الباحث القرآني

ثم بعد هذا، نزلت بعد فتح مكة وهو قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وذلك أنه لما نزل قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة: 5] ، فأمرهم الله تعالى بأن يقاتلوا ويتوكلوا على الله، ويطلبوا النصرة منه، ولا يعتمدوا على الكثرة والقلة، لأن النصرة من الله تعالى فذلك قوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، يعني: من مشاهد كثيرة وهو يوم بدر، ويوم بني قريظة، ويوم خيبر، ويوم فتح مكة، وخاصة يوم حنين يعني: نصركم الله في مواطن كثيرة. إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، يعني: جماعتكم، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً يعني: عن قضاء الله تعالى لم تغن كثرتكم شيئاً. وذلك أن رسول الله ﷺ خرج إلى حنين في اثني عشر ألفاً، وعشرة آلاف خرجوا معه من المدينة إلى فتح مكة، وخرج معه ألفان من أهل مكة، فَقَالَ رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة: لن نغلب اليوم من قلة. وقد كان فتح مكة في شهر رمضان، وبقيت عليه أيام من رمضان، فمكث حتى دخل شوال. فبعث رسول الله ﷺ رجلاً من بني سليم عيناً له يقال له عبد الله بن أبي حدرد، فأتى حنينا فكان بينهم يسمع أخبارهم، فسمع من مالك بن عوف أمير القوم يقول لأصحابه: أنتم اليوم أربعة آلاف رجل، فإذا لقيتم العدو فاحملوا عليهم حملة رجل واحد، واكسروا جفون سيوفكم، فو الله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئاً إلا أفرج لكم. وكان مالك بن عوف على هوازن، فأقبل ابن أبي حدرد حتى أتى النبيّ ﷺ، فأخبره بمقالتهم، فقال رجل من المسلمين: فو الله يا نبيّ الله ﷺ لا نغلب اليوم من كثرة، فساء رسول الله ﷺ كلمته، وابتلى الله المؤمنين بكلمته تلك. قال الفقيه: حدّثنا أبو جعفر قال: حدثنا الفقيه علي بن أحمد الفارسي قال: حدثنا نصير بن يحيى قال: حدثنا أبو سليمان قال: حدثنا الفقيه محمد بن الحسن، عن مجمع بن يعقوب، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي طلحة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «لما انتهى رسول الله ﷺ إلى وادي حنين، وهو وادي من أودية تهامة له مضايق وشعاب، فاستقبلنا من هوازن جيش لا والله ما رأيت مثله في ذلك قط من السواد والكثرة، وقد ساقوا أموالهم ونساءهم وأبناءهم وراءهم. ثم صفوا، فحملوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال، ثم جاءوا بالإبل والغنم وراء ذلك لكيلا يفروا بزعمهم. فلما رأينا ذلك السواد، حسبناهم رجالاً كلهم. فلما انحدرنا بالوادي، وهو وادي حدور، فبيَّنا نحن فيه إذ شعرنا، أي ما شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضايق الوادي وشعبه، فحملوا علينا حملة رجل واحد. وقد كانت قريش بمكة طلبوا إلى النبيّ ﷺ أن يخرجوا معه إلى حنين، فلم يقل لهم لا ولا نعم، فخرجوا وكانوا هم أول من انهزم من الناس. قال أنس: فولوا دبرهم، وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء. فسمعت رسول الله ﷺ يومئذ يقول، والتفت عن يمينه وعن يساره: «يَا أَنْصَارَ الله وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، أَنَا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ صَابِرٌ اليَوْمَ» ، ثم تقدم بحربته أمام الناس، فو الذي بعثه بالحق ما ضربنا بسيف ولا طعنا برمح، حتى هزمهم الله تعالى. ثم رجع النبيّ ﷺ إلى المعسكر، وأمر بطلبهم وأن يقتل كل من قدر عليه منهم [[عزاه السيوطي: 4/ 159 إلى ابن شيبة وأحمد والحاكم وصححه وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل.]] . وجعلت هوازن تولي، وثاب من انهزم من المسلمين. قال الراوي: فقالت أم سليم وكانت يومئذ تقاتل شادة على بطنها بثوب تقول: أرأيت يا رسول الله الذين أسلموا وفروا عنك وخذلوك، لا تعف عنهم إن أمكنك الله منهم، فاقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين. فقال رسول الله ﷺ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، عَفْوُ الله أَوْسَعُ» . وروي في خبر آخر: أن دريد بن الصمة كان شيخاً كبيراً في عسكر مالك بن عوف، وكان صاحب تدبير، وكان لا يبصر شيئا ما لم يرفع حاجباه. فقال: ما لي أسمع رغاء الإبل وثغاء الغنم وصوت الصبيان؟ فقالوا له: إن مالك بن عوف أمرنا بإخراج الأموال لكي يقاتل كل واحد منهم عن ماله. فقال لهم: هلا أخبرتموني بذلك قبل الخروج فقال: هل يرى المنهزم شيئا؟ فالرجل إذا جاءته الهزيمة متى يبالي بماله وولده؟ ولكن إذا فعلتم ذلك فاكسروا جفون سيوفكم، واحملوا حملة رجل واحد. ففعلوا ذلك، فانهزم المسلمون، ولم يبق مع رسول الله ﷺ إلا العباس، وأبو سفيان بن حرب بن عبد المطلب، وعدة من الأنصار. فنزل رسول الله ﷺ عن بغلته، وأخذ السيف نحو العدو، وجعل ينادي: «يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ البَقَرَةِ إِليَّ إليّ» فأمدّه الله بخمسة آلاف من الملائكة، ورجع إليه المسلمون، وانهزم المشركون، وأخذ المسلمون أموالهم، وهو الذي يسمى يوم أوطاس، فنزلت هذه الآية لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ فأخبر الله تعالى أن الغلبة ليست بكثرتكم، ولكن بنصر الله تعالى، وكان ذلك مِنْ آيات الله. ثم قال: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ يعني: برحبها وسعتها من خوف العدو، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ يعني: منهزمين لا تلوون على أحد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب