الباحث القرآني

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ﴿يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن﴾ تَفْسِير سُورَة الطَّلَاق وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء﴾ فَإِن قيل: كَيفَ خَاطب النَّبِي وَحده فِي الِابْتِدَاء ثمَّ قَالَ: ﴿إِذا طلّقْتُم النِّسَاء﴾ ؟ وَالْجَوَاب من أوجه: أَحدهَا: أَن خطاب النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خطاب لأمته، مثل خطاب الرئيس يكون خطابا للأتباع وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيهَا النَّبِي والمؤمنون إِذا طلّقْتُم النِّسَاء. وَالْجَوَاب الثَّانِي أَن قَوْله: ﴿إِذا طلّقْتُم النِّسَاء﴾ على تَحْويل الْخطاب إِلَى الْغَيْر مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة وفرحوا بهَا. .﴾ . وَالْجَوَاب الثَّالِث: أَن فِيهِ تَقْدِير مَحْذُوف، وَتَقْدِيره: يَا أَيهَا النَّبِي قل للْمُؤْمِنين إِذا طلّقْتُم النِّسَاء. وروى قَتَادَة عَن أنس أَن النَّبِي طلق حَفْصَة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: يَقُول لَك رَبك: رَاجعهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة، وَهِي من أَزوَاجك فِي الْجنَّة. وَقَوله: ﴿فطلقوهن لعدتهن﴾ مَعْنَاهُ: لزمان عدتهن وَهُوَ الطُّهْر، وَفِيه دَلِيل على أَن الْأَقْرَاء الَّتِي تنقض بهَا الْعدة هِيَ الْأَطْهَار، وَهَذَا قَول أهل الْحجاز. وَأما من قَالَ: إِن الْأَقْرَاء هِيَ الْحيض، قَالَ معنى قَوْله: ﴿لعدتهن﴾ أَي: ليعتددن مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا﴾ أَي: ليحزنوا، ذكره النّحاس، وَقَرَأَ فِي الشاذ: " فطلقوهن لقبل عدتهن " وَقيل: إِنَّهَا قِرَاءَة النَّبِي، فَمن قَالَ: إِن الْأَقْرَاء هِيَ الْحيض اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْقِرَاءَة، لِأَن هَذِه اللَّفْظَة تَقْتَضِي أَن يكون زمَان الطَّلَاق قبل ﴿وأحصوا الْعدة وَاتَّقوا الله ربكُم﴾ زمَان الْعدة، وَأَن زمَان الْعدة يتعقب زمَان الطَّلَاق. وَأما من قَالَ: بِأَن الْأَقْرَاء هن الْأَطْهَار، قَالَ فَمَعْنَى قَوْله: " لقبل عدتهن " أَي: لوجه عدتهن؛ فَإِن قيل: إِن قبل الشَّيْء وَجهه، وَالْمرَاد فِي أول زمَان الطُّهْر، فَإِن قيل: أول زمَان الطُّهْر وَآخره وَاحِد فِي الطَّلَاق؛ فَلَيْسَ الْمَعْنى إِلَّا مَا ذكرنَا. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِك، بل الأولى أَن يُطلق فِي أول زمَان الطُّهْر إِذا أَرَادَ الطَّلَاق؛ لِأَنَّهُ إِذا أخر لم يَأْمَن أَن يُجَامِعهَا ثمَّ يُطلق، فَيكون قد طلق طَلَاق الْبِدْعَة. وَقد رُوِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَغَيره من التَّابِعين معنى قَوْله: ﴿لعدتهن﴾ أَي: طَاهِرا من غير جماع. وَقد ثَبت هَذَا اللَّفْظ عَن النَّبِي بِرِوَايَة نَافِع عَن ابْن عمر أَنه طلق امْرَأَته فِي حَال الْحيض، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " رَاجعهَا ثمَّ أمْسكهَا حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر ثمَّ إِن شِئْت طَلقهَا طَاهِرا من غير جماع ". وَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله تَعَالَى أَن يُطلق لَهَا النِّسَاء. وَفِي رِوَايَة: أَنه قَالَ لعمر: " مره فَلْيُرَاجِعهَا ". وَفِي رِوَايَة " ثمَّ إِذا طهرت إِن شَاءَ طَلقهَا طَاهِرا من غير جماع " وَلم يذكر ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر. وَعَن أنس [و] ابْن سِيرِين أَنه قَالَ لِابْنِ عمر: " احتسبت بِتِلْكَ الطَّلقَة؟ قَالَ: نعم. (وَفِي رِوَايَة: خَمْسَة) . وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: قَالَ: نعم وَإِن عجزت واستحمقت. وَقَوله: ﴿وأحصوا الْعدة﴾ هَذَا خطاب للأزواج، أَمرهم أَن يحصوا الْعدة ليعرفوا زمَان الرّجْعَة وَمُدَّة انقطاعها. وَيُقَال: ليعرفوا مُدَّة الْإِنْفَاق عَلَيْهِنَّ. وَقَوله: ﴿وَاتَّقوا الله ربكُم﴾ يَعْنِي: طلقوا للسّنة، وَلَا تطلقوا للبدعة. وَيُقَال: اتَّقوا ربكُم فِي ترك إخراجهن من الْبيُوت، وَأما صفة طَلَاق السّنة فَهُوَ من حَيْثُ الْوَقْت أَن ﴿لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة﴾ يطلقهَا طَاهِرا من غير جماع، وَأما من حَيْثُ الْعدة، فمذهب مَالك وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَكثير من الْعلمَاء أَنه يكره الطَّلَاق ثَلَاثًا جملَة، وَالسّنة أَن يطلقهَا وَاحِدَة وَيَتْرُكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا، هَذِه هُوَ الأولى، قَالَه مَالك. وَإِن أَرَادَ أَن يُطلق ثَلَاثًا فرق على الْأَطْهَار، فيطلق لكل طهر طَلْقَة، وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه لَيْسَ فِي الْجمع والتفريق سنة وَلَا بِدعَة. وَقد ذكر الْأَصْحَاب الأولى أَن يُطلق وَاحِدَة وَإِن لم يكره الْجمع بَين الثَّلَاث، قَالُوا: وَهُوَ الْمَذْهَب. وَفِي الْآيَة دَلِيل (الشَّافِعِي) على قَوْله؛ لِأَن الله تَعَالَى أَبَاحَ الطَّلَاق بقوله: ﴿فطلقوهن لعدتهن﴾ مُطلقًا وَلم يفرق بَين أَن يُطلق وَاحِدَة أَو أَكثر مِنْهَا، وَلِأَن الله تَعَالَى بَين وَقت الطَّلَاق وَلم يبين عدده، وَالْآيَة وَردت لبَيَان الْمسنون من الطَّلَاق، فَلَو كَانَ فِي عدد الطَّلَاق سنة لم يُؤَخر بَيَانهَا. وَقَوله: ﴿لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ﴾ أَي: فِي زمَان الْعدة، وَنسب الْبيُوت إلَيْهِنَّ لأجل السُّكْنَى. وَقَوله: ﴿وَلَا يخْرجن﴾ أَي: لَا يخْرجن بِأَنْفُسِهِنَّ. وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة﴾ اخْتلف القَوْل فِي معنى الْفَاحِشَة هَاهُنَا، فأظهر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا الزِّنَا، وَهَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ قَول الْحسن وَالشعْبِيّ وَعِكْرِمَة و (حَمَّاد بن أبي سَلمَة) وَاللَّيْث وَجَمَاعَة كَثِيرَة، وَالْمرَاد من الْآيَة على هَذَا إِلَّا أَن تَزني فَتخرج لإِقَامَة الْحَد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْفَاحِشَة هِيَ أَن تبذو على أَهلهَا، قَالَه ابْن عَبَّاس فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَيُقَال فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " إِلَّا أَن يفحشن " وَهَذِه الْقِرَاءَة تقَوِّي هَذَا القَوْل. وَرُوِيَ عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت لفاطمة بنت قيس: اتقِي الله فَإنَّك تعلمين أَن الرَّسُول أخرجك، يَعْنِي: من بَيت زَوجهَا، وَكَانَت تبذو بلسانها. وَالْقَوْل الثَّالِث مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: الْفَاحِشَة نفس الْخُرُوج. وَهُوَ محكي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة بخروجهن. وَقَالَ بَعضهم: الْفَاحِشَة هَاهُنَا جَمِيع الْمعاصِي. وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ الأول لِكَثْرَة من قَالَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُوَافق لقَوْله: ﴿واللاتي يَأْتِين الْفَاحِشَة﴾ وَأَجْمعُوا على أَن المُرَاد بِهِ الزِّنَا. وَقَوله: ﴿وَتلك حُدُود الله﴾ قَالَ السدى: هِيَ شُرُوط الله. وَيُقَال: شرع الله، وَقيل: أمره وَنَهْيه. وَقَوله: ﴿وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه﴾ أَي: أهلك نَفسه وأوبقها. وَقَوله: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا﴾ القَوْل الْمَعْرُوف فِي هَذَا أَنه الرَّغْبَة فِي الْمُرَاجَعَة، وَفِيه دَلِيل على أَن المُرَاد بقوله: ﴿فطلقوهن﴾ فِي ابْتِدَاء الْآيَة هُوَ الطَّلقَة والطلقتان دون الثَّلَاثَة، وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ الْوَاحِدَة وَالثَّلَاث جَمِيعًا. قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا﴾ قَالَ: هُوَ النّسخ؛ وَمَعْنَاهُ: لَعَلَّ الله ينْسَخ هَذَا الحكم وَيَرْفَعهُ. وَقيل: هُوَ الرَّغْبَة فِي ابْتِدَاء النِّكَاح بعد زوج آخر.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب