القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (١٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لله من خلقه الدعوة الحق، و"الدعوة" هي"الحق" كما أضيفت الدار إلى الآخرة في قوله: ﴿ولَدَارُ الآخِرَةِ﴾ [سورة يوسف: ١٠٩] ، وقد بينا ذلك فيما مضى. [[انظر ما سلف ص: ٢٩٤، ٢٩٥.]]
وإنما عنى بالدعوة الحق، توحيد الله وشهادةَ أن لا إله إلا الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٢٨٠- حدثنا أحمد بن إسحاق قال حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: ﴿دعوة الحق﴾ ، قال: لا إله إلا الله.
٢٠٢٨١- حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ﴿له دعوة الحق﴾ قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
٢٠٢٨٢- ... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا سيف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي رضي الله عنه: ﴿له دعوة الحق﴾ قال: التوحيد. [[الأثر: ٢٠٢٨٢ - مضى هذا الإسناد الهالك مرارًا آخرها رقم: ٢٠٢٧٣.]]
٢٠٢٨٣- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ﴿له دعوة الحق﴾ قال: لا إله إلا الله.
٢٠٢٨٤- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس، في قوله: ﴿له دعوة الحق﴾ قال: لا إله إلا الله.
٢٠٢٨٥- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ﴿له دعوة الحق﴾ : لا إله إلا الله ليست تنبغي لأحد غيره، لا ينبغي أن يقال: فلان إله بني فلان.
* * *
وقوله: ﴿والذين يدعون من دونه﴾ يقول تعالى ذكره: والآلهة التي يَدْعونها المشركون أربابًا وآلهة.
* * *
وقوله ﴿من دونه﴾ يقول: من دون الله.
* * *
وإنما عنى بقوله: ﴿من دونه﴾ الآلهة أنها مقصِّرة عنه، وأنَّها لا تكون إلهًا، ولا يجوز أن يكون إلهًا إلا الله الواحد القهار، [[انظر تفسير" دون" في فهارس اللغة (دون) .]] ومنه قول الشاعر: [[هو جرير.]]
أتُوعِدُنِي وَرَاء بَنِي رِيَاحٍ؟ ... كَذَبْتَ لَتَقْصُرَنّ يَدَاكَ دُونِي [[ديوانه ٥٧٧، والنقائض: ٣١، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٢٦ والأضداد لابن الأنباري: ٥٨، وسيأتي التفسير قريبًا ١٣: ١٣٠ (بولاق) وغيرها كثير، يهجو فضالة من بني عرين.]]
يعني: لتقصرنَّ يداك عني.
* * *
وقوله: ﴿لا يستجيبون لهم بشيء،﴾ يقول: لا تجيب هذه الآلهة التي يدعوها هؤلاء المشركون آلهةً بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرٍّ = ﴿إلا كباسط كفيه إلى الماء﴾ ، يقول: لا ينفع داعي الآلهة دعاؤه إياها إلا كما ينفع باسط كفيه إلى الماء بسطُه إياهما إليه من غير أن يرفعه إليه في إناء، ولكن ليرتفع إليه بدعائه إياه وإشارته إليه وقبضه عليه.
* * *
والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض على الماء، [[قالوا في المثل: كالقابض على الماء"، انظر أمثال الميداني ٢: ٨٠، وجمهرة الأمثال: ١٦٤.]] قال بعضهم: [[هو ضابئ بن الحارث البرجمي.]]
فإنِّي وإيَّاكُمْ وَشَوْقًا إلَيْكُمُ ... كَقَابِضِ مَاءٍ لَمْ تَسِقْهُ أَنَامِلُه [[من قصيدته التي قالها في السجن، وكان أعد حديدة يريد أن يغتال بها عثمان بن عفان رضي الله عنه وشعره في خزانة الأدب ٤: ٨٠، وفي طبقات فحول الشعراء: ١٤٥، وتاريخ الطبري ٥: ١٣٧ / ٧: ٢١٣، والبيت في الخزانة، وفي اللسان (وسق) ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٢٧، وغريب القرآن لابن قتيبة: ٢٢٦. وقوله:" لم تسقه"، من" وسقت الشيء أسقه وسقًا"، إذا حملته.]]
يعني بذلك: أنه ليس في يده من ذلك إلا كما في يد القابض على الماء، لأن القابض على الماء لا شيء في يده. وقال آخر: [[هو الأحوص بن محمد الأنصاري.]]
فَأَصْبَحْتُ مِمَّا كانَ بَيْنِي وبَيْنهَا ... مِنَ الوُدِّ مِثْلَ القَابِضِ المَاءَ بِاليَد [[الزهرة: ١٨٣، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣٢٧، وقبله: فوَاندَمِي إذْ لم أَعُجْ، إذ تقولُ لِي ... تقدَّمْ فَشَيِّعنا إلى ضَحْوةِ الغَدِ
ووراية الزهرة: سِوَى ذِكْرها، كالقابضَ الماءَ باليدِ
* وهي رواية جيدة جدًا، خير مما روى أبو عبيدة والطبري.]]
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٢٨٦- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا سيف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي رضي الله عنه، في قوله: ﴿إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه﴾ قال: كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه. [[الأثر: ٢٠٢٨٦ - هذا أيضًا هو الإسناد الهالك الذي مضى برقم: ٢٠٢٨٢.]]
٢٠٢٨٧- حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ﴿كباسط كفيه إلى الماء﴾ يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده، ولا يأتيه أبدًا.
٢٠٢٨٨- ... قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني الأعرج، عن مجاهد: ﴿ليبلغ فاه﴾ يدعوه ليأتيه وما هو بآتيه، كذلك لا يستجيب من هو دونه.
٢٠٢٨٩- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿كباسط كفيه إلى الماء﴾ يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده، فلا يأتيه أبدًا.
٢٠٢٩٠- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
٢٠٢٩١- ... قال: وحدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
٢٠٢٩٢- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج. عن ابن جريج، عن مجاهد= مثل حديث الحسن عن حجاج قال ابن جريج: وقال الأعرج عن مجاهد: ﴿ليبلغ فاه﴾ قال: يدعوه لأن يأتيه وما هو بآتيه، فكذلك لا يستجيب مَنْ دونه.
٢٠٢٩٣- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ﴿والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه﴾ وليس ببالغه حتى يتمزَّع عنقه ويهلك عطشًا قال الله تعالى: ﴿وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ هذا مثل ضربه الله ؛ أي هذا الذي يدعو من دون الله هذا الوثنَ وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبدًا ولا يسُوق إليه خيرًا ولا يدفع عنه سوءًا حتى يأتيه الموت، كمثل هذا الذي بسط ذارعيه إلى الماء ليبلغ فاه ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليتناول خياله فيه، وما هو ببالغ ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
٢٠٢٩٤- حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ﴿كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه﴾ ، فقال: هذا مثل المشرك مع الله غيرَهُ، فمثله كمثل الرَّجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد، فهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه.
* * *
وقال آخرون في ذلك ما:
٢٠٢٩٥- حدثني به محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ﴿والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء﴾ إلى: ﴿وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ يقول: مثل الأوثان والذين يعبدون من دون الله، [[في المطبوعة والمخطوطة:" مثل الأثان الذين يعبدون"، وهو لا يستقيم إلا كما كتبته.]] كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كَرَبه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه، يقول الله: لا تستجيب الآلهة ولا تنفع الذين يعبدونها حتى يبلغ كفّا هذا فاه، وما هما ببالغتين فاه أبدًا.
٢٠٢٩٦- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ﴿والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه﴾ قال: لا ينفعونهم بشيء إلا كما ينفع هذا بكفيه، يعني بَسْطَهما إلى ما لا ينالُ أبدًا.
* * *
وقال آخرون: في ذلك ما:
٢٠٢٩٧- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ﴿إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه﴾ وليس الماء ببالغ فاه ما قام باسطًا كفيه لا يقبضهما= ﴿وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ . قال: هذا مثلٌ ضربه الله لمن اتخذ من دون الله إلهًا أنه غير نافعه، ولا يدفع عنه سوءًا حتى يموت على ذلك.
* * *
وقوله: ﴿وما دعاء الكافرين إلا في ضلال﴾ يقول: وما دعاء من كفر بالله ما يدعو من الأوثان والآلهة= ﴿إلا في ضلال﴾ ، يقول: إلا في غير استقامة ولا هدًى، لأنه يشرك بالله.
{"ayah":"لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا یَسۡتَجِیبُونَ لَهُم بِشَیۡءٍ إِلَّا كَبَـٰسِطِ كَفَّیۡهِ إِلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَـٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ إِلَّا فِی ضَلَـٰلࣲ"}