القول في تأويل قوله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول ﴿جنات عدن﴾ ، ترجمة عن ﴿عقبى الدار﴾ [[" الترجمة"، هي عند الكوفيين،" عطف البيان" و" البدل" عند البصريين، انظر ما سلف ٢: ٣٤٠، ٣٧٤، ٤٢٠، ٤٢٥، ٤٢٦، ثم سائر الأجزاء في فهرس المصطلحات.]] كما يقال:"نعم الرجل عبد الله"، فعبد الله هو الرجل المقول له:"نعم الرجل"، وتأويل الكلام: أولئك لهم عَقيِبَ طاعتهم ربِّهم الدارُ التي هي جَنَّات عدْنٍ.
* * *
وقد بينا معنى قوله: ﴿عدن﴾ ، وأنه بمعنى الإقامة التي لا ظَعْنَ معها. [[انظر تفسير" جنات عدن" فيما سلف ١٤: ٣٥٠ - ٣٥٥.]]
* * *
وقوله: ﴿ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم﴾ ، يقول تعالى ذكره: جنات عدن يدخلها هؤلاء الذين وصف صفتهم= وهم الذين يوفون بعهد الله، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، وأقاموا الصلاة، وفعلوا الأفعال التي ذكرها جل ثناؤه في هذه الآيات الثلاث= ﴿ومن صلح من آبائهم وأزواجهم﴾ ، وهي نساؤهم وأهلوهم= و"ذرّيّاتهم". [[انظر تفسير" الأزواج" فيما سلف ١٢: ١٥٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير" الذرية" فيما سلف ١٥: ١٦٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.]] . و"صلاحهم" إيمانهم بالله واتباعهم أمره وأمر رسوله عليه السلام. كما:-
٢٠٣٣٨- حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ﴿ومن صلح من آبائهم﴾ قال: من آمن في الدنيا.
٢٠٣٣٩- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد=
٢٠٣٤٠- وحدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٠٣٤١- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ﴿ومن صلح من آبائهم﴾ قال: من آمن من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.
* * *
وقوله: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم﴾ ، يقول: تعالى ذكره: وتدخل الملائكة على هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه صفتهم في هذه الآيات الثلاث في جنات عدن، من كل باب منها، يقولون لهم: ﴿سلام عليكم بما صبرتم﴾ على طاعة ربكم في الدنيا= ﴿فنعم عقبى الدار﴾ .
* * *
وذكر أن لجنات عدن خمسة آلاف باب.
٢٠٣٤٢- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا علي بن جرير قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو قال: إن في الجنة قصرًا يقال له"عدن"، حوله البروج والمروج، فيه خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبَرة، [[" الحبرة" بكسر الحاء وفتح الباء، ضرب من برود اليمن منمر.]] لا يدخله إلا نبيٌ أو صديق أو شهيدٌ. [[الأثر: ٢٠٣٤٢ -" علي بن جرير"، مضى آنفًا برقم: ٢٠٢١٢، ولم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم، وهي مختلفة.
و" حماد بن سلمة"، ثقة مشهور، مضى مرارًا.
و" يعلي بن عطاء العامري"، ثقة مضى مرارًا، آخرها: ١٧٩٨١.
و" نافع بن عاصم الثقفي"، تابعي ثقة، مضى برقم: ١٥٤٠٢.
وهذا إسناد صحيح إلى عبد الله بن عمرو، لولا ما فيه من جهالة" علي بن جرير" هذا. وهو موقوف على عبد الله بن عمرو، لم أجد من رفعه.]]
٢٠٣٤٣- ... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: ﴿جنات عدن﴾ قال: مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناسُ حولهم بعدد الجنات حوْلها.
* * *
وحذف من قوله: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم﴾ ،"يقولون"، [[أي" وحذف ... يقولون".]] اكتفاءً بدلالة الكلام عليه، كما حذف ذلك من قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أبْصَرْنَا﴾ . [سورة السجدة:١٢]
* * *
٢٠٣٤٤- حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن بقية بن الوليد قال: حدثني أرطاة بن المنذر قال: سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له"أبو الحجاج"، يقول: جلست إلى أبي أمامة فقال: إن المؤمن ليكون متّكئًا على أريكته إذا دخل الجنة، وعنده سِمَاطان من خَدَمٍ، وعند طرف السِّماطين بابٌ مبوَّبٌ، [[في المطبوعة:" وعند طرف السماطين سور"، مكان" باب مبوب"، لأنه لم يحسن قراءة المخطوطة. وقوله:" باب مبوب"، يعني مصنوع معقود. إن شئت قلت: قد اتخذ له بوابًا يحرسه.]] فيقبل المَلَك يستأذن؛ فيقول أقصى الخدم للذي يليه: [[كانت العبارة في المطبوعة فاسدة مع زيادة جملة كاملة، وهي" فيقول الذي يليه ملك يستأذن" مكررة، وفي المخطوطة كالذي أثبت، إلا أنه أسقط من الكلام" أقصى الخدم"، فأثبتها من الدر المنثور.]] "ملك يستأذن"، ويقول الذي يليه للذي يليه: ملك يستأذن حتى يبلغ المؤمن فيقول: ائذنوا. فيقول: أقربهم إلى المؤمن ائذنوا. ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا. فكذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له، فيدخل فيسلّم ثم ينصرف. [[الأثر: ٢٠٣٤٤ -" بقية بن الوليد"، ثقة، مضى مرارًا، ولكن في حديثه مناكير، أكثرها عن المجاهيل، وهو كما قال الجوزجاني:" إذا تفرد بالرواية فغير محتج به لكثرة وهمه. ومع أن مسلمًا وجماعة من الأئمة قد أخرجوا عنه اعتبارًا واستشهادًا، إلا أنهم جعلوا تفرده أصلا".
و" أرطأة بن المنذر الألهاني"، ثقة، كان عابدًا، مضى برقم: ١٧٩٨٧.
وأما" أبو الحجاج، رجل من مشيخة الجند"، فأمره مشكل.
وذلك أن ابن قيم الجوزية، رواه من طريق بقية بن الوليد عن أرطأة بن المنذر وفيه" أبو الحجاج"، وكذلك رواه من هذه الطريق نفسها، ابن كثير في التفسير، ثم قال:" رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش، عن أرطأة بن المنذر، عن أبي الحجاج يوسف الألهاني قال سمعت أبا أمامة"، فصرح باسم" أبي الحجاج" وأنه" يوسف الألهاني" (حادي الأرواح ٢: ٣٨ / تفسير ابن كثير ٤: ٥٢) .
ولما طلبت" يوسف الألهاني"، وجدته في التاريخ الكبير للبخاري ٤ / ٢ / ٣٧٦، ٣٧٧ قال:" يوسف الألهاني أبو الضحاك الحمصي، سمع أبا أمامة الباهلي وابن عمر، وروى عنه أرطأة. حدثنا إسحق بن يزيد، قال حدثنا أبو مطيع معاوية، سمع أرطأة، سمع أبا الضحاك".
ووجدته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٣٥:" يوسف الألهاني، أبو الضحاك الحمصي، روى ابن عمر وأبي أمامة، عنه أرطأة بن المنذر".
والذي نقله ابن كثير عن تفسير ابن أبي حاتم نفسه فيه:" أبو الحجاج يوسف الألهاني"، والذي في الجرح والتعديل:" أبو الضحاك"، يؤيده ما جاء في التاريخ الكبير. والمشكل أن يتفق نص ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. ونص البخاري، ثم يختلف نقل ابن كثير عن تفسير ابن أبي حاتم، متفقًا مع ما جاء في نسخ الطبري ومن نقل عنه، وكنيته فيها" أبو الحجاج"، والذي أرجحه أن الصواب هو ما في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم:" أبو الضحاك".
ومع كل ذلك لم أجد ما يهديني إلى الصواب المحقق، و" يوسف الألهاني"" أبو الضحاك"، أو" أبو الحجاج"، تابعي كما ترى، ولكن لم أجد له ذكرًا في غير ما ذكرت من كتب، ولم يبين حاله.
فهذا إسناد فيه نظر، لما وجدت في التابعي من الاختلاف، وقد رأيت أيضًا أنه لم يتفرد بروايته بقية بن الوليد، عن أرطاة بن المنذر فيكون تفرد فيه بقية قادحًا في إسناده. فقد رواه عن أرطاة أيضًا" إسماعيل بن عياش". ومع ذلك يظل في الإسناد شيء، وفي النفس منه شيء.
و" إسماعيل بن عياش الحمصي"، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٤٢١٢، وهو ثقة، ولكنهم تكلموا فيه، وضعفوه في بعض حديثه.]]
٢٠٣٤٥- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إبراهيم بن محمد، عن سُهَيْل بن أبي صالح، عن محمد بن إبراهيم قال: كان النبي ﷺ يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول:"السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"، وأبو بكر وعمر وعثمان. [[الأثر: ٢٠٣٤٥ -" إبراهيم بن محمد"، هو" إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري"، ثقة مأمون، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١١٣٥٨.
و" سهيل بن أبي صالح، ذكوان السمان"، ثقة، روى له الجماعة، متكلم في بعض روايته. مضى أخيرًا برقم: ١١٥٠٣، وكان في المطبوعة:" سهل" غير مصغر، وهو خطأ. لم يحسن الناشر قراءة المخطوطة لأنها غير منقوطة.
و" محمد بن إبراهيم"، لعله:" محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي"، تابعي ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ١ / ٢٢، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ١٨٤.]]
* * *
وأما قوله: ﴿سلام عليكم بما صبرتم﴾ فإن أهل التأويل قالوا في ذلك نحو قولنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٣٤٦- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني أنه تلا هذه الآية: ﴿سلام عليكم بما صبرتم﴾ قال: على دينكم.
٢٠٣٤٧- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ﴿سلام عليكم بما صبرتم﴾ قال: حين صبروا بما يحبه الله فقدّموه. وقرأ: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحرِيرًا﴾ ، حتى بلغ: ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [سورة الإنسان:٢-٢٢] وصبروا عما كره الله وحرم عليهم، وصبروا على ما ثقل عليهم وأحبه الله، فسلم عليهم بذلك. وقرأ: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾ .
* * *
وأما قوله: ﴿فنعم عقبى الدار﴾ فإن معناه إن شاء الله كما:-
٢٠٣٤٨- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال حدثنا عبد الرزاق، عن جعفر، عن أبي عمران الجوني في قولهم ﴿فنعم عقبى الدار﴾ قال: الجنة من النار. [[أي الجنة بدلا من النار، كما سلف في ص: ٤٢٢.]]
{"ayahs_start":23,"ayahs":["جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ یَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَدۡخُلُونَ عَلَیۡهِم مِّن كُلِّ بَابࣲ","سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ"],"ayah":"سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ"}