الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ﴿ولقد جاءت رسلنا﴾ ، من الملائكة وهم فيما ذكر، كانوا جبريل وملكين آخرين. وقيل: إن الملكين الآخرين كان ميكائيل وإسرافيل معه = ﴿إبراهيم﴾ ، يعني: إبراهيم خليل الله = ﴿بالبشرى﴾ ، يعني: بالبشارة. [[انظر تفسير " البشرى " فيما سلف من فهارس اللغة (بشر) .]] * * * واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها. فقال بعضهم: هي البشارة بإسحاق. وقال بعضهم: هي البشارة بهلاك قوم لوط. * * * = ﴿قالوا سلاما﴾ ، يقول: فسلموا عليه سلامًا. * * * ونصب "سلامًا" بإعمال "قالوا" فيه، كأنه قيل: قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا. * * * = ﴿قال سلام﴾ ، يقول: قال إبراهيم لهم: سلام = فرفع "سلامٌ"، بمعنى: عليكم السلام= أو بمعنى: سلام منكم. * * * وقد ذكر عن العرب أنها تقول: "سِلْمٌ" بمعنى السلام، كما قالوا: "حِلٌّ وحلالٌ"، وحِرْم وحرام". وذكر الفرَّاء أن بعض العرب أنشده: [[لم أعرف قائله. والذي أنشده الفراء في تفسير هذه الآية بيت آخر غير هذا البيت، شاهدًا على حذف " عليكم "، وهو قوله: فَقُلْنَا: السَّلامُ، فاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرَها ... وَمَا كَانَ إلاَّ وَمْؤُها بالحواجِبِ وأما هذا البيت الذي هنا، فقد ذكره صاحب اللسان في مادة (كلل) ، عن ابن الأعرابي، فلعل الفراء أنشده في مكان آخر.]] مَرَرْنَا فَقُلْنَا إِيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ ... كَمَا اكْتَلَّ بِالَبْرقِ الغَمَامُ الَّلوَائِحُ [[اللسان (كلل) ، يقال: " انكل السحاب عن البرق، واكتل "، أي: لمع به، و" اللوائح " التي لاح برقها، أي لمع وظهر.]] بمعنى سلام. وقد روي "كما انكلّ". * * * وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك: نحن سِلْمٌ لكم = من "المسالمة" التي هي خلاف المحاربة. وهذه قراءة عامَّة قراء الكوفيين. * * * وقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والبصرة، ﴿قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ﴾ ، على أن الجواب من إبراهيم ﷺ لهم، بنحو تسليمهم: عليكم السلام. * * * والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأن "السلم " قد يكون بمعنى "السلام " على ما وصفت، و"السلام " بمعنى "السلم"، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم، ورَدُّ الآخرين عليهم، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضًا. وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ. * * * وقوله: ﴿فما لبث أن جاء بعجل حنيذ﴾ . * * * = وأصله "محنوذ"، صرف من "مفعول" إلى "فعيل". * * * وقد اختلف أهل العربية في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم [[هو أبو عبيدة في مجاز القرآن.]] معنى "المحنوذ": المشويّ، قال: ويقال منه: "حَنَذْتُ فرسي"، بمعنى سخَّنته وعرَّقته. واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز: [[هو العجاج.]] *ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا* [[ديوانه ٩، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٩٢، واللسان (حنذ) ، و (هرج) ، من رجزه المشهور، وهذا البيت من أبيات يصف حمار الوحش وأتنه، لما جاء الصيف، وخرج بهن يطلب الماء البعيد فقال: حَتَّى إِذَا مَا الصَّيْفُ كَانَ أَمَجَا ... وَفَرَعَا مِنْ رَعْىِ مَا تَلَزَّجَا ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا ... تَذَكَّرَا عَيْنًا رِوًى وَفَلَجَا و" الأمج " شدة الحر والعطش، يأخذ بالنفس. و" تلزج الكلأ " تتبعه، و" الحنذ "، شدة الحر وإحراقه. و" هرج البعير " تحير وسدر من شدة الحر.]] * * * وقال آخر منهم: "حنذ فرسه": أي أضمره، وقال: قالوا حَنَذه يحنِذُه حَنْذًا: أي: عرَّقه. * * * وقال بعض أهل الكوفة: كل ما انشوَى في الأرض، إذا خَدَدت له فيه، فدفنته وغممته، فهو "الحنيذ" و"المحنوذ". قال: والخيل تُحْنَذ، إذا القيت عليها الجِلال بعضُها على بعض لتعرق. قال: ويقال: "إذا سَقَيْتَ فَأحْنِذْ"، يعني: أخْفِسْ، يريد: أقلَّ الماء، وأكثر النبيذ. * * * وأما [أهل] التأويل، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره، وذلك ما:- ١٨٢٩٧- حدثني به المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ﴿بعجل حينذ﴾ ، يقول: نضيج ١٨٢٩٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿بعجل حينئذ﴾ ، قال: "بعجل"، [[" الحسيل " (بفتح الحاء وكسر السين) : ولد البقرة.]] حَسِيل البقر، = و"الحنيذ": المشوي النضيج. ١٨٢٩٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ﴿ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى﴾ إلى ﴿بعجل حنيذ﴾ ، [[كان في المطبوعة والمخطوطة هنا " ولما جاءت رسلنا "، وهو سهو من الناسخ، وحق التلاوة ما أثبت. وكذلك جاء سهوًا منه في نص الآية التي يفسرها أبو جعفر، وصححتها، ولم أشر إليه هناك.]] قال: نضيج، سُخِّن، أنضج بالحجارة. ١٨٣٠٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿فما لبث أن جاء بعجل حنيذ﴾ ، و"الحنيذ": النضيج. ١٨٣٠١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ﴿بعجل حنيذ﴾ ، قال: نضيج. قال: [وقال الكلبي] : و"الحنيذ": الذي يُحْنَذُ في الأرض. [[الذي بين القوسين ليس في المخطوطة، وقد تركته على حاله، وإن كنت أشك فيه، وأرجح أنه زيادة من ناسخ آخر، بعد ناسخ مخطوطتنا.]] ١٨٣٠٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر في قوله: ﴿فجاء بعجل حنيذ﴾ ، قال: "الحنيذ": الذي يقطر ماء، وقد شوى = وقال حفص: "الحنيذ": مثل حِنَاذ الخيل. ١٨٣٠٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذبحه ثم شواه في الرَّضْف، [[" الرضف " (بفتح فسكون) الحجارة المحماة على النار. و " شواء مرضوف "، مشوي على الرضفة.]] فهو "الحنيذ" حين شواه. ١٨٣٠٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو يزيد، عن يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية: ﴿فجاء بعجل حنيذ﴾ ، قال: المشويّ الذي يقطر. ١٨٣٠٥- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام قال، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال: "الحنيذ" الذي يقطر ماؤه وقد شُوِي. ١٨٣٠٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ﴿بعجل حنيذ﴾ ، قال: نضيج. ١٨٣٠٧- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿بعجل حنيذ﴾ ، الذي أنضج بالحجارة. ١٨٣٠٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان: ﴿فما لبث أن جاء بعجل حنيذ﴾ ، قال: مشويّ. ١٨٣٠٩- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: "حينذ"، يعني: شُوِي. ١٨٣١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، "الحِناذ": الإنضاج. [[الأثر: ١٨٣١٠ - من خبر الطويل، رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٢٧. وفيه " التحناذ "، وكلاهما مما يزاد على معاجم اللغة.]] * * * قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقارباتُ المعاني بعضها من بعض. * * * وموضع "أن" في قوله: ﴿أن جاء بعجل حنيذ﴾ نصبٌ بقوله: ﴿فما لبث أن جاء﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب