الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"ألم تر"، ألم تعلم، يا محمد؟ = وهو من"رؤية القلب" لا رؤية العين"، [[انظر ما سلف في معنى"الرؤية" ٣: ٧٥-٧٩.]] لأن نبينا محمدا ﷺ لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر، و"رؤية القلب": ما رآه، وعلمه به. [[في المطبوعة: "وعلمه به" بزيادة الواو، وهي فاسدة، والصواب من المخطوطة.]] فمعنى ذلك: ألم تعلم يا محمد، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف؟ * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وهم ألوف". فقال بعضهم: في العدد، بمعنى جماع"ألف". * ذكر من قال ذلك: ٥٥٩٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع= قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون، قالوا:"نأتي أرضا ليس فيها موت"! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله:"موتوا". فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية:"إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". [[الأثران: ٥٥٩٦، ٥٥٩٧- أخرجه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨١، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال الذهبي"ميسرة، لم يرويا له وروى له البخاري في الأدب المفرد. وانظر ابن كثير ١: ٥٩٠، والدر المنثور ١: ٣١٠. و"ميسرة"، هو: "ميسرة بن حبيب النهدي"، مترجم في التهذيب.]] ٥٥٩٧- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم الله، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم. ٥٥٩٨- حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم وقالوا:"يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه"! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا، وأي راحة لهم في الموت؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا، فإن فيها أربعة آلاف= قال وهب: وهم الذين قال الله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"= فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت، فرقتها الطير والسباع. فناداهم حزقيل فقال: [[في المخطوطة: "فناداه"، وعلى الهاء من فوق حرف"ط"، وفي الدر المنثور ١: ٣١١"فنادى حزقيل"، وفي المطبوعة: "فناداهم"، وأثبت ما في تاريخ الطبري ١: ٢٣٧.]] "يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي"! فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا. [[بعد هذا في الدر المنثور ١: ٣١١: [ثم قال: "أيتها العظام، إن الله يأمرك أن ينبت العصب والعقب" فتلازمت واشتدت بالعصب والعقب] . وفي تاريخ الطبري: "يا أيتها العظام النخرة"]] ثم نادى ثانية حزقيل فقال:"أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم"، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدا، فكانت أجسادا. ثم نادى حزقيل الثالثة فقال:"أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك"! [[في المطبوعة: "إلى أجسادك"، وأثبت ما في المخطوطة، وتاريخ الطبري، والدر المنثور.]] فقاموا بإذن الله، وكبروا تكبيرة واحدة. [[الأثر: ٥٥٩٨: "محمد بن سهل بن عسكر" التميمي، أبو بكر النجاري الحافظ الجوال قال النسائي وابن عدي: "ثقة" سكن بغداد ومات بها سنة ٢٥١، مترجم في التهذيب و"إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه الصنعاني"، روى عن ابن عمه إبراهيم بن عقيل، وعمه عبد الصمد بن معقل، وروى عنه أحمد بن حنبل، قال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. توفي باليمن سنة ٢١٠. مترجم في التهذيب. والأثر رواه الطبري بهذا الإسناد في التاريخ ١: ٢٣٧، والدر المنثور ١: ٣١١.]] ٥٥٩٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، يقول: عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله، ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فذلك قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ . ٥٦٠٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أشعث بن أسلم البصري قال: بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه = وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى= [[خوى الرجل في سجوده: تجافى وفرج ما بين عضديه وجنبيه وفي الحديث: أن النبي ﷺ كان إذا سجد خوى.]] فقال أحدهم لصاحبه، [[في المطبوعة: "فقال أحدهم"، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري.]] أهو هو؟ فلما انفتل عمر قال: [[انفتل فلان من صلاته: انصرف بعد قضائها، ومثله: "فتل وجهه عن القوم"، صرفه ولواه عنهم.]] أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ [[في المخطوطة والمطبوعة: "رأيت" بغير همزة استفهام، والصواب من الطبري، والدر المنثور. وقول العرب"أرأيت كذا"، يريدون به معنى الاستخبار، بمعنى أخبرني عن كذا.]] فقالا إنا نجده في كتابنا: [[في المطبوعة وتاريخ الطبري: "إنا نجد في كتابنا"، وفي المخطوطة والد المنثور: "نجده" وهو الذي أثبت. وفي تاريخ الطبري بعد"يعطي ما أعطى حزقيل". والقرن (بفتح فسكون) : الحصن، والقرن أيضًا: الجبيل المنفرد. وقرن الجبل: أعلاه.]] "قرنا من حديد، يعطى ما يعطى حزقيل الذي"أحيى الموتى بإذن الله". فقال عمر: ما نجد في كتاب الله"حزقيل" ولا"أحيى الموتى بإذن الله"، إلا عيسى. فقالا أما تجد في كتاب الله ﴿وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ ، [[في المطبوعة: "رسلا لم يقصصهم" بحذف الواو، وبالياء من"يقصصهم"، وفي المخطوطة كذلك إلا أن"الياء" غير منقوطة، وأثبت نص الآية، على ما جاءت في تاريخ الطبري.]] [سورة النساء: ١٦٤] ، فقال عمر: بلى! قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك: إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله، [[في المطبوعة: "فقام عليهم ما شاء الله"، والصواب من المراجع والمخطوطة.]] فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، الآية. [[الأثر: ٥٦٠٠- رواه الطبري في تاريخه ١: ٢٣٨، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣١١. وفي المطبوعة والمخطوطة والدر: "أشعث بن أسلم البصري"، وفي التاريخ"أشعث عن سالم النصري"، و"أشعث بن أسلم العجلي البصري ثم الربعي"، روى عن أبيه أنه رأى أبا موسى الأشعري، روى عنه سعيد بن أبي عروبة. مترجم في ابن أبي حاتم ١ /١ /٢٦٩. وأما"سالم النصري"، فهو: سالم بن عبد الله النصري، هو"سالم سبلان"، مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ٢ /١ /١٨٤، روى عن عمان وعائشة وأبي سعيد، وأبي هريرة. روى عنه سعيد المقبري، وبكير بن عبد الله وغيرهما. وأنا أظن أن الذي في التاريخ أقرب إلى الصواب.]] ٥٦٠١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج بن أرطأة قال: كانوا أربعة آلاف. ٥٦٠٢- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، إلى قوله:"ثم أحياهم"، قال: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، [[في المخطوطة: "دار وردان" بزيادة راء، والصواب ما في تاريخ الطبري، والدر المنثور، ومعجم البلدان، وهي من نواحي شرقي واسط، بينهما فرسخ.]] وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كبير. [[في التاريخ: "فلم يمت منهم كثير".]] فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم! فوقع في قابل فهربوا، وهم بضعة وثلاثون ألفا، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيح، [[الأفيح والفياح: الواسع المنتشر النواحي، ويقال: روضة فيحاء، من ذلك.]] فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا! فماتوا، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم، مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقه وأصابعه، [[في المطبوعة: "يلوي شدقيه"، وأثبت ما في المخطوطة وتاريخ الطبري. ولوى شدقه: أماله متعجبا مما يرى ويشهد.]] فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم؟ = قال: وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم= فقال: نعم! فقيل له: ناد! فنادى:"يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي! "، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض، حتى كانت أجسادا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن ناد:"يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما"، فاكتست لحما ودما، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها. ثم قيل له: ناد! فنادى:"يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي"، فقاموا. ٥٦٠٣- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، قال: فزعم منصور بن المعتمر، عن مجاهد: أنهم قالوا حين أحيوا:"سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت"، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، [[السحنة (بفتح فسكون) : الهيئة واللون والحال، وبشرة الوجه والمنظر.]] لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن، [[في المخطوطة والمطبوعة: "إلا عاد كفنا دسما"، وضبط في التاريخ بضم الدال وسكون السين، وهو خطأ، فإن هذا جمع أدسم ودسما، وليس هذا مقام جمع. وقوله: "كفنا دسما مثل الكفن" ليس بلبسان عربي، فحذفتها وأثبت ما في التاريخ، وأما الرواية الأخرى في الدر المنثور فهي: "إلا عاد كفنا دسما"، بحذف"مثل الكفن"، فهذه أو تلك هي الصواب. والدسم: ودك اللحم والشحم. وفلان: دسم الثوب وأدسم الثوب، إذا كان ثوبه متلطخا وسخا قد علق به وضر اللحم والشحم. وأكفان الموتى دسم، لما يسيل من أجسادهم بعد تهرئهم وتعفن أبدانهم.]] حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. [[الأثران: ٥٦٠٢، ٥٦٠٣- في تاريخ الطبري ١: ٢٣٧، ٢٣٨، والدر المنثور ١: ٣١٠ بغير هذا اللفظ.]] ٥٦٠٤- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة، عن عطاء الخراساني:" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، قال: كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر. ٥٦٠٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف، [[في المخطوطة والمطبوعة"أو ثمانية آلاف"، وهو لا يستقيم، والصواب في الدر المنثور ١: ٣١١.]] حظر عليهم حظائر، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا، [[الحظائر جمع حظيرة: ما أحاط بالشيء، تكون من قصب وخشب، ليقي البرد والريح والعادية. وحظ حظيرة: اتخذها. والحظر: الحبس والمنع. أروح الماء واللحم وغيرهما وأراح: تغيرت رائحته وأنتن.]] فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله ثم أحياهم، فأمرهم بالجهاد، فذلك قوله:" وقاتلوا في سبيل الله" الآية. ٥٦٠٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع، [[في التاريخ: "يوفنا" بالفاء.]] خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي= [[في التاريخ: "بوذي" بالذال.]] وهو ابن العجوز، وإنما سمي"ابن العجوز" أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، فلذلك قيل له"ابن العجوز"= وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد ﷺ كما بلغنا:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". [[الأثر: ٥٦٠٦- في تاريخ الطبري ١: ٢٣٧، ثم ٢٣٨ مختصرا، والدر المنثور: ١: ٣١١.]] . ٥٦٠٧- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء= من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس= حذرا من الموت، وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله:"موتوا"، فماتوا جميعا. فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركوهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا. فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظاما نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوزى، [[في التاريخ: "بوذى" بالذال.]] فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم، [[في المخطوطة والمطبوعة: "ودخله رحمة. . . "، وأثبت ما في تاريخ الطبري.]] فقيل له: أتحب أن يحييهم الله؟ فقال: نعم! فقيل له: نادهم فقل: [[في المخطوطة والمطبوعة: "نادهم فقال. . . "، والصواب من التاريخ.]] "أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه". فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا. ثم قيل له: قل:"أيها اللحم والعصب والجلد، اكس العظام بإذن ربك"، قال: فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح. ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء كربه حتى غشي عليه منه، [[في المخطوطة: "فتغساه من السماء كربه" غير منقوطة. وفي المطبوعة: "فتغشاهم من السماء كدية"، وهذا كلام بلا معنى، وما أثبته هو نص الطبري في التاريخ. وكربه الأمر: غشيه واشتد عليه وأخذ بنفسه، فهو مكروب النفس.]] ثم أفاق والقوم جلوس يقولون:"سبحان الله، سبحان الله" قد أحياهم الله. [[الأثر: ٥٦٠٧- في تاريخ الطبري ١: ٢٣٨.]] * * * وقال آخرون: معنى قوله"وهم ألوف" وهم مؤتلفون. [[يعني أنه جمع"إلف" (بكسر الهمزة وسكون اللام) . وقال ابن سيده في"ألوف": "وعندي أنه جمع آلف، كشاهد وشهود"، وانظر سائر كتب التفسير.]] * ذكر من قال ذلك: ٥٦٠٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قول الله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم"، قال: قرية كانت نزل بها الطاعون، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت، والتي خرجت لم يصبهم شيء. [[في المطبوعة: "لم يصبها"، وأثبت ما في المخطوطة.]] ثم ارتفع، ثم نزل العام القابل، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت. فلما كان العام الثالث، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم، فقال الله تعالى ذكره:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، ليست الفرقة أخرجتهم، كما يخرج للحرب والقتال، قلوبهم مؤتلفة، إنما خرجوا فرارا. فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة، قال لهم الله:"موتوا"، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة. فماتوا، ثم أحياهم الله،"إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، [[لاح البرق والسيف والعظم يلوح: تلألأ ولمح، وذلك لبياض العظام في ضوء الشمس.]] فوقف ينظر فقال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ "، فأماته الله مائة عام. [[الأثر: ٥٦٠٨- أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣١١ مختصرا. وسيأتي مختصرا برقم: ٥٩٠٥.]] * * * * ذكر الأخبار عمن قال: كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون. ٥٦٠٩- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن الأشعث، عن الحسن في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال. خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم قبل آجالهم، ثم أحياهم إلى آجالهم. ٥٦١٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: ٣٤"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله:"موتوا"! ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم. ٥٦١١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقي أناس، فهلك الذين بقوا في القرية، وبقي الآخرون. ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية، فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي. فنجى الله الذين خرجوا، وهلك الذين بقوا. فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [وقد أنكروا قريتهم، ومن تركوا] . وكثروا بها، حتى يقول بعضهم لبعض: من أنتم؟ [[في المخطوطة: "فرجعوا إلى بلادهم، وقد قريتهم ومن تركوا، وكثروا بها، يقول بعضهم لبعض"، بياض بين الكلام، أما المطبوعة فقد أسقطت هذا البياض، فجعلت الكلام: "فرجعوا إلى بلادهم وكروا بها، حتى يقول بعضهم لبعض"، بزيادة"حتى"، فآثرت أن استظهر معنى الكلام، فأثبت ما في المخطوطة، وظننت أن مكان البياض ما أثبت. هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان آخر.]] ٥٦١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: وقع الطاعون في قريتهم= ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم. ٥٦١٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف" الآية، مقتهم الله على فرارهم من الموت، فأماتهم الله عقوبة، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم. ٥٦١٤- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن هلال بن يساف في قوله تعالى:"ألم تر إلى الذين خرجوا" الآية، قال: هؤلاء القوم من بني إسرائيل، [[في المطبوعة: "كان هؤلاء القوم من بني إسرائيل، إذا وقع فيهم الطاعون" وفي المخطوطة: "كان هؤلاء قوما من بني إسرائيل، كان إذا وقع. . . "، وضرب الناسخ على ألف"قوما"، وجعلها"قوم"، فتبين لي أن"كان" زائدة من الناسخ، كما جاءت على الصواب في الدر المنثور ١: ٣١١.]] كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم، وأقام فقراؤهم وسفلتهم. قال: فاستحر الموت على المقيمين منهم، ونجا من خرج منهم. فقال الذين خرجوا: لو أقمنا كما أقام هؤلاء، لهلكنا كما هلكوا! وقال المقيمون: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء، لنجونا كما نجوا! فظعنوا جميعا في عام واحد، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم. فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق. قال: فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد، فمر بهم نبي فقال: يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك! قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال نعم! قال: فقل: كذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه. ثم تكلم بما أمر، فإذا العظام تكسى لحما. ثم أمر بأمر فتكلم به، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون. ثم قيل لهم: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ٥٦١٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن حماد بن عثمان، عن الحسن: أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال: هم قوم فروا من الطاعون، فأماتهم الله عقوبة ومقتا، ثم أحياهم لآجالهم. [[الأثر: ٥٦١٥-"حماد بن عثمان"، وروى عن عبد العزيز الأعمى عن أنس. روى عنه سعيد بن أبي أيوب، وروى عن الحسن البصري قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حماد بن عثمان فقال: هو مجهول". ترجم له البخاري في الكبير ٢ /١ /٢٠، وابن أبي حاتم ١ /٢ /١٤٤.]] * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل قوله:"وهم ألوف" بالصواب، قول من قال:"عنى بالألوف كثرة العدد"= دون قول من قال:"عنى به الائتلاف"، بمعنى ائتلاف قلوبهم، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض، ولكن فرارا: إما من الجهاد، وإما من الطاعون= لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين. * * * وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف، دون من حده بأربعة آلاف، وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم:"ألوف". وإنما يقال"هم آلاف"، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف. وإنما جمع قليله على"أفعال"، [[في المخطوطة: "وإنما جمع قليله وكثيره على أفعال"، وزيادة"كثيره" خطأ، والصواب ما في المطبوعة.]] ولم يجمع على"أفعل"= مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا [[في المخطوطة: "وعلى سائر مثل الجمع القليل"، والصواب ما في المطبوعة.]] للألف التي في أوله. وشأن العرب في كل حرف كان أوله، ياء أو واوا أو ألفا، اختيار جمع قليله على أفعال، كما جمعوا"الوقت""أوقاتا" و"اليوم""أياما"، و"اليسر"و"أيسارا"، للواو والياء اللتين في أول ذلك. وقد يجمع ذلك أحيانا على"أفعل"، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا، ومنه قول الشاعر: [[هو بكير، أصم بني الحارث بن عباد.]] كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ... ألفين أعجم من بني الفدام [[النقائض: ٦٤٥، وتاريخ الطبري ٢: ١٥٥، والأغاني ٢٠: ١٣٩، واللسان (ألف) وغيرها. وهذا البيت من أبيات له في يوم ذي قار، وهو اليوم الذي انتصفت فيه العرب من العجم، وهزمت كسرى أبرويز بن هرمز. وكانت وقعة ذي قار بعد يوم بدر بأشهر، فلما بلغ رسول الله ﷺ خبرها قال: "هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا". وكانت بنو شيبان في هذا اليوم أهل جد وحد، فمدحهم الأعشى وبكير الأصم. هذا وقد روى الطبري هنا"كانوا ثلاثة آلف"، ورواية المراجع جميعا: "عربا ثلاثة آلف. . . " وذلك أن كسرى عقد للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه: الشهباء والدوسر، فكانت العرب ثلاثة آلف. وعقد أيضًا للهامرز التستري على ألف من الأساورة، وعقد الخنابزين على ألف، فكانت العجم ألفين. (الأغاني ٢٠/١٣٤) ، فهذا تصحيح الرواية المجمع عليها وبيانها، وأول هذه الأبيات: إن كنت ساقية المدامة أهلها ... فاسقي على كرم بني همام وأبا ربيعة كلها ومحلما ... سبقا بغاية أمجد الأيام ضربوا بني الأحرار يوم لقوهم ... بالمشرفي على مقيل الهام عربا ثلاثة آلف. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وعنى بقوله: "بني الفدام"، الفرس. وذلك أن المجوس كان مما يتدينون به أنهم إذا شرابا، شدوا على أفواههم خرقة كاللثام، فسميت هذه الطائفة منهم: بنو الفدام.]] * * * وأما قوله:"حذر الموت"، فإنه يعني: أنهم خرجوا من حذر الموت، فرارا منه. [[انظر ما سلف ١: ٣٥٤، ٣٥٥ في تفسير: "حذر الموت" وإعرابها.]] كما: - ٥٦١٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"حذر الموت"، فرارا من عدوهم، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه. فأمرهم فرجعوا، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهم الذين قالوا لنبيهم: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [سورة البقرة: ٢٤٦] * * * قال أبو جعفر: وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية، على المواظبة على الجهاد في سبيله، [[في المطبوعة: "في سبيل الله" وأثبت ما في المخطوطة.]] والصبر على قتال أعداء دينه. وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه، دون خلقه= وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء، إلى التحصن في الحصون، والاختباء في المنازل والدور، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته، [[في المخطوطة والمطبوعة: "بعقوبته"، وهي في المخطوطة غير منقوطة. وعقوة الدار: ساحتها وما حولها قريبا منها. يقال: نزل بعقوته، ونزلت الخيل بعقوة العدو.]] كما لم ينفع الهاربين من الطاعون= الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"= فرارهم من أوطانهم، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة، وبالموئل النجاة من المنية، حتى أتاهم أمر الله، فتركهم جميعا خمودا صرعى، وفي الأرض هلكى، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء. * * * القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لذو فضل ومن. على خلقه، بتبصيره إياهم سبيل الهدى، وتحذيره لهم طرق الردى، وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم، وأنفسهم وأموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم، عبرة يعتبرون بهم، وليعلموا أن الأمور كلها بيده، فيستسلموا لقضائه، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه. [[في المطبوعة: "فيستسلمون. . . ويصرفون"، وفي المخطوطة: "فيستسلمون. . . ويصرفوا"]] ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة، ويمن عليه بمننه الجسيمة، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره، ويتخذ إلها من دونه، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه، ومن الحمد ما يثقله، فقال تعالى ذكره:"ولكن أكثر الناس لا يشكرون"، يقول: لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم، وفضلي الذي تفضلت به عليهم، بعبادتهم غيري، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا. [[عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة بعده ما نصه: "وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا". ثم يبدأ التقسيم التالي بما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن"]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب