الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ ﴿وظللنا عليكم الغمام﴾ عطف على قوله: ﴿ثم بعثناكم من بعد موتكم﴾ . فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام - وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم - لعلكم تشكرون. * * * و"الغمام" جمع"غمامة"، كما السحاب جمع سحابة،"والغمام" هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين. وكل مغطى فالعرب تسميه مغموما. [[في المطبوعة: "فإن العرب تسميه".]] * * * وقد قيل: إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا. ٩٦٢ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ﴿وظللنا عليكم الغمام﴾ ، قال: ليس بالسحاب. ٩٦٣ - وحدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ﴿وظللنا عليكم الغمام﴾ ، قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، لم يكن إلا لهم. [[الأثر ٩٦٣ - في المخطوطة، ساق هذا الأثر إلى قوله"قال: ليس بالسحاب" ثم قال بعده ما نصه: "وبإسناده عن مجاهد قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي. . . " إلى آخر الخبر.]] ٩٦٤ - وحدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: ﴿وظللنا عليكم الغمام﴾ ، قال: هو بمنزلة السحاب. ٩٦٥ - وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وظللنا عليكم الغمام) ، قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله: [[في المخطوطة: "فيه في قوله" بحذف"يوم القيامة".]] ﴿في ظلل من الغمام﴾ [البقرة: ٢١٠] ، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه. [[الضمير في قوله: "وكان"، للغمام.]] * * * وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا، مما غم السماء من شيء يغطى وجهها عن الناظر إليها، [[في المطبوعة: "فغطى وجهها" وتلك أجود.]] فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل - فوصفه بأنه كان غماما - بأولى، بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا، منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء. * * * وقد قيل: إنه ما ابيض من السحاب. * * * القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ﴾ اختلف أهل التأويل في صفة"المن". فقال بعضهم بما: - ٩٦٦ - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: ﴿وأنزلنا عليكم المن﴾ ، قال: المن صمغة. ٩٦٧ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. ٩٦٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ﴿وأنزلنا عليكم المن والسلوى﴾ ، يقول: كان المن ينزل عليهم مثل الثلج. * * * وقال آخرون: هو شراب. * ذكر من قال ذلك: ٩٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: المن، شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء، ثم يشربونه. * * * وقال آخرون:"المن"، عسل. * ذكر من قال ذلك: ٩٧٠ - حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المن: عسل كان ينزل لهم من السماء. ٩٧١ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن. * * * وقال آخرون:"المن" الخبز الرقاق. [[في المطبوعة: "خبز الرقاق". خبز رقاق رقيق، كطويل وطوال، صفة. وهو خبز منبسط رقيق.]] * ذكر من قال ذلك: ٩٧٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما المن؟ قال: خبز الرقاق،، مثل الذرة، ومثل النقي. [[الأثر: ٩٧٢ - بعض أثر سيأتي برقم: ٩٩٥. وفي المخطوطة: "من الذرة"، وفي ابن كثير كما في المطبوعة، وسيأتي كذلك في رقم: ٩٩٥.]] * * * وقال آخرون:"المن"، الزنجبيل. [[في المطبوعة"الترنجبين"، وكذلك في البغوي"الترنجبين". وفي تاج العروس: "الترنجبين". بالضم، هو المن المذكور في القرآن". وسيأتي ذلك بعد رقم: ٩٧٧، وهو هنا"الزنجيل" كما في ابن كثير، والمخطوطة. وانظر لسان العرب: (منن) .]] * ذكر من قال ذلك: ٩٧٣ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: المن كان يسقط على شجر الزنجبيل [[في المطبوعة"شجر الترنجبين".]] * * * وقال آخرون:"المن"، هو الذي يسقط على الشجر الذي يأكله الناس. * ذكر من قال ذلك: ٩٧٤ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كان المن ينزل على شجرهم، فيغدون عليه، فيأكلون منه ما شاءوا. [[الأثر: ٩٧٤ - هو في المخطوطة بعد رقم: ٩٧٦.]] . ٩٧٥ - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر في قوله: ﴿وأنزلنا عليكم المن﴾ ، قال: المن: الذي يقع على الشجر. ٩٧٦ - حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ﴿المن﴾ ، قال: المن الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس. ٩٧٧ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: المن، هذا الذي يقع على الشجر. * * * وقد قيل. إن"المن"، هو الترنجبين. * * * وقال بعضهم:"المن"، هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر، وهو حلو كالعسل، وإياه عنى الأعشى -ميمون بن قيس- بقوله: لو أُطعِموا المن والسلوى مكانَهمُ ... ما أبصر الناس طُعما فيهمُ نجعا [[ديوانه: ٨٧ من قصيدة طويلة، يذكر فيها ذا التاج هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة، وكانت بنو تميم قد وثبت على مال وطرف كانت تساق إلى كسرى، فأوقع بهم المكعبر الفارسي، والي كسرى على البحرين، وأدخلهم المشقر - وهو حصن بالبحرين - بخديعة خدعهم بها، فقتل رجالهم واستبقى الغلمان. وكلم هوذة بن علي المكعبر يومئذ في مائة من أسرى بني تميم، فوهبهم له يوم الفصح، فأعتقهم، فقال الأعشى، يذكر ما كان من قبل هوذة في بني تميم: سائل تميما به أيام صفقتهم ... لما أتوه أسارى كلهم ضرعا وسط المشقر في عيطاء مظلمة ... لا يستطيعون فيها ثَمَّ ممتنعا لو أُطعموا المن. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فوصف بني تميم بالكفر لنعمته (تاريخ الطبري ٢: ١٣٢ - ١٣٤) . والطعم: ما أكل من الطعام. ونجع الطعام في الإنسان: هنا أكله وتبينت تنميته، واستمرأه وصلح عليه.]] وتظاهرت الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه ﷺ قال: ٩٧٨ -"الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين". [[الحديث: ٩٧٨ - هكذا رواه الطبري دون إسناد. وقد صدق في أنه تظاهرت به الأخبار. فقد رواه أحمد والشيخان والترمذي، من حديث سعيد بن زيد. ورواه أيضًا أحمد والشيخان وابن ماجه، من حديث أبي سعيد وجابر. ورواه أبو نعيم في الطب، من حديث ابن عباس وعائشة. انظر مثلا، المسند: ١٦٢٥، ١٦٢٦. والجامع الصغير: ٦٤٦٣. وزاد المعاد لابن القيم ٣: ٣٨٣. وتفسير ابن كثير ١: ١٧٤ - ١٧٦، وقد ساق كثيرا من طرقه.]] وقال بعضهم:"المن"، شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه. * * * وأما أمية بن أبي الصلت، فإنه جعله في شعره عسلا فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه: فرأى الله أنهم بمَضِيعٍ ... لا بذي مَزْرعٍ ولا معمورا [[ديوانه: ٣٤ - ٣٥. في الأصول والديوان. "ولا مثمورا". مضيع: بموضع ضياع وهوان وهلاك. يقال: هو بدار مضيعة (بفتح الميم وكسر الضاد) ، كأنه فيها ضائع. وهو مفعلة، وطرح التاء منها كما يقولون: المنزل والمنزلة. ومزرع: مصدر ميمي من"زرع" يعني ليس بذي زرع، ومعمور: أي آهل ذهب خرابه. ونصب"ولا معمورا"، عطفا على محل"بذي مزرع"، وهو نصب. وآثرت هذه الكلمة، لأنها هي التي تتفق مع سياقه الشعر، ولأن التحريف في"معمور" و"مثمور" سهل، ولما سترى في شرح البيت الثالث.]] فَنَساها عليهم غاديات، ... ومرى مزنهم خلايا وخورا [[في المطبوعة: "فعفاها" وفي المخطوطة: "فسناها"، وفي الديوان"فعفاها" ولا معنى لشيء منها، فاستظهرت أن أقرأها من المخطوط"فنساها"، أصلها"فنسأها" مهموزة، كما قالوا: برأ الله الخلق وبراهم بطرح الهمزة. ونسأ الدابة رالإبل ينسؤها نسأ: زجرها وساقها. يقول: ساق عليهم السحاب. غاديات جمع غادية: وهي السحابة التي تنشأ غدوة. ومرى الناقة مريا: مسح ضرعها لتدر. والمزن جمع مزنة: وهي السحابة ذات الماء. وخلايا جمع خلية: وهي الناقة التي خليت للحلب لكرمها وغزارة لبنها. الخور": إبل حمر إلى الغبرة، رقيقات الجلود، طوال الأوبار، لها شعر ينفذ وبرها، وهي أطول من سائر الوبر، فإذا كانت فهي غزار كثيرة اللبن. شبه السحاب الغزير الماء بهذين الضربين من النوق الغزيرة اللبن، يحلب مطرها عليهم حلبا، ثم فصل في البيت التالي أنواع ما نزل عليهم من السماء.]] عسلا ناطِفا وماء فراتا ... وحليبا ذا بهجة مثمورا [[ناطف، من نطف ينطف: قطر. وهو مشروح بعد - أي يقطر من السماء. والفرات: أشد الماء عذوبة. ووصف اللبن بأنه ذو بهجة. وهي الحسن والنضارة، لأنه لم يؤخذ زبده، فيرق، وتذهب لمعة الزبد منه، فاستعار البهجة لذلك. أما قوله: "مثمورا"، فهي في المطبوعة "ممرورا"، وفي المخطوطة في الصلب كانت تقرأ "مثمورا" ثم لعب فيها قلم الناسخ في الثاء والميم، ثم كتب هو نفسه في الهامش: "مزمورا"، ثم شرح في طرف الصفحة فقال: "المزمور: الصافي من اللبن". وذلك شيء لا وجود له في كتب اللغة، وقد رأيت أنه كتب في البيت الأول"مثمورا"، ورجحت أن صوابها"معمورا"، ورجحت في هذا البيت أن يكون اختلط عليه حين كتب"مثمورا" فعاد فجعلها"مزمورا". ولم أجد"مثمورا" في كتب اللغة، ولكن يقال: الثمير والثميرة: اللبن الذي ظهر زبده وتحبب قال ابن شميل: إذا مخض رؤي عليه أمثال الحصف في الجلد، ثم يجتمع فيصير زبدا، وما دامت صغارا فهو ثمير. ويقولون: إن لبنك لحسن الثمر، وقد أثمر مخاضك. فكأنه قال: "مثمورا" ويعني"ثميرا"، لأن فعيلا بمعنى مفعول هنا.]] المثمور: الصافي من اللبن [[كانت في المطبوعة"الممرور"، وقد ذكرت في التعليقة، أنها بهامش المخطوطة"المزمور".]] . فجعل المن الذي كان ينزل عليهم عسلا ناطفا، والناطف: هو القاطر. [[قوله: "فجعل المن. . . " إلى آخر الجملة ليس في المخطوطة.]] . * * * القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَالسَّلْوَى﴾ قال أبو جعفر: و"السلوى" اسم طائر يشبه السُّمانَى، واحده وجِماعه بلفظ واحد، كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء. وقد قيل: إن واحدة السلوى سلواة. * ذكر من قال ذلك: ٩٧٩ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: السلوى طير يشبه السُّمانى. [[الأثر: ٩٧٨ - اقتصر في المخطوطة على بعض هذا الإسناد، إلى قوله: عن السدي"، وأسقط الباقي، وهو الإسناد الدائر في تفسيره، فكأن كل إسناد وقف على السدي، هو هذا الإسناد، ثم اجتزأ ببعضه عن جميعه، كما مضى آنفًا، وكما سيأتي بعد.]] . ٩٨٠ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان طيرا أكبر من السمانى. ٩٨١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: السلوى: طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب. ٩٨٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: السلوى: طائر. ٩٨٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: السلوى طير. ٩٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الحمام. [[الأثر ٩٨٤ - بعض أثر سيأتي برقم: ٩٩٥.]] ٩٨٥ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: السلوى طير. ٩٨٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: السلوى كان طيرا يأتيهم مثل السمانى. ٩٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر، قال: السلوى السمانى. ٩٨٨ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: السلوى، هو السمانى. ٩٨٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، أخبرنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: السلوى السمانى. ٩٩٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الضحاك قال: السمانى هو السلوى. * * * فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام، وإنزاله المن والسلوى على هؤلاء القوم؟ قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك. ونحن ذاكرون ما حضرنا منه: - ٩٩١ - فحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى، [[في المخطوطة: "على موسى" بحذف"قوم".]] وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم، أمرهم الله بالسير إلى أريحا، [[في المطبوعة: "بالمسير"، وهما سواء.]] وهي أرض بيت المقدس. فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا. فكان من أمرهم وأمر الجبارين وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه. [[هذا اختصار، وتفصيله في التاريخ في موضعه، كما سيأتي في موضعه من ذكره مراجعه.]] فقال قوم موسى لموسى: ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون﴾ . فغضب موسى فدعا عليهم فقال: ﴿رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين﴾ . فكانت عَجْلَةً من موسى عجلها، فقال الله تعالى: ﴿إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض﴾ . فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين - أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين - فلم يحزن، فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا؟ أين الطعام؟ فأنزل ألله عليهم المن - فكان يسقط على شجر الترنجبين [[في المخطوطة وحدها: "الزنجبيل". وانظر ما مضى: ٩٢.]] - والسلوى = وهو طير يشبه السمانى = فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب؟ فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: ﴿وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى﴾ وقوله: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ . [البقرة: ٦٠] [[الأثر: ٩٩١ - في تاريخ الطبري ١: ٢٢١ - ٢٢٢.]] ٩٩٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل، أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة، [[في المخطوطة: "أن يسبق بهم"، وأراد الناسخ أن يصححها في الهامش، فكتب"-" ولم يتمها.]] وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نزل التيه -بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظل [[الخمر (بفتحتين) : كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره.]] - دعا موسى ربه حين آذاهم الحر، فظلل عليهم بالغمام؛ ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله لهم المن والسلوى. ٩٩٣ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس - ٩٩٤ - وحدثت عن عمار بن الحسن، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع [[هذا الإسناد الثاني ساقط من المخطوطة.]] قوله: ﴿وظللنا عليكم الغمام﴾ ، قال: ظلل عليهم الغمام في التيه، تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة، [[في المخطوطة: "فإذا هو في قدر" مصفحة، وانظر تفسير الطبري ٦: ١١٦ - ١١٧، ١١٩ (بولاق) وقوله: "قدر" ليست في المطبوعة.]] كلما أصبحوا ساروا غادين، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه. فكانوا كذلك حتى مرت أربعون سنة. [[في المخطوطة: "حتى قمرت أربعين سنة" محرفا.]] قال: وهم في ذلك ينزل عليهم المن والسلوى، ولا تبلى ثيابهم. ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ٩٩٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال، سمعت وهبا يقول: إن بني إسرائيل -لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض- شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون. قالوا: من أين لنا؟ إلا أن يمطر علينا خبزا! قال: إن الله عز وجل سينزل عليكم خبزا مخبوزا. فكان ينزل عليهم المن - سئل وهب: ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقيّ - [[هذه الجملة سلفت في الأثر رقم: ٩٧٢]] قالوا: وما نأتدم؟ وهل بد لنا من لحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به. فقالوا: من أين لنا؟ إلا أن تأتينا به الريح! قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى - فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الحمام، [[هذه الجملة سلفت في الأثر رقم: ٩٨٤]] كانت تأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت - [[في المطبوعة: "من السبت إلى السبت".]] قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة. قالوا: فما نحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. [[الشسع: أحد سيور النعل الذي يدخل بين الإصبعين]] قالوا: فإن يولد فينا أولاد، فما نكسوهم؟ [[في المطبوعة: "فإن فينا أولادا".]] قال: ثوب الصغير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله. قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر! فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فما نبصر! تغشانا الظلمة! [[في المطبوعة: "فبم نبصر".]] فضرب لهم عمودا من نور في وسط عسكرهم، أضاء عسكرهم كله، قالوا: فبم نستظل؟ فإن الشمس علينا شديده! قال: يظلكم الله بالغمام. [[الأثر: ٩٩٥ - إسحاق: هو ابن راهويه الإمام الكبير. إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل ابن منبه الصنعاني: ثقة، مترجم في التهذيب، ترجمة البخاري ١ /١ /٣٦٧، وابن أبي حاتم ١ / ١ /١٨٧. وهو يروي هنا عن عمه: عبد الصمد بن معقل بن منبه، وهو ثقة أيضًا، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ /٥٠. وعبد الصمد يروى عن عمه: وهب بن منبه، هذا الأثر.]] . ٩٩٦ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، فذكر نحو حديث موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي. ٩٩٧ - حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال عبد الله بن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن. [[درن الثوب يدرن درنا فهو درن وأدرن: تلطخ بالوسخ.]] قال، وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدا. * * * القول في تأويل قوله تعالى ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن تأويل الآية: وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فترك ذكر قوله:"وقلنا لكم"، لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه. وعنى جل ذكره بقوله: ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ : كلوا من شهيات رزقنا الذي رزقناكموه. [[في المطبوعة: "من مشهيات"، ليست بشيء.]] وقد قيل عنى بقوله: ﴿من طيبات ما رزقناكم﴾ : من حلاله الذي أبحناه لكم فجعلناه لكم رزقا. والأول من القولين أولى بالتأويل، لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم، فوصف ذلك ب"الطيب"، الذي هو بمعنى اللذة، أحرى من وصفه بأنه حلال مباح. و"ما" التي مع"رزقناكم"، بمعنى"الذي". كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه. * * * القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) ﴾ وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فخالفوا ما أمرناهم به وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم، و"ما ظلمونا"، فاكتفى بما ظهر عما ترك. وقوله: ﴿وما ظلمونا﴾ يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. ويعني بقوله: ﴿وما ظلمونا﴾ ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها. كما: - ٩٩٩ - حدثنا عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ﴿وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ قال: يضرون. * * * وقد دللنا فيما مضى، على أن أصل"الظلم": وضع الشيء في غير موضعه - بما فيه الكفاية، فأغنى ذلك عن إعادته. [[انظر ما مضى ١: ٥٢٣ - ٥٢٤، وهذا الجزء ٢: ٦٩.]] * * * وكذلك ربنا جل ذكره، لا تضره معصية عاص، ولا يتحيَّف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم، وحظها يبخس العاصي، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب