الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله: ﴿فهي﴾ :"قلوبكم". يقول: ثم صلبت قلوبكم -بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه- عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد قسوة"، يعني: قلوبهم - عن الإذعان لواجب حق الله عليهم، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم- أشد صلابة من الحجارة. [[كانت هذه الجملة في المطبوعة هكذا: "كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد صلابة، يعني قلوبكم عن الإذعان لواجب حق الله عليهم، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة". وكأنها سهو من الناسخ، فرددته إلى أصله بحمد الله.]] * * * فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: ﴿فهي كالحجارة أو أشد قسوة﴾ ، و"أو" عند أهل العربية، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟ قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية، أنها - عند عباده الذين هم أصحابها، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله - كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة، عندهم وعند من عرف شأنهم. * * * وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: ﴿فهي كالحجارة أو أشد قسوة﴾ ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب"أو"، كقوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] ، وكقول الله جل ذكره: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤] [الإبهام على من خاطبه] [[اللسان (سكن) . غاله الشيء يغوله: ذهب به فلم تدر أين هو وأجن: ستر وأخفى.]] فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة، [[ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام، استظهرته من قوله بعد: "ولكنه أبهم على المخاطب"، ومن تفسير ابن كثير ١: ٢٠٩، ٢١٠.]] وهو عالم أي ذلك أكل، ولكنه أبهم على المخاطب، كما قال أبو الأسود الدؤلي: أحب محمدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة والوصيا [[ديوانه: ٣٢ (من نفائس المخطوطات) ، والأغاني ١١: ١١٣، وإنباه الرواة ١: ١٧، وسيأتي البيت الثاني وحده في ٢٢: ٦٥ (بولاق) ورواية الديوان: "وفيهم أسوة إن كان غيا".]] فإن يك حبهم رشدا أصبه ... ولست بمخطئ إن كان غيا قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى - رَشَد، ولكنه أبهم على من خاطبه به. وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت! فقال: كلا والله! ثم انتزع بقول الله عز وجل: ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾ ، فقال: أَوَ كان شاكا -من أخبر بهذا- في الهادي من الضلال. [[قوله"في الهادي من الضلال" يعني نبيه ﷺ. وعبارة الأغاني: أفترى الله عز وجل شك في نبيه".]] * * * وقال بعضهم: ذلك كقول القائل:"ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا"، وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: ﴿فهي كالحجارة أو أشد قسوة﴾ ، إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة. وقال بعضهم:"أو" في قوله: ﴿أو أشد قسوة﴾ ، بمعنى، وأشد قسوة، كما قال تبارك وتعالى: ﴿ولا تطع منهم آثما أو كفورا﴾ [الإنسان: ٢٤] بمعنى: وكفورا، وكما قال جرير بن عطية: نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر [[سلف هذا البيت وتخريجه في ١: ٣٣٧.]] يعني: نال الخلافة، وكانت له قدرا، وكما قال النابغة: قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد [[ديوانه: ٣٢، وروايته هناك"ونصفه". وهو من قصيدته المشهورة التي يعتذر فيها إلى النعمان. والضمير في قوله: "قالت" إلى"فتاة الحي، المذكورة في شعر قبله، وهي زرقاء اليمامة. وهو خبر مشهور، لا نطيل بذكره.]] يريد. ونصفه * * * وقال آخرون:"أو" في هذا الموضع بمعنى"بل"، فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشد قسوة، كما قال جل ثناؤه: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] ، بمعنى: بل يزيدون. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم. * * * قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب. غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة: إما أن تكون كالحجارة، أو أشد، [[في المطبوعة: "فهي أوجه في القسوة من أن تكون كالحجارة أو أشد"، واستظهرت تصويبه مما مضى آنفًا، ومن تأويله بعد، فوضعت"إما" مكان"من".]] على تأويل أن منها كالحجارة، ومنها أشد قسوة. لأن"أو"، وإن استعملت في أماكن من أماكن"الواو" حتى يلتبس معناها ومعنى"الواو"، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن - [[انظر ما سلف في ١: ٣٢٧ - ٣٢٨.]] فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين. فتوجيهها إلى أصلها - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا [[في المطبوعة: "من وجد إلى ذلك سبيلا". وهو خطأ.]] أعجب إلي من إخراجها عن أصلها، ومعناها المعروف لها. * * * قال أبو جعفر: وأما الرفع في قوله: ﴿أو أشد قسوة﴾ فمن وجهين: أحدهما: أن يكون عطفا على معنى"الكاف" في قوله: ﴿كالحجارة﴾ ، لأن معناها الرفع. وذلك أن معناها معنى"مثل"، [فيكون تأويله] [[زدت ما بين القوسين، ليستقيم الكلام.]] فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة. والوجه الآخر: أن يكون مرفوعا، على معنى تكرير"هي" عليه. فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: ﴿وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار﴾ : وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار، فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. [[في المطبوعة: "بذكر الماء عن ذكر الأنهار"، وهو خطأ بين.]] وإنما ذكر فقال"منه"، للفظ"ما". [[في المطبوعة: "وإنما ذكر فقيل. . "، وهو لا شيء.]] * * * و"التفجر":"التفعل" من"تفجر الماء"، [[في المطبوعة: "من: فجر الماء"، وهو خطأ يدل السياق على خلافه، وهو ما أثبت.]] وذلك إذا تنزل خارجا من منبعه. وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه، فقد"انفجر"، ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك، ومنه قوله عمر بن لجأ: ولما أن قرنت إلى جرير ... أبى ذو بطنه إلا انفجارا [[طبقات فحول الشعراء: ٣٦٩، والأغاني ٨: ٧٢، وروايتهما"إلا انحدارا"، وراوية الطبري أعرق في الشعر. وفي المطبوعة"قربت"، وهو خطأ محض. قاله عمر بن لجأا حين أخذهما أبو بكر ابن حزم - بأمر الوليد بن عبد الملك - فقرنهما، وأقامهما على البلس يشهر بهما، فكان التميمي ينشد هذا البيت في هجاء جرير. وقوله: "ذو بطنه"، كناية جيدة عما يشمأز من ذكره.]] يعني: إلا خروجا وسيلانا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: وإن منها لما يشقق"، وإن من الحجارة لحجارة يشقق. وتشققها: تصدعها. [[أسقط ذكر الآية في المطبوعة، كأنه استطال التكرار؛ وأقمنا الكلام على نهج أبي جعفر وفي المطبوعة: "لحجارة تشقق"، ورددتها إلى الصواب أيضًا.]] وإنما هي: لما يتشقق، ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة. وقوله: ﴿فيخرج منه الماء﴾ فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط - أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح - [[تردى من الجبل ترديا: طاح وسقط.]] من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى"الهبوط" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. [[انظر ما سلف ١: ٥٣٤، وهذا الجزء ٢: ١٣٢.]] * * * قال أبو جعفر: وأدخلت هذه"اللامات" اللواتي في"ما"، توكيدا للخبر. وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به - من أن منها المتفجر منه الأنهار، وأن منها المتشقق بالماء، وأن منها الهابط من خشية الله، بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، [[سياق هذه العبارة: جعل منها مثلا لقلوب الذين.]] مثلا - معذرة منه جل ثناؤه لها، [[وسياق هذه الجملة: وإنما وصف الله بما وصفها به. . معذرة منه لها" أي للحجارة، وما بين ذلك فصل كدأب جعفر رحمه الله.]] دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب لرسله، والجحود لآياته، بعد الذي أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول، ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار، ومنه ما يتشقق بالماء، ومنه ما يهبط من خشية الله، فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق، كما:- ١٣١٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. * * * وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٣١٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: ﴿ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله﴾ ، قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن. ١٣١٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. ١٣١٩ - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿فهي كالحجارة أو أشد قسوة﴾ ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم. فقال: ﴿وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله﴾ . ١٣٢٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أحبرنا معمر، عن قتادة مثله. ١٣٢١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: ﴿وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء﴾ . ١٣٢٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج أنه قال: فيها كل حجر انفجر منه ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردى من جبل، فمن خشية الله. نزل به القرآن. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله. فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله. [[يريد قوله تعالى في سورة النحل: ٤٨ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) . وانظر تفسير الآية من تفسير الطبري ١٤: ٧٨، ٧٩ (بولاق) .]] وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه. [[يريد قوله تعالى في سورة الأعراف: ١٤٣: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) .]] وقال بعضهم: ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم، فعقل طاعة الله فأطاعه. ١٣٢٤ - كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله ﷺ إذا خطب، فلما تحول عنه حن. [[الحديث: ١٣٢٤ - قصة حنين الجذع لرسول الله ﷺ، متواترة صحيحة، لا يشك في صحتها إلا من لا يريد أن يؤمن. وقد عقد الحافظ ابن كثير في التاريخ بابا لذلك ٦: ١٢٥ - ١٣٢ قال في أوله: "باب حنين الجذع شوقا إلى رسول الله ﷺ، وشفقا من فراقه. وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة، بطرق متعددة، تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان، ثم ساق من الأحاديث الصحاح من دواوين السنة. وانظر منها في المسند: ٢٢٣٦، ٣٤٣٠ من حديث ابن عباس. و٢٢٣٧، ٣٤٣١، من حديث أنس. و٣٤٣٢ من حديث ابن عباس وأنس. وصحيح البخاري ٦: ٤٤٣ (من الفتح) .]] ١٣٢٥ - وكالذي روي عن النبي ﷺ أنه قال:"إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن". [[الحديث: ١٣٢٥ - روى مسلم في صحيحه ٢: ٢٠٣ - ٢٠٤، عن جابر بن سمرة قال: "قال رسول الله ﷺ: إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن". وذكره ابن كثير في التاريخ ٦: ١٣٤، من مسند أحمد، ثم نسبه لصحيح مسلم، ومسند الطيالسي.]] وقال آخرون: بل قوله: ﴿يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ كقوله: ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ ولا إرادة له. قالوا وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله، كما قال زيد الخيل: بجمع تضل البلق في حَجَراته ... ترى الأكْمَ منه سجدا للحوافر [[مضى هذا البيت في هذا الجزء: ٢: ١٠٤ وورد هنا"ترى الأكم فيها" والصواب ما أثبته، كما مضى آنفًا، وفي الأضداد لابن الأنباري"منها" مكان"فيها".]] وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوا له: ساجد المنخر لا يرفعه ... خاشع الطرف أصم المستمع [[المفضليات: ٤٠٧، والأضداد لابن الأنباري: ٢٥٧. من قصيدته المحكمة. و"ساجد" منصوب إذ قبله، في ذكر عدوه هذا: ثم ولى وهو لا يحمى استه ... طائر الإتراف عنه قد وقع وفي الأصل المطبوع: "إذ يرفعه"، وهو خلل في الكلام. وأثبت ما في المفضليات، ورواية ابن الأنباري: "ما يرفعه". . يقول أذله فطأطأ رأسه خزيا، وألزم الأرض بصره، وصار كأنه أصم لا يسمع ما يقال له، فهو لا حراك به، مات وهو حي قائم، لا يحير جوابا. ولذلك قال بعده: فر مني هاربا شيطانه ... حيث لا يعطى، ولا شيئا منع]] يريد أنه ذليل. [[هذه الجملة كانت قبل البيت، فرددتها إلى حيث ينبغي أن ترد.]] وكما قال جرير بن عطية: لما أتى خبر الرسول تضعضعت ... سور المدينة والجبال الخشع [[سلف هذا البيت وتخرجه في هذا الجزء ٢: ١٧، وروايته هناك "خبر الزبير"، وهي أصح وأجود.]] * * * وقال آخرون: معنى قوله: ﴿يهبط من خشية الله﴾ ، أي: يوجب الخشية لغيره، بدلالته على صانعه، كما قيل:"ناقة تاجرة"، إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها، كما قال جرير بن عطية: وأعور من نبهان، أما نهاره ... فأعمى، وأما ليله فبصير [[سلف هذا البيت وتخريجه في ١: ٣١٧ من طبعتنا هذه، وأغفلت هناك أن أرده إلى هذا الموضع من التفسير، فقيده.]] فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه، من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به. * * * وهذه الأقوال، وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها. [[ليت من تهور من أهل زماننا، فاجترأ على جعل كتاب ربه منبعا يستقى منه ما يشاء لأهوائه وأهواء أصحاب السلطان - سمع ما يقول أبو جعفر، فيما تجيزه لغة العرب، فكيف بما هو تهجم على كلام ربه بغير علم ولا هدى ولا حجة؟ اللهم إنا نبرأ إليك منهم، ونستعيذ بك أن نضل على آثارهم.]] * * * وقد دللنا فيما مضى على معنى"الخشية"، وأنها الرهبة والمخافة، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. [[انظر ما سلف ١: ٥٥٩ - ٥٦٠، وهو من تفسير" فارهبون"، ولم ترد مادة (خشي) في القرآن قبل هذا الموضع، فلذلك قطعت بأنه أحال على هذه الآية.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله: ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ ، وما الله بغافل -يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد ﷺ، والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم، فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا. [[كانت في المطبوعة"يحصيها،. . فيجازيكم. . أو يعاقبكم" بالياء في أولها جميعا، واستجزت أن أردها إلى الاسمية، لأن الطبري هكذا يقول، وقد سلف مثل ذلك مرارا، ورأيت النساخ تصرفوا فيه كما بيناه في موضعه. فاستأنست بنهجه في بيانه، وهو أبلغ وأقوم.]] وأصل"الغفلة" عن الشيء، تركه على وجه السهو عنه، والنسيان له. * * * فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه عنها، بل هو لها محص، ولها حافظ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب