الباحث القرآني
القول في تأويل قوله: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو كالذي مر على قرية"، نظير الذي عنى بقوله:"ألم تر الذي حاج إبراهيم في ربه"، من تعجيب محمد ﷺ منه.
* * *
وقوله:"أو كالذي مر على قرية" عطف على قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإنما عطف قوله:"أو كالذي" على قوله:"إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما. لأن قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في ربه؟ = ثم عطف عليه بقوله:"أو كالذي مر على قرية" لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن خالف لفظه لفظه.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن"الكاف" في قوله،"أو كالذي مر على قرية"، زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مر على قرية.
* * *
وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. [[انظر ما سلف ١: ٤٣٩ -٤٤١ / ٢: ٣٣١، ٤٠٠.]] .
* * *
واختلف أهل التأويل في" الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها".
فقال بعضهم: هو عزير.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٨٢ - حدثنا محمد بن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناحية بن كعب."أو كالذي مر على قرية خاوية على عروشها" قال: عزير. [[الأثر: ٥٨٨٢ -"ناجية بن كعب الأسدي" روي عن علي، وعمار بن ياسر، وعبد الله ابن مسعود. روى عنه أبو إسحق السبيعي، وأبو حسان الأعرج، ويونس بن أبي إسحق. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/ ٢/ ١٠٧، وابن أبي حاتم ٤/ ١/٤٨٦.]] .
٥٨٨٣ - حدثنا ابن حميد. قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو خزيمة، قال: سمعت سليمان بن بريدة في قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: هو عزير.
٥٨٨٤ - حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد. قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها" قال، ذكر لنا أنه عزير.
٥٨٨٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده [مثله] . [[الزيادة بين القوسين لا بد منها.]] .
٥٨٨٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير.
٥٨٨٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج عن ابن حريج، عن عكرمة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها" قال: عزير.
٥٨٨٨ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السدي:"أو كالذي مر على قرية" قال: عزير.
٥٨٨٩ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها" إنه هو عزير.
٥٨٩٠ - حدثني يونس، قال: قال لنا سلم الخواص: كان ابن عباس يقول: هو عزير. [[الأثر: ٥٨٩٠ -"يونس"، هو يونس بن عبد الأعلى سلفت ترجمته مرارا. و"سلم الخواص" هو: سلم بن ميمون الخواص الرازى الزاهد، من كبار الصوفية. دفن كتبه، وكان يحدث من حفظه فيغلط. قال ابن حبان: كان من كبار عباد أهل الشام، غلب عليه الصلاح، حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فلا يحتج به. مترجم في لسان الميزان، وفي الجرح ٢/١/ ٢٦٧. وكان في المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.]] .
* * *
وقال آخرون: هو أورميا بن حلقيا، [[هو في كتاب القوم (إرميا) . وكان في المطبوعة مثله، ولكنى أثبت ما في المخطوطة لأنه مضى عليه في جميع ما يأتي، وكذلك كان يرسم في غيره من الكتب. انظر"سفر أرميا" في كتابهم.]] وزعم محمد بن إسحاق أن أورميا هو الخضر.
٥٨٩١ - حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: اسم الخضر= فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران. [[هذا القول رده الطبري ونقضه في تاريخه ١: ١٩٤، وما قبلها.]] .
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٩٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، أن أورميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها". [[الأثر: ٥٨٩٢ -هو بعض الأثر السالف رقم: ٥٦٦١.]] .
٥٨٩٣ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: هو أورميا.
٥٨٩٤ - حدثني محمد بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: سمعت عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، مثله.
٥٨٩٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها"، قال: كان نبيا وكان اسمه أورميا.
٥٨٩٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد، مثله.
٥٨٩٧ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن [مضر] ، قال: يقولون والله أعلم: إنه أورميا. [[الأثر: ٥٨٩٧ -في المطبوعة والمخطوطة بياض مكان ما بين القوسين وقد زدته استظهارا من الأسانيد السالفة. وقد مضت ترجمة"بكر بن مضر المصري" في رقم: ٢٠٣١، وانظر هذا الإسناد فيما سيأتي رقم: ٥٩٢٩ - ٥٩٤٩.]] .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجب نبيه ﷺ ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها-"أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك عزيرا، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت= من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب= [[السياق: " تعريف المنكرين ... من قريش ... ". وسياق ما بين الخطين: وإنما المقصود بها تعريف المنكرين ... وتثبيت الحجة ... ".]] وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيه محمدا ﷺ على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد ﷺ في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد ﷺ وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد ﷺ وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، [[يعنى بالأمي: الذي لا كتاب له، وانظر تفسير"الأمي" فيما سلف ٢: ٢٥٧ -٢٥٩.]] فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجَرِه، أن محمدا ﷺ لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قِيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في"القرية" التي مر عليها القائل:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
فقال بعضهم: هي بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
٥٨٩٨ - حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: لما رأى أورميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم، قال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
٥٨٩٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: هي بيت المقدس.
٥٩٠٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك.
٥٩٠١ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه بيت المقدس، أتى عليه عزير بعد ما خربه بخت نصر البابلي.
٥٩٠٢ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، أنه مر على الأرض المقدسة.
٥٩٠٣ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: القرية: بيت المقدس، مر بها عزير بعد إذ خربها بخت نصر. [[في المطبوعة: "بختنصر"، كلمة واحدة، وكذلك في التاريخ وغيره، ولكن المخطوطة في هذا الموضع وكل ما يليه كتبت كلمتين مفصولتين، فأثبتها كما هى، فهى صواب أيضًا.]] .
٥٩٠٤ - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أو كالذي مر على قرية" قال: القرية بيت المقدس، مر عليها عزير وقد خربها بخت نصر.
* * *
وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٠٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ ، قال: قرية كان نزل بها الطاعون= ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه، إلى أن بلغ= ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾ ، في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة، [[في الأثر السالف: ٥٦٠٨ -"ذهبوا إليه" بزيادة"إليه".]] فماتوا ثم أحياهم الله، ﴿إ ن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون﴾ [سورة البقرة: ٢٤٣] . قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر، فقال:"أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه" إلى قوله"لم يتسنه". [[الأثر: ٥٩٠٥ - هو بعض الأثر: ٥٦٠٨.]] .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل:"أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها" سواءً لا يختلفان.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وهي خاويه" وهي خالية من أهلها وسكانها.
* * *
يقال من ذلك:"خوَت الدار تخوِي خوَاء وخُوِيًّا"، وقد يقال للقرية:"خَوِيَت"، والأول أعرب وأفصح. وأما في المرأة إذا كانت نُفَساء فإنه يقال:"خَوِيَت تَخْوَى خَوًى" منقوصًا، وقد يقال فيها:"خَوَت تخوِي، كما يقال في الدار. وكذلك:"خَوِيَ الجوف يخوَى خوًى شديدًا"، [[في المطبوعة: "خواء شديدًا"، والصواب من المخطوطة، هذا على أنه يقال في ذلك أيضًا، "خواء" ممدودًا، ولكن القصر أعلى.]] ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابًا، غير أن الفصيح ما ذكرت.
* * *
وأما"العُرُوش"، فإنها الأبنية والبيوت، واحدها"عَرْش"، وجمع قليله"أعرُش". [[هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "أعرش"، والذي نص عليه أصحاب اللغة"أعراش"، وكلاهما جمع قلة، ولم يذكروا"أعرش" فيما رأيت، ولكنها قياس الباب، فإن"فعل" (بفتح فسكون) يغلب على جمعه في جمعه في القلة"أفعل" (بضم العين) مثل فلس وأفلس، إلا أن يكون أجوف، واويًا أو بائيًا، فإن الغالب في قلته"أفعال" مثل ثوب وأثواب، وبيت وأبيات. فعن هذا يتبين أن نص الطبري صحيح جار على قياس اللغة، وأن جمعه على"أعراش" مما شذ عن بابه.]] .
وكل بناء فإنه"عرش". ويقال:"عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش عرشًا"، [[في المطبوعة: "عرش فلان ويعرش ويعرش وعرش عريشًا"، وهو لا يستقيم، وإنما أراد تصحيح ما كان في المخطوطة فأفسده، وإذ لم يحسن قراءته، وفي المخطوطة: "عرش فلان إذا يعرش ويعرش عرشًا" ولكنه كتب أولا"تعرشا" غير منقوطة ثم عاد فوضع العين"ع" في رأس الكلمة"يعر"فلما رأي المصحح في النص"إذا" حذفها، وتصرف في سائره، ولم يحسن التصرف! .]] ومنه قول الله تعالى ذكره: ﴿وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ [سورة الأعراف: ١٣٧] يعني يبنون، ومنه قيل:"عريش مكه"، يعني به: خيامها وأبنيتها [[في اللسان: "العروش بيوت مكة" وفي حديث ابن عمر: " أنه كان يقطع التلبية إذا نظر إلى عروش مكة". قال ابن الأثير: "بيوت مكة، لأنها كانت عيدانًا تنصب ويظلل عليها" وقالوا: وهي بيوت أهل الحاجة منهم.]] .
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٠٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"خاوية"، خراب= قال ابن جريج: بلغنا أن عُزيرًا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرَّبه بخت نصَّر، [[انظر التعليق السالف ص: ٤٤٣ رقم: ١.]] فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلةِ والمال ما كان!! فحزن. [[في المطبوعة: "من المقدس"، وهو خطأ صرف، والقدس: الطهر والتنزيه والبركة.]] .
٥٩٠٧ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"وهي خاوية على عروشها" قال: هي خراب.
٥٩٠٨ - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: مرّ عليها عزير وقد خرَّبها بخت نصر.
٥٩٠٩ - حدثت موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وهي خاويه على عروشها" يقول: ساقطة على سُقُفِها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ﴾
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك فيما ذُكر لنا: [[في المطبوعة والمخطوطة: "ومعنى ذلك فيما ذكرت أن ... "، وهو لا يستقيم، وصواب السياق ما أثبت.]] .
أنّ قائله لما مرَّ ببيت المقدس = أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به = خرابا بعد ما عهدهُ عامرًا قال: أنَّى يحيي هذه الله بعد خرابها؟ [[في المطبوعة: ذكر نص الآية"بعد موتها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، ليكون تفسرا لقواه: "بعد موتها"، كما يدل عليه السياق. وانظر تفسير"الموت" بمعنى: خراب الأرض، ودثور عمارتها، فيما سلف ٣: ٢٧٤.]] .
فقال بعضهم: [[في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعضهم"، كأنه متصل بما قبله، ولو كان ذلك كذلك لفسد سائر الكلام واضطراب، ولاحتاج الطبري أن يذكر أقوال آخرين فيما يأتي، ولكنه لم يفعل.
فالصواب الذي يقتضيه السياق، فيما سبق بعد تصحيحه، وفيما يستقبل، يوجب ما أثبت.]] . كان قيله ما قال من ذلك شكًّا في قدرة الله على إحيائه.
فأراه الله قُدرته على ذلك يضربه المثلَ له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قُدرته على عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمرَ ما كان قبل خرابه. [[قوله: "أحيى ما رآه ... "و"أعمر ما كان ... "، هو"أفعل" التفضيل من"الحياة" و"العمارة"، وليسا فعلين، أي أحسن حياة، وأكثر عمرانا.]] .
* * *
وذلك أن قائل ذلك كان -فيما ذكر لنا- عهده عامرًا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويًا على عروشه، قد باد أهله، وشتَّتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحدٌ، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد للحال التي عهده عليها، قال: على أيّ وَجه يُحيي هذه الله بعد خرابها فيعمُرها، [[انظر تفسير"أني" فيما سلف ٤: ٤١٣ -٤١٦ /وهذا الجزء ٥: ٣١٢.]] . استنكارًا فيما -قاله بعض أهل التأويل- فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان في إدواته وفي طعامه، [[في المطبوعة: "وفيما كان من شرابه وطعامه"، لم يحسن قراءة المخطوطة لتصحيفها. وفي المخطوطة: "وفيما كان من إدا وبه وطعامه"، وصواب هذه الجملة المصحفة ما أثبت. والإداوة (بكسر الهمزة) : هي إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وجمعها"أداوى" بفتح الواو، وزدت"في" بين" وطعامه" لضرورتها في السياق.]] . ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره على إحيائه ما كان عجبًا عنده في قدرة الله إحياؤه رَأْيَ عينه حتى أبصره ببصره [[في المطبوعة: "بإظهاره إحياء ما كان عجبًا. لرأي عينه"، وفي المخطوطة: "بإظهاره إحيائه ما كان.." وسائره مثله. والصواب ما أثبت، وسياق العبارة: بإظهاره على إحيائه ذلك رأي عينه"، بحذف اللام من "لرأي"، ونصب "رأي" يقول: أظهره على إحياء ما أحيي رأي العين.]] ، فلما رأى ذلك قال: ﴿أعلمُ أنّ الله على كل شيء قدير﴾ .
* * *
وكان سبب قِيله ذلك، كالذي: -
٥٩١٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال الله لأرميا حين بعثه نبيًّا إلى بني إسرائيل: [[انظر ما سلف في ص ٤٤٠، وكتابتها هناك "أورميا"، وهي هنا كما أثبتها. وستأتي بعد أسطر على ما سلف.]] ."يا أرميا، من قبل أنْ أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوِّرك في رَحِم أمك قدَّستك، [[في تاريخ الطبري: "في بطن أمك"، سواء.]] . ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبَّيتُك، [[في المطبوعة: "نبأتك"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. ولأجود ترك الهمزة فيه، وحمله على لفظ"النبي" ونباه: جعله نبيا أو كتبه عنده نبيا. و"تنبى الكذاب"، إذا ادعى النبوة.]] . ومن قبل أن تبلغ الأشُدَّ اخترتك، [[في التاريخ: "اختبرتك"، وما في التفسير، هو الجيد الصواب. وسيأتي اختلاف في بعض اللفظ لا أقيده حتى أجده صالحا للتعيين.]] . ولأمر عظيم اجتبيتك، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالبر من الله فيما بينه وبينه؛ قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلّوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سَنْحاريب، فأوحى الله إلى أورميا: [[أثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع وانظر التعليق السالف رقم: ١.]] . أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكِّرهم نعمتي عليهم وعرِّفهم أحداثهم = ثم ذكر ما أرسل الله به أرميا إلى قومه من بني سرائيل = [[ما بين الخطين من كلام أبي جعفر، فقد قطع سياق الخبر، وانتقل إلي ما أراد، والذي يأتي يبدأ في تاريخه في ج ١: ٢٨٧.]] . قال: ثم أوحى الله إلى أرميا: إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث -ويافثُ أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح- فلما سمع أرميا وحيَ ربّه، صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يومٌ ولدت فيه، ويومٌ لُقِّيت فيه التوراة، [[في المطبوعة والمخطوطة: "لقيت التوراة"، وزدت"فيه" من التاريخ، وهي أجود. وفي التاريخ: "لقنت" من التلقين، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب جدا. لقي الشيء يلقاه (بتشديد القاف والبناء للمجهول) : علمه، ونبه إليه، ولقنه. فهما سواء في المعنى. وبذلك جاء في كتاب الله:
(وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .]] . ومن شر أيامي يومٌ ولدت فيه، فما أُبْقِيتُ آخرَ الأنبياء إلا لما هو شر علي! [[في المخطوطة: "إلا لما هو أشر على"، ولا بأس بها.]] . لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل! فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك! فلما سمع الله تضرُّع الخضر وبكاءه وكيف يقول، [["الخضر" هو"أرميا" نفسه، فيما زعم وهب بن منبه راوي هذا الأثر، كما سلف ذلك عنه في رقم: ٥٨٩١.]] . ناداه: أورميا! أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أُسَرّ به، [[في المخطوطة والمطبوعة: "أهلكنى في بني إسرائيل" سقط منها"قبل أن أروي"، وأثبت صوابها من التاريخ.]] . فقال الله: وعزتي العزيزة، [[في التاريخ: "وعزتي وجلالي" والذي في المخطوطة والمطبوعة قسم عزيز قلما أصبته فيما قرأت.]] . لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك! ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا! [[" لا آمر ربي" يعنى: لا أسأله ذلك ولا أدعوه. وهو مجاز من الأمر" جيد عربي فصيح، وقلما تصيبه في كتب اللغة، وقلما تصيب الشاهد عليه. وذلك أنه إذا دعا قال: "رب أهلكهم"، فذلك دعاء، وكل دعاء يقتضى هذا الفعل الأمر، وليس بأمر لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا المجاز في النفى، أجود منه في الإثبات. وانظر ما سيأتي في الخبر ص: ٤٥٠، وتعليق: ك ٤.]] . ثم أتى ملكَ بني إسرائيل، وأخبره بما أوحى الله إليه، ففرح واستبشر وقال: إن يعذِّبنا ربُّنا فبذنوب كثيرة قدَّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته.
= ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية، وتمادوا في الشر، [[في التاريخ: "وتماديا في الشر" وهو أجود.]] . وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلّ الوحيُ، حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة، [[في المطبوعة: "حتى لم يكونوا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو العربي الصحيح.]] . وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها، فقال ملكهم: يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسَّكم بأسٌ من الله، وقبل أن يُبعث عليكم ملوكٌ لا رحمة لهم بكم، [[في التاريخ: "وقيل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم".]] . فإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه! [[في المطبوعة: "رحيم من تاب عليه"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.]] . فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه، [["نزع عن الشيء ينزع نزوعا": كف وانتهى.]] . وإن الله ألقى في قلب بخت نصر بن نبوذراذان [بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ بن عابر = ونمروذ صاحب إبراهيم ﷺ، الذي حاجّه في ربّه] = [[في المطبوعة"بختنصر بن نعون بن زادان، والصواب من المخطوطة والتاريخ. وهذا الزيادة بين القوسين، لم تكن في المخطوطة، ولكنى زدتها من التاريخ، لحاجة الكلام إليها بعد في ذكر سنحاريب، وأنه جد بخت نصر. وقوله: "بن نبوذراذان" هو في كتاب القوم (بن نبو بولا سار) ، وأما"نبوذراذان"، فهو مذكور عندهم أنه رئيس حامية"بنو خذ ناصر"، وهو"بخت نصر". وهذا النسب قد ساقه الطبري قبل هذا الموضع في تاريخه ١: ٢٨٣ مع بعض الاختلاف.]] . أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس؛ فلما فصَل سائرًا، أتى ملكَ بني إسرائيل الخبرُ أن بخت نصّر أقبلَ هو وجنوده يريدكم. فأرسل الملك إلى أرميا، فجاءه فقال: يا أرميا، أين ما زعمت لنا أنّ ربنا أوحى إليك أن لا يُهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمرُ في ذلك؟ [[الأمر: الدعاء والسؤال. وانظر التعليق السالف ص: ٤٤٩، تعليق: ٤.]] .
[[في المطبوعة"وقد تمثل" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو جيد جدا.]] . فقال أرميا للملك: إنّ ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.
= فلما اقترب الأجل، ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله على هلاكهم، بعث الله مَلَكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى أرميا فاستفته = وأمره بالذي يستفتيه فيه.
فأقبل الملك إلى أرميا، وقد تمثَّل له رجلا من بني إسرائيل، [[في المطبوعة: "رجل ... " بحذف"أنا" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.]] . فقال له أرميا: من أنت؟ قال: رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال المَلَك: يا نبيَّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رَحِمي، وصلتُ أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حَسَنًا، ولم آلُهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي، فأفتني فيهم يا نبي الله؟ فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصِلْ ما أمرك الله به أن تصل، وأبشر بخير. فانصرف عنه الملَك؛ فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي! [[في التاريخ وحده: "أتيتك أستفتيك في شأن أهلي".]] . فقال له نبي الله، أو ما طهُرت لك أخلاقهم بعد، [[يقال: "رجل طاهر الأخلاق"، أي يتنزه عن دنس الأخلاق، ويكف عن الإثم.]] . ولم تر منهم الذي تحب؟ فقال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً يأتيها أحدٌ من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضلَ من ذلك! فقال النبي: ارجعْ إلى أهلك فأحسنْ إليهم، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، [[في التاريخ: "واسأل الله"، بالواو في أوله، وكأنه أمر للرجل. وأن يكون دعاء من النبي له، أقرب وأحسن.]] . وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنِّبكم سخطه! فقام الملك من عنده، فلبث أيامًا، وقد نزل بخت نصّر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد، [[في المطبوعة: "بجنوده"، وفي المخطوطة"جنوده" بغير واو، وأثبت ما في التاريخ، وفيه أيضًا: "بأكثر من الجراد".]] . ففزع بنو إسرائيل فزعًا شديدًا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا أرميا، فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق.
= ثم إن الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرتين، [[في التاريخ: "أتيتك في شأن أهلي ... ".]] . فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبلَ اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أنّ ما بهم في ذلك سخطي، [[في المطبوعة: "أنما قصدهم في ذلك سخطي"، وفي التاريخ: "أن مآ لهم في ذلك سخطي" وفي المخطوطة: "أنما نهم في ذلك سخطي"، والأول تبديل للنص، والآخران تصحيف، صوابه ما أثبت.
يقال: "ما بك إلا مساءتى"، أي ما تريد إلا مساءتى. فكذلك قوله: "أن ما بهم في ذلك سخطي"، أن الذي يريدون في فعلهم ذلك، سخطي واستثارة غضبى.]] . فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله، ولا يحبه الله، فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سَخَط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدَّ عليهم غضبي، [[في المطبوعة وحدها: "ولو كانوا ... " بالواو لا بالفاء.]] . وصبرتُ لهم ورَجوتهم، ولكن غضبتُ اليوم لله ولك، [[في المطبوعة وحدها: "ولكن غضبت ... ".]] . فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله -الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم. [[في المطبوعة وحدها: "الذي بعثك" بحذف"هو".]] . فقال أرميا: يا مالك السماوات والأرض، [[في المطبوعة وحدها: "يا مالك السموات ... ".]] . إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه، فأهلكهم! فلما خرجت الكلمة مِن فِيّ أرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهبَ مكان القُربان وخُسف بسبعة أبواب من أبوابها؛ فلما رأى ذلك أرميا صَاح وشق ثيابه، ونَبَذ الرَّماد على رأسه، فقال يا ملك السماء، ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي: أرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفُتياك التي أفتيتَ بها رسولنا، فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاثَ مرات، وأنه رسول ربه، فطار إرميا حتى خالط الوحوش. = ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرَّب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه، ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي؛ [[في المطبوعة: "تسعين ألف صبى"، وفي المخطوطة: "سبعين صبى" بإسقاط"ألف"، أما في التاريخ: "فاختار منهم مئة ألف صبى"، ولكنه عاد بعد ذلك فروي سيأتي: "وذهب بالصبيان السبعين الألف"، فأخشى أن يكون ما في التاريخ خطأ، صوابه"فاختار منهم سبعين ألف صبى من مئة ألف صبى".]] . فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمهم فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل! ففعل، فأصاب كل واحد منهم أربعةُ غلمة، وكان من أولئك الغلمان:"دانيال"، و"عزاريا"، و"ميشايل"، و"حنانيا". [["عزريا"، "ميشائيل"، "حننيا" هكذا رسم أسمائهم في"سفر دانيال" الإصحاح الأول. وكان في المطبوعة: "مسايل" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. وفي التاريخ بعد هذا الموضع تعداد هؤلاء الغلمان من أسباط بني إسرائيل.]] . وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثًا أقر بالشام، وثلثًا سَبَى، وثلثًا قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل. [[في المطبوعة وحدها: "بأسبية بيت المقدس"، وهو خطأ لا معنى له هنا.]] . وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، [[في المطبوعة والمخطوطة: "التسعين الألف". وهو يخالف ما مضى من الخبر في المخطوطة كما أسلفنا في التعليق: ١، وأثبت ما في التاريخ.]] . فكانت هذه الوقعةَ الأولى التي ذكر الله تعالى ذكره ببني إسرائيل، بإحداثهم وظلمهم. [[في المطبوعة وحدها: "الواقعة الأولى التي ذكر الله ... "، ثم يلي ذلك في المخطوطة والمطبوعة" ... تعالى ذكره نبي الله بإحداثهم ... "، والصواب من التاريخ.]] .
= فلما ولّى بخت نصر عنه راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصيرٌ من عنب في زُكْرَة وسَلَّة تين، [[الزكرة (بضم فسكون) : زق صغير من أدم يجعل فيه الشراب. وفي التاريخ"ركوة"، والصواب ما في التفسير، فإن"الركوة" (بكسر فسكون) : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، هو كالكوب لا كالزق.]] . حتى أتى إيليا، فلما وقف عليها، ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام وحماره وعصيرُه وسلة تينه عنده حيث أماته الله، وأمات حماره معه. [[في المطبوعة والمخطوطة: "ومات حماره معه"، وأثبت ما في التاريخ.]] . فأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد، ثم بعثه الله تعالى، فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قال: بل لبثتَ مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه"، يقول: لم يتغير ="وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا" فنظر إلى حماره يَاتَصِل بعضٌ إلى بعض - [[في المطبوعة وحدها: " يتصل بعضه إلى بعض"وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ وما سيأتي رقم: ٥٩٣٣، وفي التاريخ"يتصل" كالمطبوعة. وأما قوله: "ياتصل" وأصلها"يفتعل" من"وصل" فأصل الفعل"ارتصل، يوتصل، فهو موتصل"، فلغة أهل الحجاز وقريش خاصة: أن لا تدغم هذه الواو وأشباهها، وغيرها يدغم فيقول"ايتصل، ياتصل، فهو موتصل" ومن"وفق" يقول: "ايتفق ياتفق، فهو موتفق" وما أشبهه ذلك، وقد جرى الشافعي في الرسالة على استعمال ذلك. انظر الفقرات رقم ٩٥، ٥٦٩، ٥٧٤، ٦٦٢، ١٢٧٥، ١٣٣٣، وتعليق أخى السيد أحمد على الفقرة رقم ٩٥. وفي الحديث: "كان اسم نبله عليه السلام: الموتصلة"، سميت بذلك تفاؤلا بوصولها إلى العدو.
وانظر التعليق على الأثر رقم: ٥٩٣٣ فيما سيأتي.]] . وقد كان مات معه - [[في المطبوعة والمخطوطة: "وقد مات معه" بحذف"كان" وأثبت ما في التاريخ، وما سيأتي رقم: ٥٩٣٣.]] . بالعروق والعصب، ثم كيف كسي ذلك منه اللحمَ حتى استوى، [[في المطبوعة: "ثم كيف كسى ... "، وسيأتي في رقم: ٥٩٣٣، كما أثبته، وهو الصواب.]] . ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق، ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وَضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال: ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ . ثم عمَّر الله أرميا بعد ذلك، فهو الذي يُرَى بفلوات الأرض والبلدان.
٥٩١١ - حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: أوحى الله إلى أرميا وهو بأرض مصر: أن الحق بأرض إيليا، فإن هذه ليست لك بأرضِ مقامٍ، فركب حماره، حتى إذا كان ببعض الطريق، ومعه سلة من عنب وتين، وكان معه سقاءٌ جديدٌ فملأه ماء. فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القُرى والمساجد، ونظر إلى خراب لا يوصف، [[في المطبوعة والمخطوطة"ونظر إلى خراب" والصواب حذف هذه الواو، وانظر التعليق التالي.]] . ورأى هَدْمَ بيت المقدس كالجبل العظيم، قال: [[في المطبوعة: "ورأى هدم ... "، وفي المخطوطة: "وسياق المعنى يقتضى إثبات ما في المخطوطة، وحذف الواو من"ونظر" كما سلف في التعليق قبله.]] . أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ وسار حتى تبوَّأ منها منزلا فربط حماره بحبل جديد. وعلَّق سقاءه، وألقى الله عليه السُّبات؛ فلما نام نزع الله روحه مائة عام؛ فلما مرّت من المائة سبعون عامًا، أرسل الله مَلَكًا إلى مَلِك من ملوك فارس عظيم يقال له:يوسك"، [[لم أعرف صحة هذا الاسم ولم أجده في كتاب آخر.]] . فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمِّر بيت المقدس وإيليا وأرضها، حتى تعود أعمَر ما كانت، فقال الملك: أنظرني ثلاثه أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل، فأنظره ثلاثة أيام، فانتدب ثلاثمائة قَهْرَمان، ودفع إلى كل قَهْرَمَان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل، [[القهرمان: من أمناء الملك وخاصته، كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده، والقائم بأمور الرجل.]] . فسار إليها قهارمته، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل؛ [[في المطبوعة: "قهرمته"، والقهارمة جمع قهرمان.]] . فلما وقعوا في العمل، ردّ الله روح الحياة في عين أرميا، وآخِرُ جسده ميت، [[في المطبوعة: "وآخر جسده ميتا"، والصواب ما في المخطوطة في هذا الموضع، وفيما سيأتي في المخطوطة والمطبوعة رقم: ٥٩٣٨ وقوله: "آخر" هنا بمعنى: الباقى بعد رده الروح رأسه. وهو مجاز عربي لا يعاب. وانظر التعليق على رقم: ٥٩٣٨ فيما سيأتي بعد.]] . فنظر إلى إيليا وما حولها من القُرى والمساجد والأنهار والحُروث تعمل وتعمِّر وتتجدد، [[هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "والحروث"، وأخشى أن يكون الصواب: "والحراث" جمع حارث، وهو الذي يحرث الأرض.]] . حتى صارت كما كانت. وبعد ثلاثين سنة تمام المائه، رد إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة، [[الرمة (بضم الراء، أو كسرها، وتشديد الميم) : قطعة من حبل يقيد به الأسير، أو يوضع في عنق البعير، وأصحاب اللغة يقولون: هي القطعة البالية. ولكنه هنا استعملها بغير هذه الصفة، بل وصفها بأنها رمة جديدة، وهو جيد لا بأس به.]] . وقد أتى على ذلك ريحُ مائة عام، وبرد مائة عام، وحرُّ مائة عام، لم تتغير ولم تنتقض شيئًا، [[في المخطوطة والمطبوعة: "لم تنتقص" بالصاد المهملة، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
انتض الحبل وغيره، فسد ما أبرمت منه وضعت قواه وبليت. وقوله: "شيئا"، أي قليلا ولا كثيرا، وهو تعبير جيد في العربية.]] . وقد نحل جسم أرميا من البلى، فأنبت الله له لحمًا جديدًا، ونشز عظامه وهو ينظر، فقال له الله: ﴿انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف نُنْشِزها ثم نكسوها لحمًا فلما تبين لهُ قال أعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ . [[الأثر: ٥٩١١ -"محمد بن عسكر"، هو: محمد بن سهل بن عسكر البخاري، مضت ترجمته في رقم: ٥٥٩٨. و"ابن زنجويه" رجلان: محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي، روى عنه الأربعة وعبد الله بن أحمد وآخرون. مات سنه ٢٥٨. وهو ثقة كثير الخطأ،
والآخر: حميد بن مخلد بن قتيبة الأزدى، روى عنه أبو داود، والنسائي، وأبو زرعة، وأبو حاتم وغيرهم. كان حسن الفقه، وكتب ورحل، وكان رأسا في العلم، قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "ما قدم علينا من فتيان خراسان مثل ابن زنجويه وابن شبويه". اختلف في وفاته بين سنة ٢٤٧، إلى سنة ٢٥١.
وأطن هذا هو شيخ الطبري، ولعل فيما يأتي ما يرجح تعيينه إن شاء الله.]] .
٥٩١٢- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: ﴿أنّى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ : أن أرميا لما خُرِّب بيت المقدس وحُرِّقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال: ﴿أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام﴾ ثم ردّ الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة؛ فلما ذهبت المائة ردّ الله روحه وقد عمِّرت على حالها الأولى، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض، [[التأم الشيء يلتئم، والتام يلتام (بتسهيل الهمزة) : إذا انضم بعضه إلى بعض واجتمع.]] . ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبًا ولحمًا. فلما تبين له ذلك قال: ﴿أعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ فقال الله تعالى ذكره: ﴿انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه﴾ قال: فكان طعامه تينًا في مِكتل، وقلّة فيها ماء. [[الأثر: ٥٩١٢ -قد مضى مبتورا في رقم ٥٦٦١، وانظر التعليق عليه هناك. و"المكتل" (بكسر الميم) : الزبيل الذي يجعل فيه التمر أو العنب أو غيرهما.]] .
٥٩١٣ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها﴾ وذلك أن عُزَيْرًا مرّ جائيًا من الشام على حمار له معه عصيرٌ وعنب وتين؛ فلما مرّ بالقرية فرآها، وقف عليها وقلَّب يده وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ =ليس تكذيبًا منه وشكًّا= فأماته الله وأمات حِمارَه فهلكا، ومرّ عليهما مائة سنة. ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قيل له: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير = ﴿لم يتسنَّه﴾ ، الآية.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ﴿ثم بعثه﴾ ، ثم أثاره حيًّا من بعد مماته.
* * *
وقد دللنا على معنى"البعث"، فيما مضى قبل. [[انظر ما سلف ٢: ٨٤، ٨٥.]] .
* * *
وأما معنى قوله ﴿كم لبثت﴾ فإن"كم" استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد، [[انظر ما سلف في معنى"كم" في هذا الجزء ٥: ٣٥٢.]] . وهو في هذا الموضع نصب ب"لبثت"، وتأويله: قال الله له: كم قدرُ الزمان الذي لبثتَ ميتًا قبل أن أبعثك من مماتك حيًّا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثتُ ميتًا إلى أن بعثتني حيًّا يومًا واحدًا أو بعض يوم.
* * *
وذكر أن المبعوث هو أرميا، أو عزيرٌ، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر.
* * *
وإنما قال: ﴿لبثت يومًا أو بعض يوم﴾ لأن الله تعالى ذكره كان قبض رُوحه أول النهار، ثم ردّ روحه آخرَ النهار بعد المائة عام فقيل له: ﴿كم لبثت﴾ ؟ قال: لبثت يومًا؛ وهو يرى أنّ الشمس قد غربت. فكان ذلك عنده يومًا لأنه ذُكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتًا آخر النهار، وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: ﴿لبثت يومًا﴾ ، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: ﴿أو بعض يوم﴾ ، بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] ، بمعنى: بل يزيدون. [[انظر ما سلف في"أو" بمعنى"بل" ٢: ٢٣٥ -٢٣٧.]] . فكان قوله: ﴿أو بعض يوم﴾ رجوعًا منه عن قوله: ﴿لبثت يومًا﴾ .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩١٤ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يومًا أو بعض يوم﴾ ، قال: ذكر لنا أنه مات ضُحًى، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس، فقال: ﴿لبثت يومًا﴾ . ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: ﴿أو بعض يوم﴾ . فقال: ﴿بل لبثت مائة عام﴾ .
٥٩١٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: ﴿أنى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ قال: مر على قرية فتعجّب، فقال: ﴿أنّى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ فأماته الله أوّل النهار، فلبث مائة عام، ثم بعثه في آخر النهار، فقال: ﴿كم لبثت﴾ ؟ قال: ﴿لبثت يومًا أو بعض يوم﴾ ، قال: ﴿بل لبثت مائة عام﴾ .
٥٩١٦ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: قال الربيع: أماته الله مائة عام، ثم بعثه، قال: ﴿كم لبثت﴾ ؟ قال: ﴿لبثت يومًا أو بعض يوم﴾ . قال: ﴿بل لبثت مائة عام﴾ .
٥٩١٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: لما وقفَ على بيت المقدس وقد خرّبه بخت نصر، قال: ﴿أنّى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ ! كيف يعيدها كما كانت؟ فأماته الله. قال: وذكر لنا أنه مات ضُحى، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام، فقال: ﴿كم لبثت﴾ ؟ قال: ﴿يومًا﴾ . فلما رأى الشمس، قال: ﴿أو بعض يوم﴾ .
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ﴿فانطر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه﴾ لم تغيِّره السِّنون التي أتت عليه.
* * *
وكان طعامه -فيما ذكر بعضهم- سلة تين وعنب، وشرابه قلة ماء.
وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين، وشرابه زِقًّا من عصير. [[في المخطوطة والمطبوعة: " زق" بالرفع، والنصب أجود.]] .
وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دَنَّ خمر -أو زُكْرَةَ خمر. [[الزكرة (بضم فسكون) : سقاء صغير من أدم يجعل فيه شراب أو خل.]] .
وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك، [[يعنى الآثار التي سلفت في خبر"الذي مر على القرية".]] . ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله.
* * *
وأما قوله: ﴿لم يتسنَّه﴾ ففيه وجهان من القراءة:
أحدهما:"لَمْ يَتَسَنَّ" بحذف"الهاء" في الوصل، وإثباتها في الوقف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في"يتسنَّه" زائدة صلة، [["صلة" أي زيإدة وحشوا بمعنى الإلغاء، انظر ما سلف ١: ١٩٠، ٤٠٥، تعليق: ٤/ ٤٠٦ تعليق: ٢ثم: ٥٤٨.]] . كقوله: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] وجعل"تفعّلت" منه: [[في المطبوعة: "فعلت" وهو خطأ، وأما المخطوطة، فقد كتب الناسخ هذه الكلمة مضطربة فلم يحسن ناشر المطبوعة أن يقرأها على وجهها، وسيأتي بعد قليل جدا ذكر"تفعلت"، هذه، مما يدل على صواب قراءتنا.]] ."تسنَّيتُ تسنِّيًا"، واعتل في ذلك بأن"السنة" تجمع سنوات، فيكون"تفعلت" على صحة. [[في المطبوعة: "على نهجه" والصواب في المخطوطة: "على صحه"، ولكنها لما كانت غير منقوطة تصرف الطابع فيها ما شاء! ! وفي معاني القرآن للفراء واللسان"على صحة" فلذلك أثبتها منهما.]] .
ومن قال في"السنة""سنينة" فجائز على ذلك = وإن كان قليلا = أن يكون"تسنَّيت" [[في المطبوعة: "تسننت" بالنونات، والصواب ما أثبت من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء.]] ."تفعَّلت"، بدّلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا:"تظنَّيت" وأصله"الظن"؛ وقد قال قوم: هو مأخوذ من قوله: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦، ٢٨، ٣٣] وهو المتغير. وذلك أيضًا إذا كان كذلك، فهو أيضًا مما بُدِّلت نونه ياء. [[هذا برمته من كلام الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٢، ١٧٣ واللسان (سنة) مع قليل من الخلاف في بعض اللفظ٠٠]] .
وهو قراءة عامة قراء الكوفة.
* * *
والآخر منهما: إثبات"الهاء" في الوصل والوقف. ومن قرأه كذلك، فإنه يجعل"الهاء" في"يتسنَّه" لامَ الفعل، ويجعلها مجزومة ب"لم"، ويجعل"فعلت" منه:"تسنَّهت"، و"يفعل":"أتسنَّه تسنُّها"، [[أراد هنا بقوله"فعل"و"يفعل" الماضي والمضارع، وهو غير قوله"تفعلت" السالفة التي صححناها كما جاء في ص: ٤٦٠، التعليق رقم: ٣.]] وقال في تصغير"السنة":"سُنيهة" و"سنيَّة"،"أسنيتُ عند القوم" و"أسنهتُ عندهم"، إذا أقمت سنة. [[في المطبوعة حذف وزيادة وتغيير، كان فيها: "وقال في تصغير السنة سنيهه، ومنه: أسهنت عند القوم وتسهنت عندهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو أيضًا صواب، وإن كانت الشبهة قد دخلت عليه من ذكر"سنية" و"أسنيت"، ولكن جائز أن يكون قائل هذا القول ممن يرى جواز كليهما، فلذلك أثبته كما كان في المخطوطة، ولا يبدل إلا بحجة، وسيأتي كلام الطبري بعد قليل: "أن ذلك وجه صحيح في كلتا الحالتين".]] .
وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك إثباتُ"الهاء" في الوصل والوقف، لأنها مثبتةٌ في مصحف المسلمين، ولإثباتها وجهٌ صحيح في كلتا الحالتين في ذلك.
* * *
ومعنى قوله: ﴿لم يتسنَّه﴾ ، لم يأت عليه السنون فيتغيَّر، على لغة من قال:"أسنهت عندكم أسْنِه": إذا أقام سنة، وكما قال الشاعر: [[سويد بن الصامت الأنصاري، ويقال: أحيحة بن الجلاح.]] .
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّةٍ ... وَلكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوائِحِ [[معاني القرآن للفراء ١: ١٧٣. والأمالى ١: ٢١، وسمط اللآلى: ٣٦١، وتهذيب الألفاظ: ٥٢٠، واللسان (عرا) (قرح) (سنه) (خور) (رجب) ، والإصابة في ترجمته، من أبيات يقولها في دين كان قد أدانه فطولب به، فاستغلت في قضائه بقومه فقصر واعنه. وترتيبها فيها أستظهر: وَأَصْبَحْتُ قد أنكَرْتُ قوْمِي كَأَنَّنِي ... جَنَيْتُ لَهُمْ بالدَّيْنِ إحْدَى الفَضَائِحِ
أَدِينُ، وَمَا دَيْنِي عَلَيْهِم بِمَغْرَمٍ ... وِلكِنْ عَلَى الشُّمِّ الجِلاَدِ القَرَاوِحِ
عَلَى كُلِّ خَوَّارٍ، كَأَنَّ جُذُوعَها ... طُلِينَ بِقَارٍ أوْ بِحَمْأَةِ مَائِحِ
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلاَ رُجَّبِيَّةٍ ... وَلَكنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الجَوَائِحِ
أَدِينُ عَلَى أَثْمَارِهَا وَأُصُولِهَا ... لِمَوْلًى قَرِيبٍ أو لآخَرَ نَازِحِ
دان يدين: استقرض مالا. والشم: الطوال. والجلاد: الشديدة الصبر على العطش والحر والبرد، يعنى النخل. والقراوح جمع قراوح: وهي النخلة التي انجرد كربها وطالت، وذلك أجود لها. والخوار: الغزيرة الحمل. وجعلها مطلية بالفار أو بالحمأة، لأن جذوعها إذا كانت كذلك فهو أشد لها وأكرم. والمائح: الذي يمتاح من البئر، أي يستقي. والسنهاء: التي حملت عاما، ولم تحمل آخر، وهذا من عيب النخل. وقوله: "رجبية" (بضم الراء وتشديد الجيم المفتوحة، أو فتحها بغير تشديد) وكلتاهما نسبة شاذة إلى الرجبة (بضم فسكون) : وذلك أن تعمد النخلة الكريمة إذا خيف عليها أن تقع لطولها وكثر حملها، فيبني تحتها دكان ترجب به -أي تعمد به. وذلك حين تبلغ إلى الضعف، ولكنه يكرمها بذلك. والعرايا جمع عربة: وهي التي يوهب ثمرها في عامها. يفعل بها ذلك لكرمه. والجوائح: السنين المجدبة الشداد التي تجتاح المال.
يقول لقومه: قد جئت أستدينكم، على أن أؤدي من نخلي ومالي، ففيم الجزع؟ أتخافون أن يكون ديني مغرما تغرمونه! ! وهذه نخلي أصف لكم من جودتها وكرمها ما أنتم به أعلم.]] فجعل"الهاء" في"السنة" أصلا وهي اللغة الفصحى.
* * *
وغير جائز حذف حرف من كتاب الله = في حال وقف أو وصل = لإثباته وجه معروف في كلامها.
فإن أعتلّ معتلٌ بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هنّ زوائد على نية الوقف، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهنّ، وذلك كقوله: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] وقوله: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٥] فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد، وأنه ألحق على نية الوقف. فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غيرَ زائد، فغير جائز = وهو في مصحف المسلمين مثبتٌ = صرفُه إلى أنه من الزوائد والصلات. [[انظر معنى"الصلة" فيما سلف قريبا ص: ٤٦٠ تعليق: ٢.]] .
على أن ذلك، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد، [[في المطبوعة: "وإن كان زائدا"، والصواب ما في المخطوطة.]] . فإن العرب قد تصل الكلام بزائد، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع، فيكون وَصْلها إياه وقطعُها سواء. وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات"الهاء" في الوصل والوقف. غير أنّ ذلك، وإن كان كذلك، فلقوله: ﴿لم يتسنّه﴾ حكمٌ مفارقٌ حكمَ ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه. [[في المطبوعة: "ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه" بالتذكير، وهو صواب جدا، ولكن لا أدرى لم غير نص المخطوطة.]] .
* * *
ومما يدل على صحة ما قلنا، من أن"الهاء" في"يتسنه" من لغة من قال:"قد أسنهت"، و"المسانهة"، ما:-
٥٩١٨ - حدثت به عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا ابن مهدي، عن أبي الجراح، عن سليمان بن عمير، قال: حدثني هانئ مولى عثمان، قال: كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت، فقال زيد: سله عن قوله:"لم يتسنّ"، أو"لم يتسنَّه"، فقال عثمان: اجعلوا فيها"هاء".
٥٩١٩ - حدثت عن القاسم = وحدثنا محمد بن محمد العطار، عن القاسم، وحدثنا أحمد والعطار = جميعًا، عن القاسم، قال: حدثنا ابن مهدي، عن ابن المبارك، قال: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري، قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيها:"لَمْ يَتَسَنَّ" و"فَأَمْهِلِ الْكَافِرِين" [الطارق: ١٧] و"لا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ" [الروم: ٣٠] .
قال: فدعا بالدواة، فمحا إحدى اللامين وكتب ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ ومحا"فأمْهِلْ" وكتب ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ﴾ وكتب: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ ألحق فيها الهاء. [[الأثر: ٥٩١٨ -"هانئ" هو هانئ البربري، مولي عثمان بن عفان مترجم في الكبير ٤/ ٢/ ٢٢٩، وابن أبي حاتم ٤/ ٢/ ١٠٠، وسليمان بن"، روي عن هانئ مولي عثمان روى عنه عبد الله بن المبارك. مترجم في الكبير ٢/ ٢/ ٣٠، وابن أبي حاتم ٢/ ١/ ١٣٣. أما"أبو الجراح" فلم أعرفه، وانظر الأثر التالي، فإني أخشى أن يكون إسنادهما قد اختلط، فإن ابن المبارك هو الذي يروي عن"سليمان بن عمير". وانظر الدر المنثور ١: ٣٢٣.]] .
* * *
قال أبو جعفر: ولو كان ذلك من"يتسنى" أو"يتسنن" لما ألحق فيه أبيّ"هاء" لا موضع لها فيه، [[في المخطوطة: "لما ألحق فيه أبي هو لا موضع فيه" هذا فاسد، والذي في المطبوعة مستقيم.]] ولا أمرَ عثمان بإلحاقها فيها.
وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبيّ بن كعب.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿لم يتسنَّه﴾ .
فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٢٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن المفضل، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه: ﴿لم يتسنَّه﴾ لم يتغير.
٥٩٢١ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿لم يتسنَّه﴾ لم يتغير.
٥٩٢٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
٥٩٢٣ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه﴾ يقول:"فانظر إلى طعامك" من التين والعنب ="وشرابك" من العصير ="لم يتسنه"، يقول: لم يتغير فيحمُض التين والعنب، ولم يختمر العصير، هما حُلوان كما هما. وذلك أنه مرّ جائيًا من الشام على حمار له، معه عصير وعنب وتين، فأماته الله، وأمات حماره، ومر عليهما مائة سنة. [[الأثر: ٥٩٢٣ -هو تمام الأثر السالف رقم: ٥٩١٣.]] .
٥٩٢٤ - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه﴾ يقول: لم يتغير، وقد أتى عليه مائة عام.
٥٩٢٥ - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
٥٩٢٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ﴿لم يتسنه﴾ لم يتغير.
٥٩٢٧ - حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة: ﴿لم يتسنه﴾ لم يتغير.
٥٩٢٨ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ﴿لم يتسنه﴾ لم يتغير في مائة سنة.
٥٩٢٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين خرّبها بخت نصر، فخرج منها إلى مصر فكان بها. فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس. فأتاها فإذا هي خربة، فنظر إليها فقال:"أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها"؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، فإذا حمارُه حي قائم على رباطه، وإذا طعامه سَلُّ عنب وسَلُّ تين، لم يتغير عن حاله = [[الرباط: ما ربط به، وأراد هنا الموضع الذي ربط فيه، وهو المربط. و"السل والسلة"، سواء: وهو الجؤنة التي يحمل فيها الخبز وغيره. ويقال"سل" جمع"سلة"، وهو من الجموع العزيزة، لأنه مصنوع غير مخلوق، لا يكون الفارق بينه وبين واحده التاء، مثل عنب وعنبه، وبر وبرة.]] .
قال يونس: قال لنا سلم الخواص: [[في المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وهو سلم بن ميمون الخواص، مضت ترجمته في رقم: ٥٨٩٠.]] . كان طعامه وشرابه سل عنب، وسل تين، وزِقَّ عصير.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٣٠ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ﴿لم يتسنه﴾ لم ينتن.
٥٩٣١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٥٩٣٢ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، قال مجاهد قوله: ﴿إلى طعامك﴾ قال: سَلُّ تين = ﴿وشرابك﴾ ، دنُّ خمر = ﴿لم يتسنه﴾ ، يقول: لم ينتن.
* * *
قال أبو جعفر: وأحسب أن مجاهدًا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما، [[لم يذكر الطبري خبرا عن"الربيع" قبل، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ خبره، وقد مضى قول الربيع في تفسير بعض هذه الآية فيما سلف بإسناده رقم: ٥٩١٦.]] . رأوا أن قوله: ﴿لم يتسنه﴾ من قول الله تعالى ذكره: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦، ٢٨، ٣٣] بمعنى المتغير الريح بالنتن، من قول القائل:"تسنَّن". وقد بينت الدلالة فيما مضى على أنّ ذلك ليس كذلك. [[انظر ما سلف، ص: ٤٦٠.]] .
فإن ظن ظانّ أنه من"الأسَن" من قول القائل:"أسِنَ هذا الماء يأسَنُ أسَنًا، كما قال الله تعالى ذكره: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ [محمد: ١٥] ، فإنّ ذلك لو كان كذلك، لكان الكلام: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسَّن، ولم يكن"يتسنه".
* * *
[فإن قيل] : [[ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام.]] . فإنه منه، غير أنه ترك همزه.
قيل: فإنه وإن ترك همزه، فغير جائز تشديدُ نونه، لأن"النون" غير مشددة، وهي في"يتسنَّه" مشددة، ولو نطق من"يتأسن" بترك الهمزة لقيل:"يَتَسَّنْ" بتخفيف نونه بغير"هاء" تلحق فيه. ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من "الأسَن".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ﴿وانظر إلى حمارك﴾ .
فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارَك، وإلى عظامه كيف أنشِزها ثم أكسوها لحمًا.
ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويلَ.
فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له، بعد أن أحياه خلقًا سويًّا، ثم أراد أن يحيي حماره = تعريفًا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها، فقال: ﴿أنى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ ؟ = مستنكرًا إحياء الله إياها.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٣٣ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: بعثه الله فقال: ﴿كم لبثت قال لبثتُ يومًا أو بعض يوم﴾ إلى قوله: ﴿ثم نكسوها لحمًا﴾ قال: فنظر إلى حماره ياتصل بعضٌ إلى بعض = [[في المطبوعة: "يتصل بعض إلى بعض"، وقد مضى في رقم ٥٩١٠، أن المخطوطة هناك"ياتصل"، وعلقت عليها في ص: ٤٥٤، تعليق: ٢ وقد جاءت هنا في المخطوطة"ياتصل" أيضًا، فهذا حجة قاطعة على صواب نص المخطوطة في هذين الموضعين المتابعدين. فراجع ما كتب هناك.]] . وقد كان مات معه = بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: ﴿أعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ . [[الأثر: ٥٩٣٣ -هو آخر الأثر السالف رقم: ٥٩١٠.]] .
٥٩٣٤ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن الله أحيا عُزيرًا، فقال: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، وانظر إلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا.
فبعث الله ريحًا، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع، فاجتمعت، فركّب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارًا من عظام ليس له لحمٌ ولا دمٌ. ثم إن الله كسا العظام لحمًا ودمًا، فقام حمارًا من لحم ودم وليس فيه روح. ثم أقبل مَلَكٌ يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار، فنفخ فيه فنهق الحمار، فقال: ﴿أعلم أنه الله على كل شيء قديرٌ﴾ .
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوله قائلُ هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا، ولنجعلك آية للناس = فيكون في قوله: ﴿وانظر إلى حمارك﴾ ، متروك من الكلام، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره، وتكون الألف واللام في قوله: ﴿وانظر إلى العظام﴾ بدلا من"الهاء" المرادة في المعنى، لأن معناه: وانظر إلى عظامه - يعني: إلى عظام الحمار.
* * *
وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه. [[في المطبوعة: "في عينه" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة.]] . قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سواه خلقًا سويًّا، وقبل أن يحيى حماره.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٣٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان هذا رجلا من بني إسرائيل نُفخ الروح في عينيه، فينظر إلى خلقه كله حين يحييه الله، [[في المطبوعة: "فنظر"، وفي المخطوطة: "فنظر" غير منقوطة والصواب كما قرأتها لك.]] . وإلى حماره حين يحييه الله.
٥٩٣٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
٥٩٣٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح، ثم بعظامه فأنشزها، ثم وَصَل بعضها إلى بعض، ثم كساها العصب، ثم العروق، ثم اللحم. ثم نظر إلى حماره، فإذا حماره قد بَلي وابيضَّت عظامه في المكان الذي ربطه فيه، فنودي:"يا عظام اجتمعي، فإن الله منزلٌ عليك روحًا"، فسعى كل عظم إلى صاحبه، فوصل العظام، ثم العصب، ثم العروق. ثم اللحم، ثم الجلد، ثم الشعر، وكان حماره جَذَعًا، فأحياه الله كبيرًا قد تشنَّن، [[الجذع (بفتحتين) : الصغير السن من الحيران وغيره. وتشنن الجلد والسقاء: إذا يبس وتشنج من القدم أو من الهرم.]] . فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن. وكان طعامه سَلَّ عنب، وشرابه دَنَّ خمر. قال ابن جريج عن مجاهد: نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله.
* * *
وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره، وجسدُه ميتٌ، [[في المطبوعة والمخطوطة: "وجسده ميتا"، وهو خطأ، ويدل على صواب ما أثبت، الآثار التالية.]] . فرأى حماره قائمًا كهيئته يوم ربطه، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حَلَّ البقعة. ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٣٨ - حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: ردَّ الله روح الحياة في عين أرْميا وآخرُ جسده ميت، [[يعنى بقوله: "وآخر جسده ميت"، أي سائره وباقيه، وقد جاءت هذه الكلمة هنا على الصواب في المطبوعة والمخطوطة، وقد مضت في المطبوعة في الأثر رقم: ٥٩١١، محرفة، فهذا دليل آخر على صواب قراءتنا للنص.]] . فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه، لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير، جديدةً. [[الأثر: ٥٩٣٨ -انظر الأثر السالف رقم: ٥٩١١، والتعليق عليه.]] .
٥٩٤٠ - حدثت عن الحسين، قال: [[في المطبوعة والمخطوطة: "الحسن"، وهو خطأ، بل هو"الحسين بن الفرج"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: ٥٩٢٤.]] . سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿فأماته الله مائة عام ثم بعثه﴾ ، فنظر إلى حماره قائمًا قد مكث مائة عام، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام، ﴿وانظر إلى العظام كيف نُنشرها ثم نكسوها لحمًا﴾ فكان أول شيء أحيا الله منه رأسَه، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يُخلق.
٥٩٤١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: ﴿فأماته الله مائة عام ثم بعثه﴾ فنظر إلى حماره قائمًا، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير، فكان أول شيء خلق منه رأسه، فجعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض. فلما تبيَّن له، قال: ﴿أعلم أنَّ الله على كل شيء قدير﴾ .
٥٩٤٢ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذُكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسَه، ثم ركبت فيه عيناه، ثم قيل له: انظر! فجعل ينظر، فجعلت عظامه تَواصَلُ بعضها إلى بعض، وبِعَيْن نبيّ الله عليه السلام كان ذلك، فقال: ﴿أعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ .
٥٩٤٣ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك﴾ وكان حماره عنده كما هو = ﴿ولنجعلك آيه للناس﴾ ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها) . قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه، ثم قيل انظر! فجعل ينظر إلى العظام يَتواصل بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقال: [[في المخطوطة والمطبوعة: "فقيل: أعلم ... "، وهو سبق قلم من الناسخ.]] . ﴿أعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ .
٤٦٤٤ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن زيد قال قوله: ﴿وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك﴾ واقفًا عليك منذ مائة سنة = ﴿ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام﴾ يقول: وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا:"كيف نحيي هذه"؟ [[في المطبوعة: "كيف نحيى هذه الأرض بعد موتها"، وليس ذلك في المخطوطة، بل الذي أثبت، وهما سواء.]] . قال: فجعل الله الروح في بصره وفي لسانه، ثم قال: ادع الآن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح، وانظر ببصرك. قال: فكان ينظر إلى الجمجمة. قال: فنادى: ليلحق كل عظم بأليفه. قال: فجاء كل عظم إلى صاحبه، حتى اتصلت وهو يراها، حتى أن الكِسْرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه، فتلصَقُ به حتى وصل إلى جمجمته، وهو يرى ذلك. فلما اتصلت شدها بالعصب والعروق، وأجرى عليها اللحم والجلد، ثم نفخ فيها الروح، ثم قال: ﴿انظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمًا﴾ فلما تبين له ذلك، ﴿قال أعلم أن الله على شيء قدير﴾ . قال: ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال: ﴿أنَّى يُحيي هذه الله بعد موتها﴾ كما نادى عظام نفسه، ثم أحياها الله كما أحياهُ.
٥٩٤٥ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات أرميا مائة عام، ثم بعثه، [[في المطبوعة: "أرميا"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد سلف مثل ذلك مرارا، حتى في الأثر الواحد، انظر ما سلف -ص: ٤٤٨ تعليق: ١.]] فإذا حمارُه حيٌّ قائمٌ على رباطه. قال: وردَّ الله إليه بصره، وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله. قال: فيقولون والله أعلم: إنه الذي قال الله تعالى ذكره: ﴿أوْ كالذي مرّ على قرية وهي خاوية ... ﴾ ، الآية. [[عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت منه نسختنا، وفيها ما نصه:
" يتلوهُ: ومعنى الآية على تأويل هؤلاء:
وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس.
* * *
وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وآله وصحبه وسلم كثيرًا"
ثم يبدأ بعده بما نصه:
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم".]] .
* * *
ومعنى الآية على تأويل هؤلاء: وانظر إلى حمارك، ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها، ثم نكسوها لحمًا، فنحييها بحياتك، فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قولُ من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل: ﴿أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانًا من نفسه وطعامه وحماره. فحمل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاويةً على عروشها، وجعل ما أراه من العِبرة في طعامه وشرابه، عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجِنانها. وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأنّ قوله: ﴿وانظر إلى العظام﴾ إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزُها، ثم نكسوها لحمًا.
وقد كان حماره أدركه من البلى = في قول أهل التأويل جميعًا = نظيرُ الذي لحق عظامَ من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف معنى قوله: ﴿وانظر إلى العظام﴾ إلى أنه أمرٌ له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار. وإذْ كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمرُ بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه، لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرةً وعظةً.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ﴿ولنجعلك آيه للناس﴾ أمتناك مائة عام ثم بعثناك.
وإنما أدخلت"الواو" مع اللام التي في قوله: ﴿ولنجعلك آيه للناس﴾ وهو بمعنى"كي"، لأن في دخولها في كي وأخواتها دِلالة على أنها شرطٌ لفعلٍ بعدها، بمعنى: ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك. [[انظر معاني القرآن ١: ١٧٣.]] . ولو لم تكن قبل"اللام" أعني"لام" كي"واو"، كانت"اللام" شرطًا للفعل الذي قبلها، وكان يكون معناه: وانظر إلى حمارك، لنجعلك آية للناس.
* * *
وإنما عنى بقوله: ﴿ولنجعلك آية﴾ ، ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي، وشكَّ في عظمتي، [[انظر معنى"آية" فيما سلف في هذا الجزء ٥: ٣٧٧، والتعليق: ٢، ومراجعه هناك.]] . وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بيدي ذلك كلُّه، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري.
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس، بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده، شابًّا وهم شيوخ.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٤٦ - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان، قال: سمعت الأعمش يقول: ﴿ولنجعلك آيه للناس﴾ قال: جاء شابًّا وولده شيوخ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لمن قدِم عليه من قومه.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٤٧ - حدثني موسى، قال، حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: رجع إلى أهله، فوجد داره قد بيعت وبُنيت، وهلك من كان يعرفه، فقال: اخرجوا من داري! قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عزير! قالوا: أليس قد هلك عزيرٌ منذ كذا وكذا!! قال: فإن عزيرًا أنا هو، كان من حالي وكان! فلما عرفوا ذلك، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: أن الله تعالى ذكره، أخبر أنه حمل الذي وصف صفته في هذه الآية حُجة للناس، فكان ذلك حُجة على من عرفه من ولده وقوْمه ممن علم موته، وإحياءَ الله إياه بعد مماته، وعلى من بُعث إليه منهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾
قال أبو جعفر: دللنا فيما مضى قبلُ على أنّ العظام التي أمِر بالنظر إليها، هي عظام نفسه وحماره، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته.
* * *
وأما قوله: ﴿كيف ننشزُها﴾ فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأ بعضهم: ﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾ بضم النون وبالزاي، وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركّب بعضها على بعض، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم.
* * *
وأصل"النشوز": الارتفاع، [[جاء في المطبوعة والمخطوطة "وأصل النشز": الارتفاع"، وأنا أرى صوابه: "النشوز"، لأنه هو المصدر، ولا مصدر لهذا الفعل غيره في رواية أهل اللغة، ومحال أن يدع الطبري المعروف إلى المجهول. والمخطوطة في هذا الوضع سيئة جدا، كثيرة التصحيف والإهمال، وبحضه لم أشر إليه لشدة وضوحه، وفساد خط كاتبه وإهماله، كما ترى في التعليق التالي.]] . ومنه قيل:"قد نشز الغلام"، إذا ارتفع طوله وشبَّ، ومنه"نشوز المرأة" على زوجها. [[في المخطوطة: "وفيه نشور المرأة على وجهها"، وهذا دليل على شدة إهماله.]] . ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض:"نَشَز ونَشْز ونشاز"، [[في المخطوطة: "نشر ونشره ونشاره"، وهو خطأ كله، والصواب ما أثبت.]] . فإذا أردت أنك رفعته، قلت:"أنشزته إنشازًا"، و"نشز هو"، إذا ارتفع.
* * *
فمعنى قوله: ﴿وانظر إلى العظام كيف ننشزها﴾ في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعُها من أماكنها من الأرض فنردُّها إلى أماكنها من الجسد. [[في المخطوطة: "فبرزها إلى أماكنها"، وهو فاسد. وفي المطبوعة: " الجسم"، ورددته إلى المخطوطة.]] .
* * *
وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٤٨ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: ﴿كيف ننشزها﴾ كيف نُخرجها.
٥٩٤٩ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿كيف ننشزها﴾ قال: نحرِّكها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا" بضم النون. قالوا: من قول القائل،"أنشرَ الله الموتى فهو يُنشِرهم إنشارًا"، وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها، ثم نكسوها لحمًا.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٥٠ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كيف نُنشِرها" قال: انظر إليها حين يحييها الله. [[في المخطوطة والمطبوعة: "نظر إليها"، والصواب ما أثبت.]] .
٥٩٥١ - حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٥٩٥٢ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.
٥٩٥٣ - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وانظر إلى العظام كيف نُنشرُها" قال: كيف نحييها.
* * *
واحتج بعض قرَأة ذلك بالراء وضم نون أوله، بقوله: ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ [عبس: ٢٢] ، فرأى أنّ من الصواب إلحاق قوله:"وانظر إلى العظام كيف ننشرها" به. [[هو ابن عباس، فيما روى الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٣.]] .
* * *
وقرأ ذلك بعضهم:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا"، بفتح النون من أوله وبالراء. كأنّه وجّه ذلك إلى مثل معنى: نَشْرِ الشيء وطيِّه. [[هو الحسن، فيما روى الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٣.]] . وذلك قراءة غير محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول:"أنشر الله الموتى"، فنشروا هم" بمعنى: أحياهم فحيُوا هم. ويدل على ذلك قوله: ﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ وقوله: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢١] ؛ [[سقت الآية بتمامها، وفي المطبوعة والمخطوطة: "آلهة من الأرض هم ينشرون".]] .. وعلى أنه إذا أريد به حَيِي، الميت وعاش بعد مماته، قيل:"نَشَر"، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: [[في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط: "ومنه"، وهو غير مستقيم.]] .
حَتَّى يَقُولَ النَّاسَ مِمَّا رَأَوْا: ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ [[ديوانه: ١٠٥، وسيأتي في التفسير ١٩: ١٤ / ٢٥: ٣٢ / ٣٠: ٣٦ (بولاق) وهو في أكثر الكتب، وقد مضى بيتان منها في ١: ٤٧٤، تعليق: ٢ /٣: ١٣١. وقبله يذكر صاحبته، فأجاد وأبدع: عَهْدِي بِهَا فِي الحَيِّ قَدْ سُرْبِلَتْ ... هَيْفَاءَ مِثْلَ المُهْرَةِ الضَّامِرِ
قَدْ نَهَدَ الثَّدْيُ عَلَى نَحْرِهَا ... فِي مُشْرِقٍ ذِي صَبَحٍ نَاثِرِ
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلى قَابِرِ
حتَّى يَقُولَ الناسُ. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الصبح (بفتحتين) بريق اللون والحلى والسلاح، تراه مشربًا كالجمر يتلألأ. ونائر: نير. يقال: "نار الشيء فهو نير ونائر" و"أنار فهو منير".]] وروي سماعًا من العرب:"كان به جَرَبٌ فنَشَر"، إذا عاد وَحَيِيَ. [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٠.]] .
* * *
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنّ معنى"الإنشاز" ومعنى"الإنشار" متقاربان، لأن معنى"الإنشاز": التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى"الإنشار" إعادة الحياة إلى العظام. [[في المخطوطة والمطبوعة: " ... ورد العظام من العظام، وإعادتها لا شك ... " وهذا كلام لا يستقيم قط، والنسخة في هذا الموضع محرفة أشد التحريف، والناسخ كثير الإهمال والإسقاط كما سلف في التعليقات الماضية، فلذلك اجتهدت في تصحيح هذا، وما يليه حتى يستقيم معناه ولفظه.]] . وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة، فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما، [[في المخطوطة: " لا نعماد ومعنها"، والصواب ما في المطبوعة. وقوله: "لانقياد معنييهما"، أي لاستقامة معنييهما واستوائهما وتساوقهما على نهج واحد لا يختلف، كأن يقود أحدهما الآخر. وانظر ما مضى ٤: ١٠٥ تعليق: ١، في قوله: "قاد قوله" وتفسير قولهم: "هذا لا يستقيم على قود كلامك".]] . ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى. [[في المطبوعة: "لإحداهما من القضاء" بزيادة"من"، وفي المخطوطة"لأحدهما من القضاء" بزيادة وخطأ، والصواب ما أثبت.]] .
* * *
فإن ظنّ ظانٌ أن"الإنشارَ" إذا كان إحياءً، [[في المخطوطة: "إذا كان حيا" خطأ صرف، وفي المطبوعة: "إذا كان إحياء"، وهو الصواب، إلا أن حق الكلام في هذا الموضع"إذ" لا"إذا".]] . فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنُشر إنما أمر به ليرى عيانًا ما أنكره بقوله: ﴿أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ ؟ = [فقد أخطأ] . [[زدت ما بين القوسين، لأنه مما يقتضيه السياق. ولا معنى لالتماس تصحيح هذه الجملة، بتعليق قوله: فإن إحياء العظام ... " جوابا لقوله: "فإن ظن ظان ... ".]] . فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع، إنما عنى به ردُّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يُحيى، [[يحيى"بالبناء للمجهول، من"الإحياء".]] . لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. [[في المطبوعة والمخطوطة: "لا إعادة الروح ... "، وهو خطأ بين، بدل عليه سياق ما بعده. فإنه يعنى أن"إحياء العظام" مركب من أمرين: رد العظام إلى أماكنها، وإعادة الروح إليها. وسترى ذلك في حجته بعد.]] . والذي يدل على ذلك قوله: ﴿ثم نكسوها لحمًا﴾ . ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم. [[في المطبوعة والمخطوطة: "العظام التي أنشرت" بالراء، وهو خطأ، والصواب بالزاى، أى ركبت وردت إلى مواضعها.]]
وإذ كان ذلك كذلك، [[في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا كان ذلك كذلك"، والصواب"إذ".]] . وكان معنى"الإنشاز" تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى"الإنشار" =. [[قوله: "وكان ذلك معنى الإنشار"، وكان معنى الإنشار أيضًا، هو رد العظام إلى أما كنها من الجسد لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات، كما سلف منذ قليل.]] . وكان معلومًا استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه.
* * *
وأما القراءة الثالثة، فغير جائزةٍ القراءةُ بها عندي، وهي قراءة من قرأ:"كَيْفَ نَنْشُرُهَا" بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: [[في المطبوعة والمخطوطة: "بذلك" مكان"بقوله"، وهو لا يستقيم.]] . ﴿ثم نكسوها﴾ أي العظام ﴿لحمًا﴾ ، و"الهاء" التي في قوله: ﴿ثم نكسوها لحمًا﴾ من ذكر العظام.
* * *
ومعنى"نكسوها": نُلبسها ونُواريها به كما يواري جسدَ الإنسان كسوتُه التي يلبَسُها. وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شيء غطَّى شيئًا وواراه، لباسًا له وكُسوة، [[انظر ما سلف في معنى"لباس" و"كسوة" ٣: ٤٨٩ -٤٩٢ / ثم هذا الجزء: ٤٤.]] . ومنه قول النابغة الجعدي: [[وينسب هذا البيت إلى"لبيد بن ربيعة العامري" وإلى"قردة بن نفاثة السلولي"، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ٢٢٨: "وقد قال أكثر أهل الأخبار أن لبيدًا لم يقل شعرًا منذ أسلم.
وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله: ... " وذكر البيت، ثم قال: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولى، وهو أصح عندي". ثم عاد في ص ٥٣٦، فذكر قردة بن نفائة السلولى فقال: "كان شاعرًا، قدم على رسوله الله ﷺ في من بني سلول، فأمّره عليهم بعد أن أسلم وأسلموا، فأنشأ يقول: بَانَ الشَّبَابُ فَلَمْ أَحْفِلْ بِهِ بَالاَ ... وَأَقْبَلَ الشَّيْبُ والإِسْلاَمُ إِقْبَالاَ
وَقَدْ أُرَوِّي نَدِيمِي مِنْ مُشَعْشَعَةٍ ... وَقَدْ أُقَلِّبُ أَوْرَاكًا وَأَ كْفَالاَ
الْحَمْدُ لله. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد قيل إن البيت للبيد. قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في الإسلام غيره". وذكر ذلك أبو الفرج في أغانيه ١٤: ٩٤، وغيره. وانظر معجم الشعراء: ٣٣٨، ٣٣٩، والشعر والشعراء: ٢٣٢ والمعمرين ٦٦، وديوان لبيد، الزيادات: ٥٦. وغيرها كثير.]] .
فَالْحَمْدُ للهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبَالا [[انظر التعليق السالف، وهذا البيت ثابت في قصيدة النابغة (في ديوانه: ٨٦) ، في هجائه ابن الحيا، والحيا أمه، واسمه سوار بن أوفي القشيري -وكان هجا الجعدي وسب أخواله من الأزد، وهم بأصبهان متجاورون، فقال في ذلك قصيدته التي أولها: إِمَّا تَرَي ظُلَلَ الأَيَّامِ قَدْ حَسَرَتْ ... عنِّي، وشَمَّرْتُ ذَيْلاً كَانَ ذَيَّالاَ
.]]
فجعل الإسلام -إذ غطَّى الذي كان عليه فواراه وأذهبه- كُسوةً له وسِربالا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ﴿فلما تبيَّنَ له﴾ ، فلما اتضح له عيانًا ما كان مستنكرًا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك = [[انظر معنى"بين" فيما سلف في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة.]] . ﴿قال: أعلم﴾ الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان = [[في المطبوعة: "بعد المعاينة والاتضاح به والبيان" وهو فاسد مريض، والصواب من المخطوطة.]] . ﴿أن الله على كل شيء قدير﴾ .
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: ﴿قال أعلم أن الله﴾ .
فقرأه بعضهم:"قَالَ اعْلَمْ" على معنى الأمر بوصل"الألف" من"اعلم"، وجزم"الميم" منها. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة. ويذكرون أنها في قراءة عبد الله:"قِيلَ اعْلَمْ" على وجه الأمر من الله الذي أحيي بعد مماته، [[في المطبوعة: "للذي أحيى" وما في المخطوطة عين الصواب.]] . فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك روي عن ابن عباس.
٥٩٥٤- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي، قال: حدثنا القاسم بن سلام، قال: حدثني حجاج، عن هارون، قال: هي في قراءة عبد الله:"قِيلَ اعْلَمْ أَنَّ اللهَ" على وجه الأمر. [[الأثر: ٥٩٥٤ -"أحمد بن يوسف التغلبي"، الأحوال، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، مشهور بذلك. روى عن سليمان بن حرب، ومسلم بن إبراهيم، ورويم بن زيد، وأبي عبيد القاسم ابن سلام وغيرهم. روى عنه أبو عبد الله نفطويه النحوي، ومحمد بن مخلد، وأبو عمرو بن السماك، ومكرم بن أحمد، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد: "ثفة"، مات سنة ٢٧٢، وصحبته لأبي عبيد القاسم ابن سلام ترجم عندي أنه المعنى في الأثر السالف رقم: ٥٩١٩، وانظر التعليق عليه. وفي المطبوعة والمخطوطة: "الثعلبي". وهو خطأ.]] .
٥٩٥٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه = أحسبه، شكَّ أبو جعفر الطبري =، سمعت ابن عباس يقرأ:"فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ" قال: إنما قيل ذلك له.
٥٩٥٦ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه قيل له"انظر"! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصَلُ بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقيل:"اعلم أن الله على كل شيء قدير".
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبيَّن من أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صَرف متأوِّلٌ قوله:"قال اعلم" -وقد قرأه على وجه الأمر- إلى أنه من قِبَل المخبَرِ عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجهًا صحيحًا، وكان ذلك كما يقول القائل:"اعلم أن قد كان كذا وكذا"، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: ﴿قَالَ أَعْلَمُ﴾ ، على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به، بهمز ألف"أعلم" وقطعها، ورفع الميم، بمعنى: فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال المتبيِّن ذلك: [[في المخطوطة: "قال أليس ذلك أعلم الآن ... "، وهو كلام يرتكس في الفساد ارتكاسًا.
وفي المخطوطة: "المسن" غير منقوطة، وهي الصواب عين الصواب.]] .
أعلم الآن أنا أنّ الله على كل شيء قدير.
وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة، [[سقط من الناسخ"قرأة" في هذا الموضع والذي يليه، وكتبها في الهامش مرة واحدة، لم يكررها، ولذلك أثبتها الطابع في موضع واحد، هو الأخير منهما.]] . وبعض قرأة أهل العراق. وبذلك من التأويل تأوَّله جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٥٩٥٧ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لما عاين من قدرة الله ما عاينَ، قال: ﴿أعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ .
٥٩٥٨ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: ﴿فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير﴾ .
٥٩٥٩ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: بعين نبيّ الله ﷺ = [[في المطبوعة: "يعنى نبي الله عليه السلام"، وفي المخطوطة مضطربة وغير منقوطة، فمن أجل ذلك لم يحسن قراءتها. أي: أن إنشاز العظام كان بعين النبي، يراه عيانا، وقد مضى مثل ذلك آنفًا في رقم: ٥٩٤٢.]] .، يعني إنشازَ العظام = فقال: ﴿أعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ .
٥٩٦٠ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: قال عزير عند ذلك -يعني عند معاينة إحياء الله حماره- ﴿أعلم أنّ الله على كل شيء قدير﴾ .
٥٩٦١ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصلُ بعضه إلى بعض، ﴿فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير﴾ .
٥٩٦٢ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، نحوه.
* * *
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ:"اعْلَمْ" بوصل "الألف" وجزم"الميم" على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته، بالأمر بأن يعلم أن الله = الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه، من إحيائه إياه وحمارَه بعد موت مائة عام وبَلائه، حتى عادَا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظِه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردَّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير = [[في المطبوعة والمخطوطة: "وحفظ عليه طعامه ... "، وهو اختلال في الكلام، والصواب ما أثبت. وقوله: "وحفظه" مجرور معوطف على قوله: "من إحيائه إياه وحماره ... ".]] . على كل شيء قادرٌ كذلك. [[قوله: "على كل شيء قادر كذلك" متعلق بقوله: بأن يعلم أن الله ... على كل شيء قادر"، وما بينهما صفة لله تعالى، فصلت بين اسم"إن" وخبرها.]]
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره؛ لأن ما قبله من الكلام أمرٌ من الله تعالى ذكره: قولا للذي أحياه الله بعد مماته، وخطابًا له به، وذلك قوله: ﴿فانظر إلى طعامك وشرَابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ... وانظر إلى العظام كيف ننشزها﴾ ، فلما تبين له ذلك جوابًا عن مسألته ربَّه: ﴿أنى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ ! قال الله له:"اعلم أن الله" = الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت = على غير ذلك من الأشياء قديرٌ كقدرته على ما رأيت وأمثاله، [[سياق هذه الجملة كالسالفة في التعليق السالف: "أعلم أن الله ... على غير ذلك من الأشياء قدير".]] . كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم ﷺ = بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ = ﴿وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [[هي الآية التالية من"سورة البقرة".]] . فأمر إبراهيم بأن يعلم، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى، أنه عزيز حكيم. فكذلك أمر الذي سأل فقال: ﴿أنّى يحيي هذه الله بعد موتها﴾ ؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها = أن يعلم أنّ الله على كل شيء قدير. [[في المخطوطة والمطبوعة: "وكذلك أمر الذي سأل ... " بالواو، والصواب بالفاء.
هذا وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٣ - ١٧٤.]] .
{"ayah":"أَوۡ كَٱلَّذِی مَرَّ عَلَىٰ قَرۡیَةࣲ وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ یُحۡیِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامࣲ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِا۟ئَةَ عَامࣲ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ یَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَایَةࣰ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَیۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمࣰاۚ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق