الباحث القرآني

قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: يَوْم الْأَحَد وَيَوْم الِاثْنَيْنِ. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا الْحِكْمَة فِي خلقهَا فِي يَوْمَيْنِ، وَقد كَانَ قَادِرًا على خلقهَا فِي سَاعَة وَأَقل من ذَلِك؟ قُلْنَا: خلق فِي يَوْمَيْنِ ليرشد خلقه إِلَى الإناة فِي الْأَفْعَال؛ وليكون أبعد من توهم اتِّفَاق أَو فعل طبع، وَلِأَنَّهُ لَا سُؤال عَلَيْهِ فِي خلقه فكيفما شَاءَ خلق. وَقَوله: ﴿وتجعلون لَهُ أندادا﴾ أَي: أشباها وأمثالا وشركاء. قَالَ حسان بن ثَابت: (أتهجوه وَلست لَهُ بند ... فشركما لخير كَمَا الْفِدَاء) قَالَ أهل الْمعَانِي: قَوْله ﴿وتجعلون لَهُ أندادا﴾ أَي: تطيعون غَيره فِي مَعَاصيه. وَقَالَ بَعضهم: من ذَلِك أَن يَقُول الرجل: لَوْلَا كلبة فلَان لدخل اللُّصُوص دَاري، وَلَوْلَا إرشاد فلَان لهلكت، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: ﴿ذَلِك رب الْعَالمين﴾ أَي: الَّذِي فعل ذَلِك الْفِعْل هُوَ رب الْعَالمين. قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجعل فِيهَا رواسي﴾ أَي: جبالا رواسي، وسماها رواسي لثبوتها. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض جعلت تميد وَلَا تَسْتَقِر، فخلق الله الْجبَال عَلَيْهَا فاستقرت، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا﴾ . وَقَوله: ﴿وَبَارك فِيهَا﴾ أَي: أَكثر فِيهَا الْبركَة. وَالْبركَة: الْمَنَافِع، وَمن بركاتها الْأَشْجَار الَّتِي تنْبت بِغَيْر غرس، والحبوب الَّتِي تنْبت بِغَيْر بذر، وكل مَا لم يعمله بَنو آدم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى جمع فِي (الْخبز) بَرَكَات السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَوله: ﴿وَقدر فِيهَا أقواتها﴾ فِي التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: الْحِنْطَة لقوم، وَالشعِير لقوم، والذرة لقوم، وَالتَّمْر لقوم، والسمك لقوم، وَاللَّحم لقوم. وَيُقَال: الْمصْرِيّ لمصر، والسابري لسابر، والعربي للْعَرَب، وكل طَعَام فِي مَوْضِعه. وَقَوله: ﴿فِي أَرْبَعَة أَيَّام﴾ أَي: (فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام) . فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ هَاهُنَا خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ فَذكر أَنه بَدَأَ بِخلق الأَرْض وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها﴾ فَكيف وَجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: أَن معنى قَوْله: ﴿وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها﴾ أَي: مَعَ ذَلِك، وَهَذَا ضَعِيف فِي اللُّغَة، وَالأَصَح أَن معنى قَوْله: (وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها) أَي: بسطها، وَكَانَ الله تَعَالَى خلق الأَرْض قبل السَّمَوَات فِي يَوْمَيْنِ، وَخلق الأرزاق والأقوات فِيهَا، وأجرى الْأَنْهَار، وَأظْهر الْأَشْجَار، وَخلق الْبحار فِي يَوْمَيْنِ آخَرين، فَذَلِك تَمام أَرْبَعَة أَيَّام، وَلم يكن بسط الأَرْض وَجعلهَا بِحَيْثُ يسكن فِيهَا، فَلَمَّا خلق السَّمَوَات بسط الأَرْض وَجعلهَا بِحَيْثُ يسكنهَا النَّاس. وَقَوله: ﴿سَوَاء للسائلين﴾ أَي: عدلا للسائلين، وَمَعْنَاهُ: من سَأَلَك عَن هَذَا فأجبه بِهَذَا، فَإِنَّهُ الْحق وَالْعدْل. قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان﴾ أَي: قصد إِلَى خلق السَّمَاء وَهِي دُخان، وَفِي الْقِصَّة ان الله تَعَالَى خلق أول مَا خلق مَاء يضطرب، فأزبد المَاء زبدا، وارتفع من الزّبد دُخان، فخلق الأَرْض من الزّبد، وَخلق السَّمَاء من الدُّخان. وَقَوله: ﴿فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طوع أَو كرها﴾ قَالَ بَعضهم: معنى قَوْله: ﴿ائتيا﴾ أَي: كونا كَمَا قدرتكما طَوْعًا أَو كرها، وعَلى هَذَا يكون هَذَا القَوْل قبل الْخلق، وَالْقَوْل الثَّانِي هُوَ قَول الْأَكْثَرين أَن هَذَا القَوْل من الله تَعَالَى بعد أَن خلقهما، فعلى هَذَا معنى قَوْله: (ائتيا طَوْعًا أَو كرها) أَي: أعطيا الطَّاعَة فِيمَا خلقهما لَهُ جبرا واختيارا. وَقَوله: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين﴾ مِنْهُم من قَالَ: هَذَا كُله على طَرِيق الْمجَاز، وَلَيْسَ على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَكَأن الله تَعَالَى لما أجْرى أَمرهمَا على مُرَاده وَتَقْدِيره جعل ذَلِك بِمَنْزِلَة قَول مِنْهُ وَإجَابَة مِنْهُمَا بالطواعية، وَالْعرب قد تذكر القَوْل فِي مثل هَذَا الْموضع، قَالَ الشَّاعِر: (امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... مهلا رويدا قد مَلَأت بَطْني) وَقَالَ بَعضهم: إِن القَوْل والإجابة على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَركب فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض مَا عقلا بِهِ خطابه وأجاباه بالطواعية، وَهَذَا هُوَ الأولى. وَعَن ابْن السماك فِي موعظه: سل الأَرْض: من غرس أشجارك؟ وأجرى أنهارك؟ وَأخرج ثمارك؟ فَإِن لم تجبك اخْتِيَارا أجابتك اعْتِبَارا. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: ﴿طائعين﴾ وَكَانَ من حق اللُّغَة أَن يَقُول: طائعات قُلْنَا: إِنَّمَا قَالَ: ﴿طائعين﴾ لِأَنَّهُ لما جعلهَا بِمَنْزِلَة من يعقل فِي الْخطاب مَعهَا وجوابها ذكر الْكَلَام على نعت الْعُقَلَاء. قَوْله تَعَالَى: ﴿فقضاهن سبع سموات﴾ أَي: خَلقهنَّ سبع سموات ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس و [يَوْم] الْجُمُعَة. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الله تَعَالَى خلق الأَرْض يَوْم الْأَحَد والاثنين، وَخلق الْمَكْرُوه يَوْم الثُّلَاثَاء، وَخلق الأقوات وَالْأَشْجَار يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَخلق السَّمَوَات يَوْم الْخَمِيس، وَخلق فِيهَا البروج وَالْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر يَوْم الْجُمُعَة، وَخلق آدم فِي آخر سَاعَة من يَوْم الْجُمُعَة على عجل "، وَقد حكيت اللَّفْظَة الْأَخِيرَة عَن ابْن عَبَّاس. وَقَوله: ﴿وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا﴾ أَي: قدر فِي كل سَمَاء أمرهَا، وَيُقَال: خلق فِي كل سَمَاء مَا أَرَادَ أَن يخلق فِيهَا، وَذَلِكَ من سكانها وَغير ذَلِك. وَقَوله: ﴿وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح﴾ أَي: بالكواكب. وَقَوله: ﴿وحفظا﴾ أَي: حفظنا السَّمَاء بالكواكب من الشَّيْطَان. وَقَوله: ﴿ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَيذكر تَفْسِير هَذِه الْآيَة من وَجه آخر على مَا نقل فِي التفاسير. فَقَوله تَعَالَى: ﴿قل أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ﴾ هُوَ يَوْم الْأَحَد والاثنين، والاثنان هُوَ الْعدَد الْعدْل؛ لِأَنَّهُ أَكثر من الْوَاحِد الَّذِي لَيْسَ دونه شَيْء، وَلم يبلغ الثَّلَاث الَّذِي هُوَ جمع. وَقيل: هُوَ خلق فِي يَوْمَيْنِ، ليَكُون اعْتِبَارا للْمَلَائكَة فِي النّظر إِلَى خلقه أَكثر، فَيكون أدل على وحدانيته. وَقَوله: ﴿وتجعلون لَهُ أندادا ذَلِك رب الْعَالمين﴾ قد بَينا. وَقَوله: ﴿وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا﴾ روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: خلق الْجبَال يَوْم الثُّلَاثَاء، وَخلق السَّمَاء وَالْأَشْجَار والبحار والأنهار يَوْم الْأَرْبَعَاء. وَقَوله: ﴿وَبَارك فِيهَا﴾ أَي: أَكثر فِيهَا الْخَيْر. وَقَوله: ﴿وَقدر فِيهَا أقواتها﴾ فِي التَّفْسِير: أَنه جعل فِي كل بلد مَا لَيْسَ فِي غَيره، ليتعايش النَّاس ويتجروا فِيهَا نقلا من بلد إِلَى بلد. يُقَال هُوَ الْيَمَانِيّ بِالْيمن، والقوهى بقوهستان، والسابري بسابور، والقراطيس بِمصْر، والمروى بمرو، والبغدادي بِبَغْدَاد، والهروى بهراة. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: قَوْله: ﴿قدر فِيهَا أقواتها﴾ هُوَ الْمَطَر. وَقَوله: ﴿فِي أَرْبَعَة أَيَّام﴾ أَي: فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام، فَإِن قيل: قد ذكر يَوْمَيْنِ فِي الْآيَة الأولى، وَأَرْبَعَة فِي هَذِه الْآيَة، ويومين من بعد، فَيكون قد خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي ثَمَانِيَة أَيَّام؟ قُلْنَا: لَا، بل خلقهَا فِي سِتَّة أَيَّام. وَقَوله: ﴿فِي أَرْبَعَة أَيَّام﴾ أَي: فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام مَعَ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلين، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول: ذهبت من الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد فِي عشرَة أَيَّام، وَذَهَبت من بَغْدَاد إِلَى الْكُوفَة فِي خَمْسَة عشر يَوْمًا أَي: فِي تَمام خَمْسَة عشر يَوْمًا مَعَ الْعدْل الأول، هَذَا كَلَام الْعَرَب، وَمن طعن فِيهِ فَلم يعرف كَلَام الْعَرَب. وَقَوله: ﴿سَوَاء للسائلين﴾ قد بَينا أحد الْمَعْنيين، وَالْمعْنَى الآخر: وَقدر فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَة أَيَّام للسائلين أَي: المحتاجين إِلَى الْقُوت. وَقَوله: ﴿سَوَاء﴾ ينْصَرف إِلَى الْأَيَّام أَي: مستويات تامات. وَقيل: (ذَوَات) سَوَاء. وَقد قرئَ بالخفض: " سَوَاء للسائلين ". وَيُقَال: اسْتَوَى سَوَاء على الْقِرَاءَة الأولى. قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الدُّخان كَانَ من تنفس المَاء، وَيُقَال: إِنَّه خلق سَمَاء وَاحِدَة ثمَّ فتقها فَجَعلهَا سبع سموات، وَقد ذكرنَا من قبل وَقَوله: ﴿فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أَو كرها﴾ قَالَ بَعضهم: هُوَ على طَرِيق الْمجَاز مثل: قَول الشَّاعِر: (وَقَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة ... وحذرتا كالدر لما تثقب) وَتقول الْعَرَب: قَالَ الْحَائِط فَمَال وَقَوله: ﴿ائتيا طَوْعًا أَو كرها﴾ أَي: أجيبا طَوْعًا وَإِلَّا ألجأتكما إِلَى الْإِجَابَة كرها، وَإِنَّمَا ذكرُوا هَذَا الْمَعْنى؛ لِأَن الْأَمر لَا يرد إِلَّا بِالْفِعْلِ طَوْعًا. وَذكر بَعضهم: أَن الله تَعَالَى خلق فِي السَّمَوَات تمييزا وعقلا، فخاطبهما وأجابا على الْحَقِيقَة، وَقد ذكرنَا. وَأورد بَعضهم: أَن الْخطاب لمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الْموضع الَّذِي أجَاب من الأَرْض هُوَ الْأُرْدُن، وَفِيه أَيْضا: أَن الله تَعَالَى خلق سَبْعَة عشر نوعا من الأَرْض، هَذَا الَّذِي ترَاهُ أَصْغَر الْكل، وأسكن تِلْكَ الْأَرْضين قوما لَيْسُوا بإنس وَلَا جن وَلَا مَلَائِكَة، وَالله أعلم. وَقَوله: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين﴾ وَلم يقل: طائعتين، قَالُوا: لِأَن المُرَاد هُوَ السَّمَوَات بِمن فِيهَا، وَالْأَرْض بِمن فِيهَا. وَيُقَال: لِأَن السَّمَوَات سبع والأرضون سبع، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ فِي الأَرْض فَقَالَ: طائعين لأجل هَذَا الْعدَد. قَوْله تَعَالَى: ﴿فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ﴾ أَي: خَلقهنَّ. وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى خلق السَّمَوَات يَوْم الْخَمِيس، وَخلق الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب وَالْمَلَائِكَة وآدَم يَوْم الْجُمُعَة، وَسميت الْجُمُعَة جُمُعَة؛ لِأَنَّهُ اجْتمع فِيهَا الْخلق. وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى خلق آدم فِي آخر سَاعَة من سَاعَات الْجُمُعَة، وَتَركه أَرْبَعِينَ سنة ينظر إِلَيْهِ ويثني على نَفسه، وَيَقُول: ﴿تبَارك الله رب الْعَالمين﴾ وَفِي بعض التفاسير أَيْضا: أَن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض قَالَ لَهَا: أَخْرِجِي أشجارك وأنهارك وثمارك فأخرجت، وَلما خلق الله السَّمَاء قَالَ لَهَا: أَخْرِجِي شمسك وقمرك ونجومك فأخرجت. وَقَوله: ﴿وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا﴾ أَي: مَا يصلحها، وَيُقَال: جعل فِيهَا سكانها من الْمَلَائِكَة. وَقَوله: ﴿وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وحفظا﴾ قد بَينا. وَقَوله: ﴿وحفظا﴾ أَي: وحفظناها حفظا من الشَّيَاطِين بِالشُّهُبِ والنجوم. وَقَوله: ﴿ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم﴾ أَي: تَقْدِير القوى على مَا يُرِيد خلقه، الْعَلِيم بخلقه وَمَا يصلحهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب