الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ يعني: خبر الخصم. ويقال: خبر الخصوم أي: وهل أتاك يا محمد، ما أتاك، حين أتاك، ويقال: وقد أتاك إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ والتسور أن يصعد في مكان مرتفع، وإنما سمي المحراب سوراً، لارتفاعه من الأرض. ويقال تَسَوَّرُوا يعني: دخلوا عليه من فوق الجدار. وقال الحسن البصري: وذلك أن داود- عليه السلام- جزأ الدهر أربعة أيام. فيوماً لنسائه، ويوماً لقضائه، ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه، ويوماً لبني إسرائيل ليسألونه فقال يوماً لبني إسرائيل: أيكم يستطيع أن يتفرغ لعبادة ربه يوماً لا يصيب الشيطان منه شيئاً؟ فقالوا: يا نبي الله، والله لا نستطيع. فحدث داود نفسه أنه يستطيع ذلك. فدخل محرابه، وأغلق بابه، فقام يصلي في المحراب، فجاء طائر في أحسن صورة مزين كأحسن ما يكون، فوقع قريباً منه، فنظر إليه، فأعجبه، فوقع في نفسه منه، فدنا منه ليأخذه، فوقع قريباً منه وأطمعه، أن سيأخذه، ففعل ذلك ثلاث مرات، حتى إذا كان في الرابعة، ضرب يده عليه فأخطأه، ووقع على سور المحراب. قال: وخلف المحراب حوض تغتسل فيه النساء، فضرب يده عليه، وهو على سور المحراب، فأخطأه وهرب الطائر، فأشرف داود، فإذا بامرأة تغتسل، فلما رأته نقضت شعرها، فغطى جسدها، فوقع في نفسه منها ما يشغله عن صلاته، فنزل من محرابه، ولبست المرأة ثيابها، وخرجت إلى بيتها، فخرج حتى عرف بيتها، وسألها من أنت؟ فأخبرته: فقال: هل لك زوج؟ قالت: نعم. قال أين هو؟ فقالت: في بعث كذا وكذا، وجند كذا وكذا. فرجع، وكتب إلى عامله إذا جاءك كتابي هذا، فاجعل فلاناً في أول الخيل. فقدم في فوارس، فقاتل، فقتل. ثم انتظر حتى انقضت عدتها، فخطبها، وتزوجها. فبينما هو في المحراب، إذ تسور عليه ملكان، وكان الباب مغلقاً، ففزع منهما، فقالا: لا تخف خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يعني: اقض بيننا بالعدل. ثم خاصم أحدهما الآخر، فقال: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً إلى آخره. فعلم داود- عليه السلام- أنه مراد بذلك، فخرّ راكعاً وأناب. قال الحسن: سجد أربعين ليلة، لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة. قال: ولم يذق طعاماً، ولا شراباً، حتى أوحى الله عز وجل إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك. وهكذا ذكر في رواية الكلبي عن ابن عباس، أنه سجد أربعين يوماً حتى سقط جلد وجهه، ونبت العشب من دموعه. فقال: يا رب كيف ترحمني وأنا أعلم أنك منتقم مني بخطيئتي، وذكر أن جبريل- عليه السلام- قال له: اذهب إلى أوريا فاستحل منه، فإنك تسمع صوته في يوم كذا، فأتاه ذات ليلة فناداه، فأجابه، فاستحل منه، فقال: أنت في حلّ. فلما رجع، قال له جبريل: هل أخبرته بجرمك. قال: لا. قال: فإنك لم تفعل شيئاً. قال: فارجع، فأخبره بالذي صنعت، فرجع داود فأخبره بذلك، فقال: أنا خصمك يوم القيامة، فرجع مغتماً، وبكى أربعين يوماً فأتاه جبريل- عليه السلام- فقال: إن الله تعالى يقول: إني أستوهبك من عبدي فيهبك لي، وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء، فسري عنه ذلك، وكان محزوناً في عمره، باكياً على خطيئته. وروي في خبر آخر، أن داود سمع بني إسرائيل كانوا يقولون في دعائهم: يا إله إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فيستجاب لهم. فقال لهم داود- عليه السلام- اذكروني فيهم. فقولوا: يا إله إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وداود، فقالوا: الله أمرك بهذا. قال: لا. فقالوا: لا نزيد فيهم ما لم يأمرك الله تعالى بذلك. فسأل داود ربه أن يجعله فيهم، فأوحى الله تعالى إليه، وذكر له ما لقي إبراهيم من الشدائد، وما لقي إسحاق ويعقوب- عليهم السلام- فسأل داود ربه أن يبتليه ببلية لكي يبلغ منزلتهم، فابتلي بذلك حتى بلغ مبلغهم. وقال بعضهم: هذه القصة لا تصح لأنه لا يظن بالنبي مثل داود أنه يفعل مثل ذلك، ولكن كانت خطيئته أنه لما اختصما إليه، فقال للمدعي: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فنسبه إلى الظلم بقول المدعي. فكان ذلك منه زلة، فاستغفر ربه عن زلته، فذلك قوله: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ وقال بعضهم: كانوا اثنين. فذكر بلفظ الجماعة فقال: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ويقال بعضهم: كانوا جماعة، ولكنهم كانوا فريقين فقال: إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ يعني: استطال، وظلم بعضنا على بعض فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يعني: اقض بيننا بالعدل وَلا تُشْطِطْ أي ولا تجر في الحكم، والقضاء. ويقال: أشططت إذا جرت وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ يعني: أرشدنا إلى أعدل الطريق. قوله عز وجل: إِنَّ هذآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها يعني: أعطني هذه النعجة. وهذا قول الكلبي ومقاتل. وقال القتبي أَكْفِلْنِيها يعني: ضمها إليّ، واجعلني كافلها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ يعني: غلبني في الكلام قالَ داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي: مع نعاجه وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ يعني: من الإخوان والشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: ليظلم بعضهم بعضاً إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم لا يظلمون وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ يعني: قليل منهم الذين لا يظلمون. فلما قضى بينهما داود- عليه السلام- أحب أن يعرفهما، فصعد إلى السماء حيال وجهه وَظَنَّ داوُدُ يعني: علم داود. ويقال: ظن بمعنى أيقن. إلا أنه ليس بيقين عياناً، لأن العيان لا يقال فيه إلا العلم. أَنَّما فَتَنَّاهُ يعني: ابتليناه، واختبرناه. ويقال: إنهما ضحكا، وذهبا. فعلم داود أن الله عز وجل ابتلاه بذلك. وروي عن أبي عمرو في بعض الروايات أنه قرأ أَنَّما فَتَنَّاهُ بالتخفيف، ومعناه ظن أن الملكين اختبراه، وامتحناه في الحكم وقراءة العامة فَتَنَّاهُ بالتشديد يعني: أن الله عز وجل قد اختبره، وامتحنه بالملكين فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ يعني: وَخَرَّ وقع راكعاً ساجداً وَأَنابَ يعني: أقبل إلى طاعة الله تعالى بالتوبة. وروى عطاء بن السائب، عن أبي عبد الله الجبلي قال: إن داود لم يرفع رأسه إلى السماء، مذ أصاب الخطيئة حتى مات. وذكر في الخبر أن داود كان له تسع وتسعون امرأة، فتزوج امرأة أوريا على شرط أن يكون ولدها خليفة بعده، فولد له منها سليمان، وكان خليفته بعده. يقول الله عز وجل: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ يعني: ذنبه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربه وَحُسْنَ مَآبٍ أي: المرجع في الآخرة. وروي أن كاتباً كان يكتب قوله تعالى: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ وكان تحت شجرة، فقرأها، وكتبها، فخرت الشجرة ساجدة لله تعالى، وهي تقول: اللهم اغفر بها ذنباً، وخرت الدواة ساجدة كذلك، وهي تقول اللهم: احطط عني بها وزراً. وكذلك الصحيفة التي في يده، وهي تقول: اللهم أحدث مني بها شكراً. وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله رأيتني الليلة، وأنا نائم، كأني أصلي خلف الشجرة، فقرأت السجدة فسجدتُّ فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس فقرأ النبيّ ﷺ آية سجدة، ثم سجد فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة. وأيضاً سئل ابن عباس عن سجدة ص من أين سجدت. قال: أما تقرأ هذه الآية: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ، ثم قال: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله ﷺ اقتداءً به. ثم قوله عز وجل: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يعني: أكرمناك بالنبوة، وجعلناك خليفة، والخليفة الذي يقوم مقام الذي قبله، فقام مقام الخلفاء الذين قبله، وكان قبله النبوة في سبط، والملك في سبط آخر، فأعطاهما الله تعالى لداود. ثم قال: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ يعني: بالعدل وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي: لا تمل إلى هوى نفسك، فتقضي بغير عدل. ويقال: لا تعمل بالجور في القضاء، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى كما اتبعت في بتشايع، وهي امرأة أوريا، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: عن طاعة الله تعالى. ويقال: يعني: الهوى يستزلك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: عن دين الله الإسلام لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ يعني: بما تركوا من العمل ليوم القيامة، فلم يخافوه. ويقال: بما تركوا الإيمان بيوم القيامة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب