الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ يَعْنِي الْخَطَّ وَالْكِتَابَةَ، أَيْ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْخَطَّ بِالْقَلَمِ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْقَلَمُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمَةٌ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُمْ دِينٌ، وَلَمْ يَصْلُحْ عَيْشٌ. فَدَلَّ عَلَى كَمَالِ كَرَمِهِ سُبْحَانَهُ، بِأَنَّهُ عَلَّمَ عِبَادَهُ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَنَبَّهَ عَلَى فَضْلِ عِلْمِ الْكِتَابَةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا هُوَ. وَمَا دُوِّنَتِ الْعُلُومُ، وَلَا قُيِّدَتِ الْحِكَمُ، وَلَا ضُبِطَتْ أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ وَمَقَالَاتُهُمْ، وَلَا كُتُبُ اللَّهِ الْمَنْزَلَةُ إِلَّا بِالْكِتَابَةِ، وَلَوْلَا هِيَ مَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَسُمِّيَ قَلَمًا لِأَنَّهُ يُقْلَمُ، أَيْ يُقْطَعُ، وَمِنْهُ تَقْلِيمُ الظُّفْرِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ الْمُحْدَثِينَ يَصِفُ الْقَلَمَ: فَكَأَنَّهُ وَالْحِبْرُ يَخْضِبُ رَأْسَهُ ... شَيْخٌ لِوَصْلِ خَرِيدَةٍ يَتَصَنَّعُ لِمَ [[في الأصول: (ألا) في موضع (لم لا)، ولعله تحريف.]] لَا أُلَاحِظُهُ بِعَيْنِ جَلَالَةٍ ... وَبِهِ إِلَى اللَّهِ الصَّحَائِفُ تُرْفَعُ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَأَكْتُبُ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ مِنَ الْحَدِيثِ؟ قَالَ: [نَعَمْ فَاكْتُبْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الْحَيَوَانِ: كُنْ فَكَانَ: الْقَلَمَ، وَالْعَرْشَ، وَجَنَّةَ عَدْنٍ، وَآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِيمَنْ عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُّهَا: أَنَّهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ، قَالَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِدْرِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَدْخَلَ كُلَّ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ، لِأَنَّهُ مَا عُلِّمَ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَجَمَعَ بِذَلِكَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ فِي خَلْقِهِ، وَبَيَّنَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمِهِ، اسْتِكْمَالًا لِلنِّعْمَةِ عليه. الثَّانِيَةُ- صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ- فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي (. وَثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ:) أَوَّلُ ما خلق الله: القلم، فقال له اكتب، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فِي الذِّكْرِ فَوْقَ عَرْشِهِ (. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: [أَنَّهُ [[زيادة لتكملة العبارة.]]] سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:) إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعَظْمَهَا، ثُمَّ يَقُولُ، يَا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ، فَيَقُولُ ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول يا رب رزقه، ليقضي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ [[آية ١٠ سورة الانفطار.]] (الانفطار: ١٠). قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالْأَقْلَامُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةٌ: الْقَلَمُ الْأَوَّلُ: الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ. وَالْقَلَمُ الثَّانِي: أَقْلَامُ الْمَلَائِكَةِ، جَعَلَهَا اللَّهُ بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا الْمَقَادِيرَ وَالْكَوَائِنَ وَالْأَعْمَالَ. وَالْقَلَمُ الثَّالِثُ: أَقْلَامُ النَّاسِ، جَعَلَهَا اللَّهُ بِأَيْدِيهِمْ، يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ، وَيَصِلُونَ بِهَا مَآرِبَهُمْ. وَفِي الْكِتَابَةِ فَضَائِلٌ جَمَّةٌ. وَالْكِتَابَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْبَيَانِ، وَالْبَيَانُ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الْآدَمِيُّ. الثَّالِثَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَتِ الْعَرَبُ أَقَلَّ الْخَلْقِ مَعْرِفَةً بِالْكِتَابِ، وَأَقَلُّ الْعَرَبِ مَعْرِفَةً بِهِ الْمُصْطَفَى ﷺ، صُرِفَ عَنْ عِلْمِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَثْبَتَ لِمُعْجِزَتِهِ، وَأَقْوَى فِي حُجَّتِهِ، وَقَدْ مَضَى هَذَا مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ "الْعَنْكَبُوتِ" [[راجع ج ١٣ ص ٣٥١]]. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَيُّوبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: [لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمُ الْغُرَفَ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَةِ [. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا حَذَّرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي إِسْكَانِهِنَّ الْغُرَفَ تَطَلُّعًا إِلَى الرَّجُلِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْصِينٌ لَهُنَّ وَلَا تَسَتُّرَ. وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ لَا يَمْلِكْنَ أَنْفُسَهُنَّ حَتَّى يُشْرِفْنَ عَلَى الرَّجُلِ، فَتَحْدُثُ الْفِتْنَةُ وَالْبَلَاءُ، فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يجعلوا لهن غرفا ذريعة إلى الفتنة. وَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: [لَيْسَ لِلنِّسَاءِ خَيْرٌ لَهُنَّ مِنْ أَلَّا يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ، وَلَا يَرَيْنَ الرِّجَالَ [. وَذَلِكَ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الرَّجُلِ، فَنَهْمَتُهَا فِي الرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ خُلِقَتْ فِيهِ الشَّهْوَةُ، وَجُعِلَتْ سَكَنًا لَهُ، فَغَيْرُ مَأْمُونٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَاحِبِهِ. وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ الْكِتَابَةِ رُبَّمَا كَانَتْ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ، وَذَلِكَ إِذَا عُلِّمَتِ الْكِتَابَةَ كَتَبَتْ إِلَى مَنْ تَهْوَى. وَالْكِتَابَةُ عَيْنٌ مِنَ الْعُيُونِ، بِهَا يُبْصِرُ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، وَالْخَطُّ هُوَ آثَارُ يَدِهِ. وَفِي ذَلِكَ تَعْبِيرٌ عَنِ الضَّمِيرِ بِمَا لَا يَنْطَلِقُ بِهِ اللِّسَانُ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ اللِّسَانِ. فَأَحَبَّ رسوله الله ﷺ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُنَّ أسباب الفتنة، تحصينا لهن، وطهارة لقلوبهن.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب