الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ﴾ ، أنه ليس كما قال الزاعمون ﴿لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى﴾ ، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فهو الذي يدخلها وينعم فيها، كما:- ١٨٠٩- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية. * * * وقد بينا معنى ﴿بلى﴾ فيما مضى قبل. [[انظر ما سلف في هذا الجزء ٢: ٢٨٠، ٢٨١.]] * * * وأما قوله: ﴿من أسلم وجهه لله﴾ ، فإنه يعني بـ "إسلام الوجه": التذلل لطاعته والإذعان لأمره. وأصل"الإسلام": الاستسلام، لأنه"من استسلمت لأمره"، وهو الخضوع لأمره. وإنما سمي"المسلم" مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما:- ١٨١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ ، يقول: أخلص لله. وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا [[سيرة ابن هشام ١: ٢٤٦ وغيره.]] يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له. * * * وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ ، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه، لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء، فتضيفه إلى"وجهه" وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه، كقول الأعشى: أَؤُوِّل الحكم على وَجهه ... ليس قضائي بالهوى الجائر [[ديوانه: ١٠٦ من قصيدته المشهورة. في منافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل، فهجا الأعشى علقمة لأمر كان بينهما. وفضل عليه عامرا. (انظر الأغاني ١٥: ٥٠ - ٥٦) . وأول الحكم: قدره ودبره ورده إلى صوابه وأصله. والجائر: المائل عن سبيل الحق. جار: ظلم ومال وقبل البيت: علقم، لا تسفه، ولا تجعلن ... عرضك للوارد والصادر وبعده: قد قلت قولا فقضى بينكم ... واعترف المنفور للنافر]] يعني بقوله:"على وجهه": على ما هو به من صحته وصوابه، وكما قال ذو الرمة: فطاوعت همي وانجلى وجه بازل ... من الأمر، لم يترك خِلاجا بُزُولُها [[ديوانه: ٥٦٠ يمدح عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، في آخر القصيدة، فقال بعد البيت: فقالت: عبيد الله من آل معمر ... إليه ارحل الأنقاض يرشد رحيلها وقوله: "طاوعت همي"، ما هم به في نفسه. يقول: طاوعت ما همت به نفسي. وقوله: "بازل من الأمر" يعني خطة يركبها. هذا مثل. يقال: بزل ناب البعير بزولا، أي طله وانشق وظهر. ومنه قيل: بزل الأمر والرأى: قطعه. وخطة بزلاء: تفصل بين الحق والباطل. فقوله"بازل من الأمر" صفة لما أضمره من قوله"خطة"، وأتى بها على التذكير، كما أتوا بها على التذكير في قولهم: "ناقة بازل". والخلاج: الشك والتردد والتنازع. يقول: طاوعت ما جال في نفسي، فانجلى عن خطة ظاهرة انشقت وظهرت، فلم تدع للنفس مذهبا في الشك والتردد، إذ قالت: اقصد عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر.]] يريد: وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما أشبه ذلك، إذْ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به، [[الضمير في قوله، "وصفها" إلى العرب، فيما سلف.]] إبانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ ، إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده، وهو محسن في إسلامه له جسده، فله أجره عند ربه. فاكتفى بذكر"الوجه" من ذكر"جسده" لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر"الوجه". * * * وأما قوله: ﴿وهو محسن﴾ ، فإنه يعني به: في حال إحسانه. وتأويل الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له، محسنا في فعله ذلك. * * * القول في تأويل قوله: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) ﴾ قال أبو جعفر: يعنى بقوله جل ثناؤه: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ ، فللمسلم وجهه لله محسنا، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه، عند الله في معاده. * * * ويعني بقوله: ﴿ولا خوف عليهم﴾ ، على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون، المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه وعذاب جحيمه، وما قدموا عليه من أعمالهم. * * * ويعني بقوله: ﴿ولا هم يحزنون﴾ ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته. * * * وإنما قال جل ثناؤه: ﴿ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ ، وقد قال قبل: ﴿فله أجره عند ربه﴾ ، لأن"من" التي في قوله: ﴿بلى من أسلم وجهه لله﴾ ، في لفظ واحد ومعنى جميع، فالتوحيد في قوله: ﴿فله أجره﴾ للفظ، والجمع في قوله: ﴿ولا خوف عليهم﴾ ، للمعنى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب