الباحث القرآني

القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله: " كتب عليكم القتال"، فُرض عليكم القتال، يعني قتال المشركين=" وهو كُرْهٌ لكم". * * * واختلف أهل العلم في الذين عُنوا بفرض القتال. فقال بعضهم: عنى بذلك أصحابُ رسول الله ﷺ خاصةً دون غيرهم. * ذكر من قال ذلك: ٤٠٧٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له:" كتب عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم"، أواجبٌ الغزوُ على الناس من أجلها؟ قال: لا! كُتب على أولئك حينئذ. ٤٠٧٣ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا خالد، عن حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، قال نسختها ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [سورة البقرة: ٢٨٥] * * * قال أبو جعفر: وهذ اقول لا معنى له، لأن نسخَ الأحكام من قبل الله جل وعزّ، لا من قبل العباد، وقوله:" قالوا سمعنا وأطعنا"، خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخٌ منه. ٤٠٧٤ - حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا. [[الأثر: ٤٠٧٤ - محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني نزل بغداد وكان وجه مشايخ بغداد وكان أحد الحفاظ الأثبات المتقنين مات سنة ٢٧٠، وروى عنه الطبري في المذيل (انظر المنتخب من ذيل المذيل: ١٠٤) ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي روى عنه البخاري، توفي ببغداد سنة ٢١٥. وكلاهما مترجم في التهذيب.]] * * * وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين، كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم، وعلى هذا عامة علماء المسلمين. * * * قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك، ولقول الله عز وجل: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [سورة النساء: ٩٥] ، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى. * * * وقال آخرون: هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين إلى قيام الساعة. * ذكر من قال ذلك: ٤٠٧٥- حدثنا حُبَيش بن مبشر قال: حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، قال: قلت لسعيد بن المسيب: قد أعلم أن الغزو واجبٌ على الناس! فسكت، وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبيَّن لي. [[الأثر: ٤٠٧٥ - حبيش بن مبشر بن أحمد الطوسي الفقيه، كان ثقة من عقلاء البغداديين مات سنة ٢٥٨، مترجم في التهذيب وتاريخ بغداد. وكان في المطبوعة: "حسين بن ميسر" وليس في الرواة من يعرف بذلك.]] * * * وقد بينا فيما مضى معنى قوله:"كتب" بما فيه الكفاية. [[انظر ما سلف ٣: ٣٥٧، ٣٦٤، ٣٦٥.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم، فترك ذكر"ذو" اكتفاء بدلالة قوله:"كره لكم"، عليه، كما قال: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [سورة يوسف: ٨٣] وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله. * ذكر من قال ذلك: ٤٠٧٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" وهو كره لكم" قال: كُرّه إليكم حينئذ. * * * "والكره" بالضم: هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه،"والكَرْهُ" بفتح"الكاف"، هو ما حمله غيره، فأدخله عليه كرهًا. وممن حكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم. ٤٠٧٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ بن مسلم، قال: الكُرْه المشقة، والكَرْه الإجبار. * * * وقد كان بعض أهل العربية يقول:"الكُره والكَره" لغتان بمعنى واحد، مثل:"الغُسْل والغَسْل" و"الضُّعف والضَّعف"، و"الرُّهبْ والرَّهبْ". وقال بعضهم:"الكره" بضم"الكاف" اسم و"الكره" بفتحها مصدر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتالَ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خيرٌ لكم، ولا تحبوا تركَ الجهاد، فلعلكم أن تحبوه وهو شر لكم، كما:- ٤٠٧٨ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم"، وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال، فقال:"عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم" يقول: إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا تُستْشهدوا، ولا تصيبوا شيئًا. ٤٠٧٩ - حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: حدثني يحيى بن محمد بن مجاهد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي، قال: أخبرني عامر بن واثلة قال: قال ابن عباس: كنت رِدْفَ النبي ﷺ، فقال: يا ابن عباس ارضَ عن الله بما قدَّرَ، وإن كان خلافَ هواك، فإنه مثبَتٌ في كتاب الله. قلت: يا رسول الله، فأين؟ وقد قرأت القرآن! قال: في قوله:" وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" [[الحديث: ٤٠٧٩ - هذا إسناد مظلم والمتن منكر! لم أجد ترجمة"يحيى بن محمد بن مجاهد" ولا"عبيد الله بن أبي هاشم" ولا أدري ما هما. ولفظ الحديث لم أجده، ولا نقله أحد +من ينقل عن الطبري.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله يعلم ما هو خيرٌ لكم، مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبتُ عليكم من جهاد عدوكم، وقتال من أمرتكم بقتاله، فإني أعلم أنّ قتالكم إياهم، هو خيرٌ لكم في عاجلكم ومعادكم، وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم، يحضّهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه، ويرغِّبهم في قتال من كفر به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك يا محمد أصحابُك عن الشهر الحرام = وذلك رَجبٌ = عن قتالٍ فيه. وخفضُ"القتال" على معنى تكرير"عن" عليه، وكذلك كانت قراءةُ عبد الله بن مسعود فيما ذكر لنا. وقد:- ٤٠٨٠ - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"، قال: يقول: يسألونك عن قتال فيه، قال: وكذلك كان يقرؤها:"عن قتال فيه". * * * = قال أبو جعفر:"قل" يا محمد:"قتالٌ فيه"- يعني في الشهر الحرام"كبيرٌ"، أي عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه. ومعنى قوله:" قتال فيه"، قل القتال فيه كبير. وإنما قال:"قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، لأن العرب كانت لا تقرعُ فيه الأسنَّة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَهيجه تعظيما له، وتسميه مضر"الأصمَّ" [[يعني شهر رجب، وهو رجب الأصم.]] لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه. وقد:- ٤٠٨١ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا شعيب بن الليث، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا الزبير، عن جابر قال: لم يكن رسول الله ﷺ يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى، أو يَغزو حتى إذا حضر ذلك أقامَ حتىّ ينسلخ. * * * وقوله جل ثناؤه:" وصَدٌّ عن سبيل الله". ومعنى"الصدّ" عن الشيء، المنع منه، والدفع عنه، ومنه قيل:" صدّ فلان بوجهه عن فلان"، إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه. * * * وقوله:" وكفرٌ به"، يعني: وكفر بالله، و"الباء" في"به" عائدة على اسم الله الذي في"سبيل الله". وتأويل الكلام: وصدٌّ عن سبيل الله، وكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام- وهم أهله وولاته- أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام. فـ "الصدُّ عن سييل الله" مرفوع بقوله:" أكبر عند الله". وقوله:" وإخراج أهله منه" عطف على"الصد". ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال:" والفتنة أكبر من القتل"، يعني: الشرك أعظم وأكبرُ من القتل، [[انظر معنى"الفتنة" فيما سلف ٣: ٥٦٥، ٥٦٦ ثم ٥٧٠ن ٥٧١ وفهرس اللغة في الأجزاء السالفة.]] يعني: مِنْ قَتل ابن الحضرميّ الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام. * * * قال أبو جعفر: وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله:" والمسجد الحرام" معطوف على"القتال" وأن معناه: يسألونك عن الشهر الحرام، عن قتال فيه، وعن المسجد الحرام، فقال الله جل ثناؤه:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من القتال في الشهر الحرام. [[هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ١٤١.]] وهذا القول، مع خروجه من أقوال أهل العلم، قولٌ لا وجهَ له. لأن القوم لم يكونوا في شك من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم إياهم من منازلهم بمكة، فيحتاجوا إلى أن يسألوا رسول الله ﷺ عن إخراج المشركين إياهم من منازلهم، وهل ذلك كان لهم؟ بل لم يدَّع ذلك عليهم أحدٌ من المسلمين، ولا أنهم سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك. وإذ كان ذلك كذلك، فلم يكن القوم سألوا رسول الله ﷺ إلا عَمَّا ارتابوا بحكمه [[في المطبوعة: "وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن القوم سألوا رسول الله. . . " والصواب ما أثبت، وإلا اختل الكلام اختلالا شديدًا.]] كارتيابهم في أمر قتل ابن الحضرمي، إذ ادَّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله ﷺ قتله في الشهر الحرام، فسألوا عن أمره، لارتيابهم في حكمه. فأما إخراجُ المشركين أهلَ الإسلام من المسجد الحرام، فلم يكن فيهم أحدٌ شاكًّا أنه كان ظلمًا منهم لهم فيسألوا عنه. ولا خلاف بين أهل التأويل جميعًا أن هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله. * ذكر الرواية عمن قال ذلك: ٤٠٨٢ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن جحش في رجب مَقْفَلَه من بدر الأولى، وبعثَ معه بثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدًا. = وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من المهاجرين من بني عبد شمس أبو حذيفة [بن عتبة] بن ربيعة- [[الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام ونص ابن هشام: "أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش" بإسقاط: "ومن بني أمية" فتركت ما في الطبري على حاله لأنه صحيح المعنى أيضًا.]] ومن بني أمية- بن عبد شمس، ثم من حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن بن حُرثان أحد بني أسد بن خزيمة- ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم - ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص- ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم، وواقد بن عبد الله بن مناة بن عرين [[في المطبوعة: ". . . عبد الله بن مناة بن عويم" وأثبت ما في نص ابن هشام وهو الموافق لما أجمعت عليه كتب السير والأنساب.]] بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم- ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء. = فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه: "إذا نظرت إلى كتابي هذا، [[في المطبوعة: "إذا نظرت إلى كتابي. . . " وأثبت ما في هشام وتاريخ الطبري وهو الصواب.]] فسرْ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصَّد بها قريشًا، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم". فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال:" سمعا وطاعة"، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله ﷺ أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله ﷺ فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلَّف عنه [منهم] أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرع يقال له بُحْران، [[في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ صرف.]] أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه، [["يتعقبانه": أي يركبه هذا عقبة وهذا عقبة، أي هذا نوبة وهذا نوبة.]] فتخلَّفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا وتجارةً من تجارة قريش [[العير: القافلة من الإبل والحمير والبغال تخرج للميرة فيمتار عليها. والأدم جمع أديم: وهو الجلد المدبوغ.]] فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمّار! فلا بأس علينا منهم. [[عمار: معتمرون. والاعتمار والعمرة زيارة البيت الحرام وأداء حقه، في أي شهر كان. وهو غير الحج يقال عنه"اعتمر" ولم يسمع"عمر" ولكن جاء"عمار" جمع"عامر" على هذا الثلاثي المتروك.]] وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من جمادى، [[هكذا في المطبوعة: "آخر يوم من جمادى" وفي نص ابن هشام وتاريخ الطبري"آخر يوم من رجب" وهو أصح النصين، ولم أغيرها، لأنه سيأتي بعد ما يدل على أن الرواية هنا هكذا.]] فقال القوم: والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعُنَّ به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجُعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسرَ عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم. =وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله ﷺ بالمدينة وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أنّ عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إنّ لرسول الله ﷺ مما غنمتم الخمُس. وذلك قبل أن يُفرضُ الخمس من الغنائم، فعزل لرسول الله ﷺ خُمس العير، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام! فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال رسول الله ﷺ ذلك، سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم المسلمون فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموال وأسروا. [فيه الرجال] [[الزيادة بين القوسين من نص ابن هشام، وتاريخ الطبري.]] فقال من يردُّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى! [[انظر ص: ٣٠٣ التعليق: ٥ ونص ابن هشام والطبري"في شعبان".]] وقالت يهود -تتفاءل بذلك على رسول الله ﷺ-: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله! " عمرو"، عمرت الحرب! و"الحضرميّ"، حَضَرت الحربُ! " وواقد بن عبد الله"، وقدت الحرب! فجعل الله عليهم ذلك وبهم. = فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله جل وعز على رسوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"، أي: عن قتالٍ فيه" قل قتال فيه كبيرٌ" إلى قوله:" والفتنة أكبر من القتل"، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجُكم عنه إذ أنتم أهله وولاته، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم،" والفتنة أكبر من القتل"، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل=" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق، [[الشفق (لفتح الشين والفاء) والإشقاق: الخوف والحذر.]] قبض رسول الله ﷺ العيرَ والأسيرين. [[الأثر: ٤٠٨٢ - هو نص ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق ٢: ٢٥٢- ٢٥٤ ورواه الطبري في تاريخه ٢: ٢٦٢- ٢٦٣.]] ٤٠٨٣ - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبيرٌ"، وذلك أنّ رسول الله ﷺ بعث سرية - وكانوا سبعةَ نفر - وأمَّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي، حليفٌ لعمر بن الخطاب. وكتب مع ابن جحش كتابًا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل [بطن] مَلَل، [[الزيادة بين القوسين من رواية الطبري في تاريخه.]] فلما نزل ببطن ملل فتحَ الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة، [[في تاريخه: "بطن نخل" في هذا الموضع منه، وفيما يليه"بطن نخلة".]] فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمضِ وليوص، فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله ﷺ. فسار وتخلّف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، أضلا راحلةً لهما، فأتيا بُحران يطلبانها، [[في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ مضى مثله ص: ٣٠٣ والصواب من التاريخ.]] وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، فاقتتلوا، فأسَرُوا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، وانفلت المغيرة، وقُتل عمرو بن الحضرميّ، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب محمد ﷺ. = فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال، أراد أهل مكة أن يفادوا بالأسيرين، فقال النبي ﷺ: حتى ننظر ما فعل صاحبانا! فلما رجع سعد وصاحبه فادَى بالأسيرين، ففجَر عليه المشركون وقالوا: محمد يزعم أنه يتَّبع طاعة الله، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب! فقال المسلمون: إنما قتلناه في جُمادى! - وقيل: في أول ليلة من رجب، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رَجب. فأنزل الله جل وعز يعيِّر أهل مكة:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير" لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عنه محمدًا وأصحابه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا، أكبر من القتل عند الله، والفتنة - هي الشرك - أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام، فذلك قوله:" وصد عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرامِ وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل". [[الأثر: ٤٠٨٣ - رواه الطبري في تاريخه ٢: ٢٦٣- ٢٦٤.]] ٤٠٨٤ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه: أنه حدثه رجل، عن أبي السوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله ﷺ: أنه بعث رَهطًا، فبعثَ عليهم أبا عبيدة. فلما أخذ لينطلق، بكى صَبابةً إلى رسول الله ﷺ. فبعث رجلا مكانه يقال له عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا:" ولا تكرهنَّ أحدًا من أصحابك على السير معك". فلما قرأ الكتاب استرجعَ وقال: سمعًا وطاعة لأمر الله ورسوله! فخبَّرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان ومضَى بقيتهم. فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم: أمن رَجب أو من جمادى؟ فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهر الحرام! فأتوا النبي ﷺ فحدّثوه الحديث، فأنزل الله عز وجل:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبرُ من القتل"- والفتنة هي الشرك. وقال بعضُ الذين - أظنه قال -: كانوا في السرية: والله ما قتله إلا واحد! فقال: إن يكن خيرًا فقد وَلِيت! وإن يكن ذنبًا فقد عملت! [[الأثر: ٤٠٨٤ رواه الطبري في تاريخه ٢: ٢٦٤- ٢٦٥- وسيأتي تمامه برقم: ٤١٠٢.]] ٤٠٨٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه"، قال: إن رجلا من بني تميم أرسله النبي ﷺ في سرية، فمرّ بابن الحضرميّ يحمل خمرًا من الطائف إلى مكة، فرماه بسهم فقتله. وكان بين قريش ومحمد عَقْدٌ، فقتله في آخر يوم من جُمادى الآخرة وأول يوم من رجب، فقالت قريش: في الشهر الحرام! ولنا عهد! فأنزل الله جل وعز:" قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكُفر به" وصد عن المسجد الحرام" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من قتل ابن الحضرميّ، والفتنة كفرٌ بالله، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله. ٤٠٨٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري وعُثمان الجزريّ، وعن مقسم مولى ابن عباس قال: لقي واقد بنُ عبد الله عمرَو بنَ الحضرميّ في أول ليلة من رجب، وهو يرى أنه من جمادى، فقتله، وهو أول قتيل من المشركين. فعيَّر المشركون المسلمين فقالوا: أتقتلون في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام" = يقول: وصد عن سبيل الله وكفرٌ بالله =" والمسجد الحرام" = وصد عن المسجد الحرام =" وإخراج أهله منه أكبر عند الله"، من قتل عمرو بن الحضرميّ =" والفتنة"، يقول: الشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا = قال الزهري وكان النبي ﷺ فيما بلغنا يحرِّم القتالَ في الشهر الحرام، ثم أحِلّ [له] بعدُ. [[الحديث: ٤٠٨٦ - هذا حديث مرسل، مروي بإسنادين عن اثنين من التابعين، هما: الزهري ومقسم مولى ابن عباس. فرواه معمر عن الزهري ورواه عن عثمان الجزري عن مقسم. وهو ثابت في تفسير عبد الرزاق، ص: ٢٦. وزدنا منه [الواو] في قوله: "وعن مقسم"، وكلمة [له] في آخر الحديث في قوله" ثم أحل [له] بعد". وعثمان الجزري: هو"عثمان بن ساج" ترجم له ابن أبي حاتم ٣/١/١٥٣، وهو غير"عثمان ابن عمرو بن ساج" الذي ترجم له ابن أبي حاتم ٣/١/١٦٢. وقد خلط بينهما الحافظ المزي في التهذيب، وتعقبه الحافظ ابن حجر. وانظر ما كتبنا في ذلك، في شرح المسند: ٢٥٦٢. مقسم -بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين-: هو ابن بجرة، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل. وإنما قيل له"مولى ابن عباس" للزومه له. وهو تابعي ثقة.]] ٤٠٨٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير"، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله ﷺ وردُّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله ﷺ القتالَ في شهر حرام، فقال الله جل وعز:" وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله" من القتل فيه = وأنّ محمدًا بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخرَ ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب = وأن أصحاب محمد ﷺ كانوا يظنون أنّ تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم واحدٌ = وأنّ المشركين أرسلوا يُعيرونه بذلك فقال الله جل وعز:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" وغير ذلك أكبر منه،" صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه" إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ، والشرك بالله أشدُّ. ٤٠٨٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك: قال لما نزلت:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" إلى قوله:" والفتنة أكبرُ من القتل"، استكبروه. فقال: والفتنة = الشرك الذي أنتم عليه مقيمون = أكبر مما استكبرتم. ٤٠٨٩ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن جحش في جيش، فلقي ناسًا من المشركين ببطن نخلة، والمسلمون يحسَبون أنه آخر يوم من جمادى وهو أول يوم من رجب، فقتل المسلمون ابنَ الحضرميّ، فقال المشركون: ألستم تزعمون أنكم تحرِّمون الشهرَ الحرام والبلدَ الحرام، وقد قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه" إلى قوله" أكبر عند الله" من الذي استكبرتم من قتل ابن الحضرمي، و"الفتنة" - التي أنتم عليها مقيمون، يعني الشركَ -" أكبر من القتل". ٤٠٩٠ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: وكان يسميها [[هكذا في المطبوعة، وأظن الصواب: "وكان يسميهما".]] - يقول: لقي واقدُ بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي ببطن نخلةَ فقتله. ٤٠٩١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"، فيمن نزلت؟ قال: لا أدري = قال ابن جريج: وقال عكرمة ومجاهد: في عمرو بن الحضرمي. قال ابن جريج، وأخبرنا ابن أبي حسين، عن الزهري ذلك أيضًا. ٤٠٩٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد:" قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام"، - قال: يقول: صدٌ عن المسجد الحرام" وإخراج أهله منه" - فكل هذا أكبر من قتل ابن الحضرمي -" والفتنة أكبر من القتل" - كفرٌ بالله وعبادة الأوثان، أكبرُ من هذا كله. ٤٠٩٣ - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي، قال سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير"، كان أصحاب محمد ﷺ قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فعيّر المشركون المسلمين بذلك، فقال الله: قتال في الشهر الحرام كبير، وأكبر من ذلك صد عن سبيل الله وكفرٌ به، وإخراجُ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام. قال أبو جعفر: وهذان الخبران اللذان ذكرناهما عن مجاهد والضحاك، ينبئان عن صحة ما قلنا في رفع"الصد" و"الكفر به"، [[في المطبوعة"في رفع الصد به" والصواب ما أثبت.]] وأن رافعه"أكبر عند الله". وهما يؤكدان صحّة ما روينا في ذلك عن ابن عباس، ويدلان على خطأ من زعم أنه مرفوعٌ على العطف على"الكبير"، وقولِ من زعم أن معناه: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيل الله، وزعم أن قوله:"وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله"، خبر منقطع عما قبله مبتدأ. * * * ٤٠٩٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسمعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله:" والفتنة أكبر من القتل"، قال: يعني به الكفر. ٤٠٩٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من ذلك. ثم عيَّر المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال:" والفتنة أكبر من القتل"، أي الشرك بالله أكبر من القتل. * * * وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك روي عن ابن عباس: ٤٠٩٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قتل أصحابُ رسول الله ﷺ عمرَو بن الحضرمي في آخر ليلة من جُمادى وأول ليلة من رجب، أرسل المشركون إلى رسول الله ﷺ يعيِّرونه بذلك، فقال:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وغيرُ ذلك أكبر منه:" صدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر" من الذي أصابَ محمدٌ ﷺ. * * * قال أبو جعفر: وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في الذي ارتفع به قوله:" وصدٌّ عن سبيل الله". فقال بعض نحويي الكوفيين: في رفعه وجهان: أحدهما، أن يكون" الصدُّ" مردودًا على" الكبير"، يريد: قل القتالُ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به. وإن شئت جعلت" الصد"" كبيرًا"، يريد به: قل القتالُ فيه كبير، وكبيرٌ الصدُّ عن سبيل الله والكفر به. [[هو قول الفراء، كما سيأتي بعد في النص، وانظر معاني القرآن ١: ١٤١. وقد رد الطبري كلام الفراء ردًا حكيما، وأظهر الفساد الذي ينطوي عليه قول من يقول في القرآن، وهو لا يحكم النظر في أحكام الله، فيظن كل جائز في العربية والنحو، جائزا أن يحمل عليه كتاب الله. وردود الطبري تعلم المرء كيف يتخلق بأخلاق أهل العلم والإيمان، من الأناة والتوقف والصبر والورع، أن تزل قدم في هوة من الضلال والجهالة وسوء الرأي.]] * * * قال أبو جعفر: قال فأخطأ -يعني الفراء- في كلا تأويليه. وذلك أنه إذا رفع" الصد" عطفًا به على" كبير"، يصير تأويل الكلام: قل القتالُ في الشهر الحرام كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، وكفرٌ بالله. وذلك من التأويل خلافُ ما عليه أهل الإسلام جميعًا. لأنه لم يدَّع أحد أن الله تبارك وتعالى جعل القتال في الأشهر الحرم كفرًا بالله، بل ذلك غير جائز أن يُتَوَهَّم على عاقل يعقل ما يقولُ أن يقوله. وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة، والله جل ثناؤه يقول في أثر ذلك:" وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله"؟! فلو كان الكلام على ما رآه جائزًا في تأويله هذا، لوجب أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، كان أعظمَ عند الله من الكفر به، وذلك أنه يقول في أثره:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله". وفي قيام الحجة بأن لا شيء أعظمُ عند الله من الكفر به، ما يُبين عن خطأ هذا القول. وأما إذا رفع" الصد"، بمعنى ما زعم أنه الوجه الآخر - وذلك رفعه بمعنى: وكبير صدٌّ عن سبيل الله، ثم قيل:" وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله" - صار المعنى إلى أن إخراجَ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، أعظمُ عند الله من الكفر بالله والصدِّ عن سبيله، وعن المسجد الحرام. ومتأوِّل ذلك كذلك، داخل من الخطأ في مثل الذي دخل فيه القائلُ القولَ الأوّل: [[في المطبوعة: "داخل من الخطأ مثل. . . " سقطت"في" من ناسخ فيما أرجح.]] من تصييره بعض خلال الكفر أعظمَ عند الله من الكفر بعينه. وذلك مما لا يُخيل على أحدٍ خطؤه وفسادُه [[أخال الشيء يخيل: اشتبه. يقال: "هذا الأمر لا يخيل على أحد"، أي: لا يشكل على أحد. و"شيء مخيل"، أي مشكل.]] . * * * وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول القولَ الأول في رفع" الصد"، ويزعم أنه معطوف به على" الكبير"، ويجعل قوله:" وإخراج أهله" مرفوعًا على الابتداء، وقد بينا فسادَ ذلك وخطأ تأويله. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله الله جل وعز: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [سورة التوبة: ٣٦] ، وبقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة التوبة: ٥] * ذكر من قال ذلك: ٤٠٩٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء بن ميسرة: أحلَّ القتالَ في الشهر الحرام في" براءة" قوله: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [سورة التوبة: ٣٦] : يقول: فيهن وفي غيرهن. [[الأثر: ٤٠٩٧ -"عطاء بن ميسرة" هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني يقال اسم أبيه"عبد الله"، ويقال"ميسرة". مات سنة ١٣٥، وانظر الاختلاف فيه، والإشكال في أمره وأمر عطاء بن أبي رباح في التهذيب في ترجمته.]] ٤٠٩٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: كان النبي ﷺ، فيما بلغنا، يحرّم القتال في الشهر الحرام، ثم أحِلَّ بعد. [[الأثر: ٤٠٩٨ - هو بعض الأثر السالف: ٤٠٨٦. وانظر التعليق عليه.]] وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابتٌ = لا يحلّ القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية، لأن الله جعل القتال فيه كبيرًا. * ذكر من قال ذلك: ٤٠٩٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاجُ، عن ابن جريج، [[في المطبوعة: ". . . عن ابن جريج، عن مجاهد، قال قلت لعطاء. . . "، فقوله: "عن مجاهد" خطأ وزيادة مفسدة، فحذفتها. وانظر الأثر السالف رقم: ٤٩٠١.]] قال: قلت لعطاء:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، قلت: ما لهم! وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام، ثم غزوهم بعد فيه؟ فحلف لي عطاء بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه، وما يستحب. قال: ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن يقاتَلوا، ولا إلى الجزية، تركوا ذلك. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة: من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرُم منسوخ بقول الله جل ثناؤه: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [سورة التوبة: ٣٦] . وإنما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، لتظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه غزَا هوازن بحُنين وثقيفًا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين، في الأشهر الحرُم، وذلك في شوال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم. فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية، كان أبعد الناس من فعله ﷺ. وأخرى، أن جميعَ أهل العلم بِسِيَر رسول الله ﷺ لا تتدافع أنّ بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في ذي القعدة، وأنه ﷺ إنما دعا أصحابه إليها يومئذ، لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة، فبايع ﷺ على أن يناجز القومَ الحربَ ويحاربَهم، حتى رجع عثمان بالرسالة، جرى بين النبي ﷺ وقريش الصلح، فكفَّ عن حربهم حينئذ وقتالهم. وكان ذلك في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرُم. فإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ صحةُ ما قلنا في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وأنه منسوخ. فإذا ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرُم كان بعد استحلال النبي ﷺ إياهن لما وصفنا من حروبه. فقد ظنّ جهلا. وذلك أن هذه الآية - أعني قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه" - في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه، فأنزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الآخرة من السنة الثانية من مَقْدَم رسول الله ﷺ المدينةَ وهجرته إليها، وكانت وقعةُ حُنين والطائف في شوال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته إليها، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب