٢٥٧.]] . ٣١٤- حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة، في نَعت المنافقين. ٣١٥- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حُذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله. ٣١٦ حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. ٣١٧- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن إسماعيل السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين﴾ هم المنافقون. ٣١٨- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: ﴿ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر﴾ إلى ﴿فزادهم الله مَرَضًا ولهم عذاب أليم﴾ ، قال: هؤلاء أهلُ النفاق. ٣١٩- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين﴾ قال: هذا المنافقُ، يخالِفُ قولُه فعلَه، وسرُّه علانِيَتَه ومدخلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيبَه [[الروايات ٣١٤ - ٣١٩: ساق بعضها ابن كثير ١: ٨٦ بين نص وإشارة. وساق بعضها أيضًا السيوطي ١: ٢٩. والشوكاني ١: ٢٩.]] . وتأويل ذلك: أنّ الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد ﷺ أمرَهُ في دار هجرته، واستَقرَّ بها قرارُه، وأظهرَ الله بها كلمتَه، وفشا في دور أهلها الإسلام، وقَهَر بها المسلمون مَنْ فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وذَلّ بها مَن فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبارُ يَهودها لرسول الله ﷺ الضَّغائن، وأبدوا له العداوة والشنآنَ، حسدًا وَبغيًا [[في: المخطوطة"العداوة والشنار"، وهو خطأ. والشنآن والشناءة: البغض يكشف عنه الغيظ الشديد. شنئ الشيء يشنؤه: أبغضه بغضًا شديدًا.]] ، إلا نفرًا منهم هداهم الله للإسلام فأسلَموا، كما قال جل ثناؤه: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [سورة البقرة: ١٠٩] ، وطابَقَهم سرًّا على مُعاداة النبي ﷺ وأصحابه وَبغْيِهم الغوائِل، قومٌ - من أرَاهط الأنصار الذين آوَوْا رسول الله ﷺ ونَصَروه [[الغوائل جمع غائلة: وهي: النائبة التي تغول وتهلك. وأراهط جمع رهط، والرهط: عدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة، لا يكون فيهم امرأة. وعنى بهم العدد القليل من بطون الأنصار.]] - وكانوا قد عَسَوْا في شركهم وجاهليِّتِهم [[في المطبوعة: "عتوا في جاهليتهم" وكلتاهما صواب. عسا الشيء يعسو: اشتد وصلب وغلظ من تقادم العهد عليه، وعسا الرجل: كبر. والعاسي: هو الجافي، ومثله العاتي. وعتا يعتو، في معناه. وانظر ما مضى ص: ٣٦، تعليق.]] قد سُمُّوا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم، وظاهروهم على ذلك في خَفاءٍ غير جِهارٍ، حذارَ القتل على أنفسهم، والسِّباءِ من رسول الله ﷺ وأصحابه، وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لَقُوا رسولَ الله ﷺ وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم -حِذارًا على أنفسهم-: إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبَعْث، وأعطَوْهم بألسنتهم كلمةَ الحقِّ، ليدرأوا عن أنفسهم حُكم الله فيمن اعتقدَ ما هم عليه مقيمون من الشرك، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم. وإذا لقُوا إخوانَهم من اليهود وأهل الشّركِ والتكذيب بمحمد ﷺ وبما جاء به، فخلَوْا بهم قَالُوا: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ . فإياهم عَنَى جلّ ذكره بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ، يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم: آمنّا بالله-: وصدّقنا بالله [[في المطبوعة"وصدقنا بالله"، وزيادة الواو خطأ.]] . وقد دللنا على أنّ معنى الإيمان: التصديق، فيما مضى قبل من كتابنا هذا [[انظر ما مضى ص: ٢٣٤ - ٢٣٥.]] . وقوله: ﴿وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ ، يعني: بالبعث يوم القيامة، وإنما سُمّى يومُ القيامة"اليومَ الآخر"، لأنه آخر يوم، لا يومَ بعده سواه. فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاعَ للآخرة ولا فناء، ولا زوال؟ قيل: إن اليومَ عند العرب إنما سُمي يومًا بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليلَ بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هو آخر الأيام. ولذلك سمّاه الله جل ثناؤه"اليوم الآخر"، ونعتَه بالعَقِيم. ووصفه بأنه يوم عَقيم، لأنه لا ليل بعده [[وذلك قول ربنا سبحانه في سورة الحج: ٥٥: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ .]] . وأما تأويل قوله:"وما هم بمؤمنين"، ونفيُه عنهم جلّ ذكره اسمَ الإيمان، وقد أخبرَ عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبَرُوا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث، وإعلامٌ منه نبيَّه ﷺ أنّ الذي يُبْدونه له بأفواههم خلافُ ما في ضمائر قلوبهم، وضِدُّ ما في عزائم نفوسهم. وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على بُطول ما زَعَمتْه الجهميةُ: من أنّ الإيمان هو التصديق بالقول، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق، أنهم قالوا بألسنتهم:"آمنا بالله وباليوم الآخر"، ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذْ كان اعتقادهم غيرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُم ذلك. وقوله"وما هم بمؤمنين"، يعني بمصدِّقين" فيما يزعمون أنهم به مُصَدِّقون.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب