الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى﴾ أَيْ لَيْسَ يَتَصَدَّقُ لِيُجَازَى عَلَى نِعْمَةٍ، إِنَّمَا يَبْتَغِي وَجْهَ رَبِّهِ الْأَعْلَى، أَيِ الْمُتَعَالِي وَلَسَوْفَ يَرْضى أَيْ بِالْجَزَاءِ. فَرَوَى عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَذَّبَ الْمُشْرِكُونَ بِلَالًا، وَبِلَالٌ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: [أَحَدٌ- يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى- يُنْجِيكَ [ثُمَّ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: [يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ بِلَالًا يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ [فَعَرَفَ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي يُرِيدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَخَذَ رِطْلًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَضَى بِهِ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَقَالَ لَهُ: أَتَبِيعُنِي بِلَالًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاشْتَرَاهُ فَأَعْتَقَهُ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا أَعْتَقَهُ أَبُو بَكْرٍ إِلَّا لِيَدٍ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ، فَنَزَلَتْ وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ نِعْمَةٍ، أَيْ مِنْ يَدٍ ومنة، تُجْزى بل ابْتِغاءَ بِمَا فَعَلَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى. وَقِيلَ: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ أُمَيَّةَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ بِلَالًا، بِبُرْدَةٍ وَعَشْرِ أَوَاقٍ، فَأَعْتَقَهُ لِلَّهِ، فنزلت: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: ٤]. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: بَلَغَنِي أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ حِينَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَتَبِيعُنِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَبِيعُهُ بِنِسْطَاسٍ، وَكَانَ نِسْطَاسٌ عَبْدًا لِأَبِي بَكْرٍ، صَاحِبَ عَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَغِلْمَانٍ وَجَوَارٍ وَمَوَاشٍ، وَكَانَ مُشْرِكًا، فَحَمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالُهُ، فَأَبَى، فَبَاعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِهِ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِبِلَالٍ هَذَا إِلَّا لِيَدٍ كَانَتْ لِبِلَالٍ عِنْدَهُ، فَنَزَلَتْ وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ أَيْ لَكِنِ ابْتِغَاءَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، فَلِذَلِكَ نُصِبَتْ. كَقَوْلِكَ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارًا. وَيَجُوزُ الرَّفْعُ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ (إِلَّا ابْتِغَاءُ وَجْهِ رَبِّهِ) بِالرَّفْعِ، عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ الرَّفْعُ فِي الْمُسْتَثْنَى. وَأَنْشَدَ فِي اللُّغَتَيْنِ قَوْلَ بِشْرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ: أَضْحَتْ خَلَاءً قِفَارًا لَا أَنِيسَ بِهَا ... إِلَّا الْجَآذِرَ وَالظُّلْمَانَ تَخْتَلِفُ [[الجآذر (جمع جؤذر) وهو ولد البقرة الوحشية. والظلمان (بالكسر والضم): جمع الظليم، وهو الذكر من النعام.]] وَقَوْلَ الْقَائِلِ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ [[اليعافير: جمع يعفور: وهو ولد الظبية، وولد البقرة الوحشية أيضا. والعيس: إبل بيض تخالط بياضها شقرة، جمع أعيس وعيساه.]] وَفِي التَّنْزِيلِ: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [[آية ٦٦ سورة النساء. راجع ج ٥ ص ٢٧٠.]] [النساء: ٦٦] وَقَدْ تَقَدَّمَ. (وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أَيْ مَرْضَاتِهِ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ. والْأَعْلى مِنْ نَعْتِ الرَّبِّ الَّذِي اسْتَحَقَّ صِفَاتِ الْعُلُوِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مَفْعُولًا لَهُ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَا يُؤْتِي مَالَهُ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ، لَا لِمُكَافَأَةِ نِعْمَتِهِ. (وَلَسَوْفَ يَرْضى) أَيْ سَوْفَ يُعْطِيهِ فِي الْجَنَّةِ مَا يُرْضِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُعْطِيهِ أَضْعَافَ مَا أَنْفَقَ. وَرَوَى أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: [رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ! زَوَّجَنِي ابْنَتَهُ، وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، وَأَعْتَقَ بِلَالًا مِنْ مَالِهِ [. وَلَمَّا اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ لَهُ بِلَالٌ: هَلِ اشْتَرَيْتَنِي لِعَمَلِكَ أَوْ لِعَمَلِ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلْ لِعَمَلِ الله قَالَ: فَذَرْنِي وَعَمَلَ اللَّهِ، فَأَعْتَقَهُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا (يَعْنِي بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ). وَقَالَ عَطَاءٌ- وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-: إِنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي الدَّحْدَاحِ، فِي النَّخْلَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا بِحَائِطٍ لَهُ، فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ عَطَاءٍ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِأَرْبَعِينَ نَخْلَةً، وَلَمْ يُسَمِّ الرَّجُلَ. قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ نَخْلَةٌ، يَسْقُطُ مِنْ بَلَحِهَا فِي دَارِ جَارٍ لَهُ، فيتناول صِبْيَانُهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ. [تَبِيعُهَا بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ [؟ فَأَبَى، فَخَرَجَ فَلَقِيَهُ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنِيهَا بِ (حُسْنَى): حَائِطٍ لَهُ. فَقَالَ: هِيَ لَكَ. فَأَتَى أَبُو الدَّحْدَاحِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اشْتَرِهَا مِنِّي بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: [نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ [فَقَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ جَارَ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ: [خُذْهَا [فَنَزَلَتْ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: ١] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي بُسْتَانِ أَبِي الدَّحْدَاحِ وَصَاحِبِ النَّخْلَةِ. فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى يَعْنِي أَبَا الدَّحْدَاحِ. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أَيْ بِالثَّوَابِ. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى: يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى يَعْنِي الْأَنْصَارِيَّ. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أَيْ بِالثَّوَابِ. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى، يَعْنِي جَهَنَّمَ. وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أَيْ مَاتَ. إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى يَعْنِي بِذَلِكَ الْخَزْرَجِيَّ، وَكَانَ مُنَافِقًا، فَمَاتَ عَلَى نِفَاقِهِ. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى يَعْنِي أَبَا الدَّحْدَاحِ. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى فِي ثَمَنِ تِلْكَ النَّخْلَةِ. مَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يُكَافِئُهُ عَلَيْهَا، يَعْنِي أَبَا الدَّحْدَاحِ. وَلَسَوْفَ يَرْضى إِذَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. وَالْأَكْثَرُ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا خَبَرًا آخَرَ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ"، عِنْدَ قَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [[راجع ج ٣ ص ٢٣٧.]] [البقرة: ٢٤٥]. والله تعالى أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب