الباحث القرآني

القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) ﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهلُ العربية في رافعِ "مَثَلُ". فقال بعض نحويي البصرة: إنما هو كأنه قال: ومما نقصّ عليكم مَثَلُ الذين كفروا، ثم أقبل يفسّر، كما قال: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ﴾ [سورة الرعد: ٣٥] ، وهذا كثير. [[انظر ما سلف قريبًا: ٤٦٩ - ٤٧٢]] * * * وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما المثل للأعمال، ولكن العرب تقدّم الأسماء، لأنها أعرفُ، ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه. ومعنى الكلام: مَثَلُ أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، كما قيل: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [سورة الزمر: ٦٠] ، ومعنى الكلام: [[انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٨، وسيبويه ١: ٧٧.]] ويوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة. قال: ولو خفض "الأعمال" جاز، كما قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ الآية [سورة البقرة: ٢١٧] ،. وقوله: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ [سورة الرعد: ٣٥] . قال: فـ"تجري"، هو في موضع الخبر، كأنه قال: أن تجري، وأن يكون كذا وكذا، فلو أدخل "أن" جاز. قال: ومنه قول الشاعر: [[هو عدي بن زيد بن العبادي، ونسبه سيبويه لرجل من بجيله أو خثعم.]] ذَرِينِي إِنَّ أَمْرَكِ لَنْ يُطَاعَا ... وَمَا أَلْفَيْتِنِي حِلْمِي مُضَاعَا ... [[سيبويه ١: ٧٧، ٧٨ / والخزانة ٢: ٣٦٨، ٣٦٩ / والعيني بهامش الخزانة ٤: ١٩٢ / وسيأتي في التفسير ٢٤: ١٥ (بولاق) ، من أبيات عزيزة هذا أولها، يقول بعده: ألاَ تِلْكَ الثَّعَالِبُ قَدْ تَعَاوَتْ ... عَلَيَّ وَحَالَفَتْ عُرْجًا ضِبَاعَا لِتَاكُلَنِي، فَمَرَّ لَهُنَّ لَحْمِي ... وأَذْرَقَ مِنْ حِذَارِي أَوْ أَتَاعَا فَإِنْ لَمْ تَنْدَمُوا فَثَكِلْتُ عَمْرًا ... وَهَاجَرْتُ المُرَوَّقَ والسَّماعَا وَلاَ وَضَعَتْ إِلَيَّ عَلَى فِرَاشٍ ... حَصَانٌ يَوْمَ خَلْوَتِهَا قِنَاعَا وَلاَ مَلَكَتْ يَدَايَ عِنَانَ طِرْفٍ ... ولا أَبْصَرْتُ من شَمْسٍ شُعَاعَا وخُطَّةِ مَاجِدٍ كَلَّفْتُ نَفْسِي ... إِذَا ضَاقُوا رَحُبْتُ بِهَا ذِرَاعَا والبيتان الأول والثاني من هذه الأبيات، في المعاني الكبير ٨٦٧، واللسان (مرد) (ذرق) (فرق) . ولم أجد لهذه الأبيات خبرًا بعد، وأتوهمها في أقوام تحالفوا على أذاه، جعل بعضهم ثعالب لمكرها وخداعها، وبعضها ضباعًا، لدناءتها وموقها، والضباع موصوفة بالحمق (الحيوان ٧: ٣٨) وقول صاحب الخزانة: " أراد بالثعالب، الذين لاموه على جوده حسدًا ولؤمًا " قول مرغوب عنه. و " الضباع " عرج، فيها خمع. و " تعاوت " تجمعت، كما تتعاوى الذئاب فتجتمع. " ومر اللحم "، و " أمر، كان مرًا لا يستساغ. و " أذرق، أي جعلها تذرق، يقال: " ذرق الطائر، إذا خذق بسلحه، أي قذف، وهو هنا مستعار. إشارة إلى أن ذا بطونهم قد أساله الخوف حتى صار كسلح الطير مائعًا. و " أتاع " حملهم على القيء يعني من الخوف أيضًا " تاع القيء يتيع " خرج. ويرى " فأفرق " وهو مثل " أذرق " في المعنى هنا. و " عمرو " المذكور في شعر عدي، لا أكاد أشك أنه أخوه " عمرو بن زيد "، (الأغاني ٢: ١٠٥) قال: " كان لعدَي بن زيد أخوان، أحدهما اسمه عمار، ولقبه أبي، والآخر اسمه عمرو، ولقبه سمي ". و " المروق "، الخمر، لأنها تصفى بالراووق. و " السماع "، الغناء، يدعو على نفسه أن ينخلع من لذات الدنيا إذا لم يندموا على مغبة كيدهم له.]] قال: فالحلمُ منصوبٌ ب "ألفيتُ" على التكرير، [[" التكرير "، هو البدل عند البصريين، ويسميه الكوفيون أيضًا " التبيين "، انظر ما سلف ٥٢٩ تعليق: ٢.]] قال: ولو رفعه كان صوابًا. قال: وهذا مثلٌ ضربه الله لأعمال الكفّار فقال: مَثَلُ أعمال الذين كفروا يوم القيامة، التي كانوا يعملونها في الدنيا يزعمُون أنهم يريدون الله بها، مَثَلُ رمادٍ عصفت الريح عليه في يومِ ريح عاصفٍ، فنسفته وذهبت به، فكذلك أعمال أهل الكفر به يوم القيامة، لا يجدون منها شيئًا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه، لأنهم لم يكونوا يعملونها لله خالصًا، بل كانوا يشركون فيها الأوثان والأصنام. يقول الله عز وجل: ﴿ذلك هو الضلال البعيد﴾ ، يعني أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا، التي يشركون فيها مع الله شركاء، هي أعمالٌ عُملت على غير هُدًى واستقامة، بل على جَوْر عن الهُدَى بعيد، وأخذٍ على غير استقامة شديد. * * * وقيل: ﴿في يوم عاصف﴾ ، فوصف بالعُصوف اليومَ، [[في المطبوعة حذف " اليوم "، اجتراء وتحكمًا.]] وهو من صفة الريح، لأن الريح تكون فيه، كما يقال: "يوم بارد، ويوم حارّ"، لأن البردَ والحرارة يكونان فيه، [[انظر تفسير " عاصف " فيما سلف ١٥: ٥١.]] وكما قال الشاعر: [[لم أعرف قائله.]] * يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْمًا شَمْسًا * [[سيأتي في التفسير ٢٤: ٦٧ (بولاق) ، وبعده هناك: * نَجْمَيْنِ بِالسَّعْدِ ونَجْمًا نَحْسَا *]] فوصف اليومين بالغيمين، وإنما يكون الغيم فيهما. وقد يجوز أن يكون أريد به: في يوم عاصف الريح، فحذفت "الريح"، لأنها قد ذكرت قبل ذلك، فيكون ذلك نظير قول الشاعر: [[هو مسكين الدارمي.]] * إِذَا جَاءَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كَاسِفُ * [[من أبيات خرجتها فيما سلف ٧: ٥٢٠، تعليق: ٣. وانظر الخزانة ٢: ٣٢٣ وصدر البيت: * وتَضْحَكُ عِرْفَانَ الدُّرُوعِ جُلُودُنَا *]] يريد: كاسفُ الشمس. وقيل: هو من نعت "الريح" خاصة، غير أنه لما جاء بعد "اليوم" أُتبع إعرابَهُ، وذلك أن العرب تتبع الخفضَ الخفضَ في النعوت، كما قال الشاعر: [[هو ذو الرمة.]] تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرِ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلا نَدَبُ [[ديوانه: ٤، من عقيلته المحجبة بالحسن. وهذا البيت من أبيات في صفة صاحبته مي. = و " السنة "، ما أقبل عليك من الوجه وصفحة الحد مصقولا يلوح. و " غير مقرنة "، لا يشوب معارفها ولا لونها شيء يهجنها، وذلك من عتقها. و " الندب "، أثر الجرح إذا لم يرتفع.]] فخفض "غير" إتباعًا لإعراب "الوجه"، وإنما هي من نعت "السنَّة"، والمعنى: سُنَّةَ وَجْه غَيْرَ مُقْرفة، وكما قالوا: "هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٦٣٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: ﴿كرماد اشتدت به الريح﴾ ، قال: حملته الريح في يوم عاصف. ٢٠٦٣٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ﴿مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف﴾ ، يقول: الذين كفروا بربهم وعبدوا غيرَه، فأعمالهم يوم القيامة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم، كما لا يُقْدَر على الرماد إذا أُرْسِل في يوم عاصف. [[في المطبوعة: " إذا أرسل عليه الريح في يوم عاصف "، زاد ما لا معنى له.]] * * * وقوله: ﴿ذلك هو الضَّلال البعيد﴾ ، أي الخطأ البينُ، البعيدُ عن طريق الحق. [[من أول: " وقوله: ذلك هو ... "، ليس في المخطوطة، ولست أدري من أين جاء به ناشر المطبوعة، فتركته على حالة، حتى أقطع بأنه ليس من كلام أبي جعفر. = وانظر تفسير " الضلال "، و " البعيد "، فيما سلف من فهارس اللغة.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب