القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ: وإما نرينك، يا محمد في حياتك بعضَ الذي نعدُ هؤلاء المشركين بالله من العقاب على كفرهم= أو نتوفيَنَّكَ قبل أن نُريَك ذلك، فإنما عليك أن تنتهِيَ إلى طاعة ربك فيما أمرك به من تبليغهم رسالتَه، لا طلبَ صلاحِهم ولا فسادهِم، وعلينا محاسبتهم، فمجازاتهم بأعمالهم، إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ. [[انظر مراجع ألفاظ هذه الآية في فهارس اللغة.]]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: أولم ير هؤلاء المشركون مِنْ أهل مكة الذين يسألون محمدًا الآيات، أنا نأتي الأرض فنفتَحُها له أرضًا بعد أرض حَوَالَيْ أرضهم؟ أفلا يخافون أن نفتح لَهُ أرضَهم كما فتحنا له غيرها؟
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٥١٤- حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا هشيم، عن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ﴿أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض؟ [[الأثر: ٢٠٥١٤ -" الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني"، شيخ الطبري، مضى مرارًا، آخرها قريبًا رقم: ٢٠٤١١.
و"محمد بن الصباح الدولابي"، أبو جعفر البزاز البغدادي، ثقة روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ١ / ١١٨، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ٢٨٩، وتاريخ بغداد ٥: ٣٦٥.]]
٢٠٥١٥- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ﴿أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، يعني بذلك: ما فتح الله على محمد. يقول: فذلك نُقْصَانها.
٢٠٥١٦- حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: ما تغلَّبتَ عليه من أرضِ العدوّ.
٢٠٥١٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: كان الحسن يقول في قوله: ﴿أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، هو ظهور المسلمين على المشركين. [[في المطبوعة:" فهو ظهور".]]
٢٠٥١٨- حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، يعنى أن نبي الله ﷺ كان يُنْتَقَصُ له ما حوله من الأرَضِين، ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون قال الله في"سورة الأنبياء": ﴿نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [سورة الأنبياء:٤٤] ، بل نبي الله ﷺ وأصحابه هم الغالبون.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: أولم يروا أنا نأتي الأرض فنخرِّبها، أو لا يَخَافون أن نفعل بهم وبأرضهم مثل ذلك فنهلكهم ونخرِّب أرضهم؟
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٥١٩- حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) ، قال: أولم يروا إلى القرية تخربُ حتى يكون العُمْران في ناحية؟ [[الأثر: ٢٠٥١٩ -" علي بن عاصم بن صهيب الواسطي"، متكلم فيه لغلطه ثم لجاجه، مضى برقم: ٥٤٢٧.
و" حصين بن عبد الرحمن السلمي"، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: ١٧٢٣٧.]]
٢٠٥٢٠- ... قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن الأعرج، أنه سمع مجاهدًا يقول: ﴿نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: خرابُها.
٢٠٥٢١- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الأعرج، عن مجاهد مثله= قال: وقال ابن جريج: خرابُها وهلاك الناس.
٢٠٥٢٢- حدثنا أحمد قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي جعفر الفرَّاء، عن عكرمة قوله: ﴿أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: نخرِّب من أطرافها. [[الأثر: ٢٠٥٢٢ -" أبو جعفر الفراء"، كوفي، مختلف في اسمه قيل" كسيان"، وقيل" سلمان"، وقيل" زيادة"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤ / ١ / ٢٣٤، وابن أبي حاتم ٣ /٢ / ١٦٦، وابن سعد في طبقاته ٦: ٢٣٠، والكنى والأسماء للدولابي ١: ١٣٤، ١٣٥، وفي التاريخ الكبير، وفي إحدى نسخ ابن أبي حاتم" القراد" بالقاف والدال، وهذا مشكل، والأرجح" الفراء". وانظر العلل لأحمد ١: ١٠٤، ٣٦٠، خبر له هناك.، وفيه" الفراء" أيضًا.]]
* * *
وقال آخرون: بل معناه: ننقص من بَرَكتها وثَمرتها وأهلِها بالموت.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٢٣- حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ﴿ننقصها من أطرافها﴾ يقول: نقصان أهلِها وبركتها.
٢٠٥٢٤- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: ﴿ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: في الأنفس وفي الثمرات، وفي خراب الأرض.
٢٠٥٢٥- حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن طلحة القناد، عمن سمع الشعبي قال: لو كانت الأرض تُنْقَص لضَاق عليك حُشَّك، [[" الحش" البستان، والمتوضأ، حيث يقضي المرء حاجته. وانظر ما سلف ١٥: ٥١٨، تعليق: ٢. ثم انظر الخبر رقم: ٢٠٥٣١.]] ولكن تُنْقَص الأنفُس والثَّمرات.
* * *
وقال آخرون: معناه: أنا نأتي الأرض ننقصها من أهلها، فنتطرَّفهم بأخذهم بالموت. [[يعني بقولهم:"نتطرفهم"، أي نأخذ من أطرافهم ونواحيهم، وهو عربي جيد.]]
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٢٦- حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: موت أهلها.
٢٠٥٢٧- حدثنا ابن بشار قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: ﴿أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: الموت. [[الأثر: ٢٠٥٢٧ -" يحيى، هو" يحيى بن سعيد القطان"، مضى مرارًا.
و" سفيان"، هو الثوري، مضى مرارًا.]]
٢٠٥٢٨- حدثني المثنى قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا هارون النحوي قال: حدثنا الزبير بن الخِرِّيت عن عكرمة، في قوله: ﴿ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: هو الموت. ثم قال: لو كانت الأرض تنقص لم نجد مكانًا نجلسُ فيه. [[الأثر: ٢٠٥٢٨ -" هارون النحوي"، هو" هارون بن موسى النحوي"، سلف مرارا.
و"الزبير بن الخريت"، سلف قريبًا رقم: ٢٠٤١٠، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا وهناك:" الزبير بن الحارث"، وهو خطأ.]]
٢٠٥٢٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ﴿نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: كان عكرمة يقول: هو قَبْضُ الناس.
٢٠٥٣٠- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: سئل عكرمة عن نقص الأرض قال: قبضُ الناس.
٢٠٥٣١- حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة في قوله: ﴿أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: لو كان كما يقولون لما وجَد أحدكم جُبًّا يخرَأ فيه.
٢٠٥٣٢- حدثنا الفضل بن الصباح قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن أبي رجاء قال: سئل عكرمة وأنا أسمع عن هذه الآية: ﴿أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، قال: الموت.
* * *
وقال آخرون: ﴿ننقُصها من أطرافها﴾ بذهاب فُقَهائها وخِيارها.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٥٣٣- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ذهابُ علمائها وفقهائِها وخيار أهلِها. [[الأثر: ٢٠٥٣٢ - رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٥٠، من طريق الثوري عن طلحة بن عمرو، وقال:" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي، فقال:" طلحة بن عمرو"، قال أحمد:" متروك".]]
٢٠٥٣٤- قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا عبد الوهاب، عن مجاهد قال: موتُ العلماء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قولُ من قال: ﴿أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ ، بظهور المسلمين من أصحاب محمد ﷺ عليها وقَهْرِهم أهلها، أفلا يعتبرون بذلك فيخافون ظُهورَهم على أرْضِهم وقَهْرَهم إياهم؟ وذلك أن الله توعَّد الذين سألوا رسولَه الآيات من مشركي قومه بقوله: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَعَليْنَا الْحِسَابُ﴾ ، ثم وبَّخهم تعالى ذكره بسوء اعتبارهم ما يعاينون من فعل الله بضُرَبائهم من الكفار، وهم مع ذلك يسألون الآيات، فقال: ﴿أولم يرَوْا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ بقهر أهلها، والغلبة عليها من أطرافها وجوانبها، [[انظر تفسير" الطرف" فيما سلف ٧: ١٩٢.]] وهم لا يعتبرون بما يَرَوْن من ذلك.
* * *
وأما قوله: ﴿والله يحكُم لا مُعَقّب لحكمه﴾ ، يقول: والله هو الذي يحكم فيَنْفُذُ حكمُه، ويَقْضي فيَمْضِي قضاؤه، وإذا جاء هؤلاء المشركين بالله من أهل مكة حُكْم الله وقضاؤُه لم يستطيعوا رَدَّهَ. ويعني بقوله: ﴿لا معقّب لحكمه﴾ : لا راد لحكمه،
* * *
"والمعقب"، في كلام العرب، هو الذي يكرُّ على الشيء. [[انظر تفسير مادة (عقب) فيما سلف من فهارس اللغة. ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٣٤.]]
* * *
وقوله: ﴿وهو سريع الحساب﴾ ، يقول: والله سريع الحساب يُحْصي أعمال هؤلاء المشركين، لا يخفى عليه شيء، وهو من وراءِ جزائهم عليها. [[انظر تفسير" سريع الحساب" فيما سلف من فهارس اللغة.]]
{"ayahs_start":40,"ayahs":["وَإِن مَّا نُرِیَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِی نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّیَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَیۡكَ ٱلۡبَلَـٰغُ وَعَلَیۡنَا ٱلۡحِسَابُ","أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا نَأۡتِی ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ یَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ"],"ayah":"وَإِن مَّا نُرِیَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِی نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّیَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَیۡكَ ٱلۡبَلَـٰغُ وَعَلَیۡنَا ٱلۡحِسَابُ"}