الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجاءت مارَّةُ الطريق من المسافرين [[انظر تفسير" السيارة" فيما سلف ١٥: ٥٦٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.]] = ﴿فأرسلوا واردهم﴾ وهو الذي يرد المنهل والمنزل، و"وروده إياه"، مصيره إليه ودخوله [[انظر تفسير" الورود" فيما سلف ١٥: ٤٦٦.]] . ﴿فأدلى دلوه﴾ يقول: أرسل دلوه في البئر. * * * يقال:"أدليت الدلو في البئر" إذا أرسلتها فيه، فإذا استقيت فيها قلت:"دلوْتُ أدْلُو دلوًا". * * * وفي الكلام محذوف، استغنى بدلالة ما ذكر عليه، فترك، وذلك: ﴿فأدلى دلوه﴾ = فتعلق به يُوسف، فخرج، فقال المدلي: ﴿يا بشرى هذا غلام﴾ . * * * وبالذي قلنا في ذلك، جاءت الأخبار عن أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٨٨٨٠ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: ﴿وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه﴾ فتعلق يوسف بالحبل، فخرج، فلما رآه صاحب الحبل نادَى رجلا من أصحابه يقال له"بُشرى": ﴿يا بشرى هذا غلامٌ﴾ . ١٨٨٨١ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ﴿فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه﴾ فتشبث الغلام بالدلو، فلما خرج قال: ﴿يا بشرى هذا غلام﴾ . * * * ١٨٨٨٢ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ﴿فأرسلوا واردهم﴾ يقول: أرسلوا رسولهم، فلما أدلى دلوه تشبث بها الغلام ﴿= (قال يا بشرى هذا غلام﴾ . * * * واختلفوا في معنى قوله: ﴿يا بشرى هذا غلام﴾ . فقال بعضهم: ذلك تبشير من المدلي دلوَه أصحابَه، في إصابته يوسف بأنه أصاب عبدًا [[انظر تفسير" البشرى" فيما سلف من فهارس اللغة (بشر) .]] . * ذكر من قال ذلك: ١٨٨٨٣ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿قال يا بشرى هذا غلام﴾ تباشروا به حين أخرجوه. وهي بئر بأرض بيت المقدس معلومٌ مكانها ١٨٨٨٤ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ﴿يا بشرى هذا غلام﴾ قال: بشّرهم واردهم حين وجدَ يوسف. * * * وقال آخرون: بل ذلك اسم رجل من السيَّارة بعينه، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل. * ذكر من قال ذلك: ١٨٨٨٥ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿يا بشرى هذا غلام﴾ قال: نادى رجلا من أصحابه يقال له" بشرى"، فقال: ﴿يا بشرى هذا غلام﴾ . ١٨٨٨٦ - حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا خلف بن هشام، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن قيس بن الربيع، عن السدي، في قوله: ﴿يا بشرى هذا غلام﴾ قال: كان اسم صاحبه"بشرى". ١٨٨٨٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، في قوله: ﴿يا بشرى هذا غلام﴾ قال: اسم الغلام"بشرى" ؛ قال:"يا بشرى"، كما تقول": يا زيد". * * * واختلفت القراء في قراءة ذلك: فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة:" يا بُشْرَيَّ" بإثبات ياء الإضافة، غير أنه أدغم الألف في الياء طلبا للكسرة التي تلزم ما قبل ياء الإضافة من المتكلم، في قولهم": غلامي" و"جاريتي"، في كل حال، وذلك من لغة طيئ، [[ولغة هذيل أيضًا، كما قال الأصمعي.]] كما قال أبو ذؤيب: سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتُخِرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ [[ديوانه (في ديوان الهذليين) ١: ٢، وشرح المفضليات: ٨٥٤، وغيرهما، وهي إحدى عجائب أبي ذؤيب، يقولها في بنيه الذين ماتوا، سبقه بهم الطاعون في عام واحد، وكانوا خمسة: أَوْدَى بَنِيَّ، وأعْقَبُونِي غُصَّةً ... بَعْدَ الرُّقادِ، وعَبْرةً لا تُقْلِعُ سَبَقوا هوَيَّ.............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بعَيْشٍ ناصِبٍ ... وَإخالُ أنِّي لاحِقٌ مُسْتَتْبِعُ يقول: سبقوني بما اختاروه من الموت والذهاب، وساروا سيرًا حثيثًا إلى الذي اختاروه، فتخرمتهم المنية، فأخذتهم واحدًا بعد واحد. ولكل جنب مصرع لا يخطئه، فحيث قدر الله له الميتة أدركته.]] * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ﴿يا بُشْرَى﴾ بإرسال الياء وترك الإضافة. وإذا قرئ ذلك كذلك احتمل وجهين من التأويل: أحدهما ما قاله السدي، وهو أن يكون اسم رجل دعاه المستقي باسمه، كما يقال:"يا زيد"، و"يا عمرو"، فيكون"بشرى" في موضع رفع بالنداء. والآخر: أن يكون أرادَ إضافة البشرى إلى نفسه، فحذف الياء وهو يريدها، فيكون مفردًا وفيه نيَّة الإضافة، كما تفعل العرب في النداء فتقول:"يا نفس اصبري"، و"يا نفسي اصبري"، و"يا بُنَيُّ لا تفعل"، و"يا بُنَيِّ لا تفعل"، فتفرد وترفع، وفيه نية الإضافة. وتضيف أحيانًا فتكسر، كما تقول:"يا غلامِ أقبل"، و"يا غلامي أقبل". * * * قال أبو جعفر: وأعجب القراءة في ذلك إليَّ قراءةُ من قرأه بإرسال الياء وتسكينها ؛ لأنه إن كان اسم رجل بعينِه كان معروفًا فيهم كما قال السدي، فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها [[في المطبوعة والمخطوطة:" فذلك هي....."، والأجود ما أثبت.]] . وإن كان من التبشير فإنه يحتمل ذلك إذا قرئ كذلك على ما بيَّنت. وأما التشديد والإضافة في الياء، فقراءة شاذة، لا أرى القراءة بها، وإن كانت لغة معروفة ؛ لإجماع الحجة من القرأة على خلافها. * * * وأما قوله: ﴿وأسروه بضاعة﴾ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: وأسرَّه الوارد المستقي وأصحابُه من التجار الذين كانوا معهم، وقالوا لهم": هو بضاعة استبضعناها بعضَ أهل مصر" ؛ لأنهم خافوا إن علموا أنهم اشتروه بما اشتروه به أن يطلبوا منهم فيه الشركة. * ذكر من قال ذلك: ١٨٨٨٨ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿وأسرو بضاعة﴾ قال: صاحب الدلو ومن معه، قالوا لأصحابهم:"إنما استبضعناه"، خيفةَ أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه. وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه: استوثق منه لا يأبَقْ! حتى وَقَفوه بمصر، فقال: من يبتاعني ويُبَشَّر؟ فاشتراه الملك، والملك مُسلم. ١٨٨٨٩ - حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه = غير أنه قال: خيفة أن يستشركوهم إن علموا به، واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق! حتى واقفوه بمصر [[في المطبوعة:" حتى أوقفوه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، وانظر هذه الرواية في رقم: ١٨٨٩٢.]] = وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو. ١٨٨٩٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = ١٨٨٩١ -.... قال: وحدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه = غير أنه قال: خيفة أن يشاركوهم فيه، إن علموا بثمنه. ١٨٨٩٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه = إلا أنه قال: خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا ثمنه. وقال أيضًا: حتى أوقفوه بمصر. ١٨٨٩٣ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿وأسروه بضاعة﴾ قال: لما اشتراه الرجلان فَرَقًا من الرفقة أن يقولوا:"اشتريناه" فيسألونهم الشركة، فقالا إن سألونا ما هذا؟ قلنا بضاعة استبضَعَناه أهل الماء. فذلك قوله: ﴿وأسروه بضاعة﴾ بينهم * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأسرّه التجار بعضهم من بعض. * ذكر من قال ذلك: ١٨٨٩٤ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: ﴿وأسروه بضاعة﴾ قال: أسرّه التجار بعضهم من بعض. ١٨٨٩٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم الفضل، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد: ﴿وأسروه بضاعة﴾ قال: أسرّه التجار بعضهم من بعض. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: أسرُّوا بيعَه. * ذكر من قال ذلك: ١٨٨٩٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: ﴿وأسروه بضاعة﴾ قال: أسروا بيعه. ١٨٨٩٧ - حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا قيس، عن جابر، عن مجاهد: ﴿وأسروه بضاعة﴾ قال: قالوا لأهل الماء: إنما هو بضاعة. * * * وقال آخرون: إنما عني بقوله: ﴿وأسروه بضاعة﴾ إخوة يوسف، أنهم أسرُّوا شأن يوسف أن يكون أخَاهم، قالوا: هو عبدٌ لنا. * ذكر من قال ذلك: ١٨٨٩٨ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ﴿وأسروه بضاعة﴾ يعني: إخوة يوسف أسرُّوا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم، فكتم يوسف شأنه مخافةَ أن تقتله إخوته، واختار البيع. فذكره إخوته لوارد القوم، فنادى أصحابه قال: يا بشرى! هذا غلامٌ يباع. فباعه إخوته. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب: قولُ من قال:"وأسرَّ وارد القوم المدلي دلوَه ومن معه من أصحابه، من رفقته السيارة، أمرَ يوسف أنهم أشتروه، خيفةً منهم أن يستشركوهم، وقالوا لهم: هو بضاعة أبضَعَها معنا أهل الماء = وذلك أنه عقيب الخبر عنه، فلأن يكون ما وليه من الخبر خبرًا عنه، أشبهُ من أن يكون خبرًا عمَّن هو بالخبر عنه غيرُ متَّصِل [[انظر تفسير" الإسرار" فيما سلف ١٥: ١٠٣، ٢٣٩.]] . * * * وقوله: ﴿والله عليم بما يعملون﴾ يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بما يعمله باعَةُ يوسف ومشتروه في أمره، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه، وليري إخوة يوسف ويوسف وأباه قدرتَه فيه. [[انظر تفسير" عليم" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .]] * * * وهذا، وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن يوسف نبيّه ﷺ، فإنه تذكير من الله نبيَّه محمدًا ﷺ، وتسلية منه له عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه، يقول: فاصبر، يا محمد، على ما نالك في الله، فإنّي قادرٌ على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون، كما كنت قادرًا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا، ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف عليّ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته، فكذلك تركي تغييرَ ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك عليّ، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم، ثم يصير أمرُك وأمرهم إلى عُلوّك عليهم، وإذعانهم لك، كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسؤدد عليهم، وعلوِّ يوسف عليهم. [[عند هذا الموضع انتهى الجزء الثاني عشر من مخطوطتنا، وفي آخرها ما نصه:" نجز الجزء الثاني عشر، بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم يتلوه في أول الجزء الثالث عشر إن شاء الله تعالى: القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين﴾ وكان الفراغ منه في شهر رمضان المعظم سنة خمس عشرة وسبعمئة". يتلوه الجزء الثالث عشر، وأوله ما نصه: " بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر"]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب