الباحث القرآني

فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ لَمَّا بَلَغَ هَوَازِنَ فَتْحُ مَكَّةَ جَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَتِ الرِّيَاسَةُ فِي جَمِيعِ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِ، وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساء هم وَأَوْلَادَهُمْ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْمِي بِهِ نُفُوسَهُمْ وَتَشْتَدُّ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ ذَلِكَ شَوْكَتُهُمْ. وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ آلَافٍ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ، مِنْ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ. وَعَلَى هَوَازِنَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَلَى ثَقِيفٍ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدٍ، فَنَزَلُوا بِأَوْطَاسَ [[أرطاس: واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين.]]. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّ عَيْنًا، فَأَتَاهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا شَاهَدَ مِنْهُمْ، فَعَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ على قصدهم، واستعار من صفوان ابن أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ دُرُوعًا. قِيلَ: مِائَةُ دِرْعٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْعٍ. وَاسْتَسْلَفَ مِنْ رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهُ إِيَّاهَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ) خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافٍ صَحِبُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَلْفَانِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَهُمُ الطُّلَقَاءُ إِلَى مَنِ انْضَافَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ، مِنْ سُلَيْمٍ وَبَنِي كِلَابٍ وَعَبْسٍ وَذُبْيَانَ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ. وَفِي مَخْرَجِهِ هَذَا رَأَى جُهَّالُ الْأَعْرَابِ شَجَرَةً خَضْرَاءَ وَكَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَجَرَةٌ مَعْرُوفَةٌ تُسَمَّى ذَاتَ أَنْوَاطٍ يَخْرُجُ إِلَيْهَا الْكُفَّارُ يَوْمًا مَعْلُومًا فِي السَّنَةِ يُعَظِّمُونَهَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إنهم لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ (. فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَتَى وَادِي حنين، وهو من أودية تهامة، وكانت هو ازن قَدْ كَمَنَتْ فِي جَنْبَتَيِ الْوَادِي وَذَلِكَ فِي غَبَشِ الصُّبْحِ فَحَمَلَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْهَزَمَ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَلْوِ [[أي لم يلتفت ولم يعطف.]] أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَثَبَتَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنُهُ جَعْفَرُ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ- وَهُوَ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ بِحُنَيْنٍ- وربيعة ابن الْحَارِثِ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ فِي مَوْضِعِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ. فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةُ رِجَالٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْعَبَّاسُ: نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةً ... وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ [[في الأصول: (منهم) والتصويب عن المواهب اللدنية.]] وَأَقْشَعُوا وَعَاشِرُنَا لَاقَى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ ... بِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لَا يَتَوَجَّعُ وَثَبَتَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فِي جُمْلَةِ مَنْ ثَبَتَ مُحْتَزِمَةً مُمْسِكَةً بَعِيرًا لِأَبِي طَلْحَةَ وَفِي يَدِهَا خِنْجَرٌ. وَلَمْ يَنْهَزِمْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ وَاسْمُهَا دُلْدُلُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ عَبَّاسٌ [[في ا، ج، ح، ل، هـ، ز. قال ابن عباس: والصواب ما أثبتناه من ك، ب، ى.]]: وَأَنَا آخُذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَلَّا تُسْرِعَ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَيُّ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ) [[أي أصحاب الشجرة المسماة بالسمرة، وهي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية.]]. فَقَالَ عَبَّاسٌ- وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا. وَيُرْوَى مِنْ شِدَّةِ صَوْتِهِ أَنَّهُ أُغِيرَ يَوْمًا عَلَى مَكَّةَ فَنَادَى وا صباحاه! فَأَسْقَطَتْ كُلُّ حَامِلٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ جَنِينَهَا-: فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ عَطَفْتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا. فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ. قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارُ ... (الْحَدِيثَ. وَفِيهِ:) قَالَ ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ (. ثُمَّ قَالَ:) انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ (. قَالَ فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: رَوَيْنَا مِنْ وُجُوهٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا أَنَّهُ قَالَ- وَقَدْ سُئِلَ عَنْ يَوْمِ حُنَيْنٍ-: لَقِينَا الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَبِثْنَا أَنْ هَزَمْنَاهُمْ وَأَتْبَعْنَاهُمْ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَجُلٍ رَاكِبٍ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، فَلَمَّا رَآنَا زَجَرَنَا زَجْرَةً وَانْتَهَرَنَا، وَأَخَذَ بِكَفِّهِ حَصًى [[في ب وج: أو ترابا.]] وَتُرَابًا فَرَمَى بِهِ وَقَالَ: (شَاهَتِ الْوُجُوهُ) فَلَمْ تَبْقَ عَيْنٌ إِلَّا دَخَلَهَا مِنْ ذَلِكَ، وَمَا مَلَكْنَا أَنْفُسَنَا أَنْ رَجَعْنَا عَلَى أعقابنا. وقال سعيد بن جبير: حدثنا رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَقِفُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ، حَتَّى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ- يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ- تَلَقَّانَا رِجَالٌ بِيضُ الْوُجُوهِ حِسَانٌ، فَقَالُوا لَنَا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، ارْجِعُوا، فَرَجَعْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا فَكَانَتْ إِيَّاهَا. يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ. قُلْتُ: وَلَا تَعَارُضَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَاهَتِ الْوُجُوهُ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ وَمِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ مَعًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَرْبَعِينَ رَجُلًا بِيَدِهِ. وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَرْبَعَةٌ آلَافِ رَأْسٍ. وَقِيلَ: سِتَّةَ آلَافٍ، وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفِ نَاقَةٍ سِوَى مَا لَا يُعْلَمُ مِنَ الْغَنَائِمِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ). وَقَدْ مَضَى فِي "الْأَنْفَالِ" [[راجع ج ٧ ص ٣٦٣.]] بَيَانُهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَغَيْرِهَا أَدْخَلَ الْأَحْكَامِيُّونَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْأَحْكَامِ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَيْضًا جَوَازُ اسْتِعَارَةِ السِّلَاحِ وَجَوَازُ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا اسْتُعِيرَ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَعْهُودِ مِمَّا يُسْتَعَارُ لَهُ مِثْلُهُ، وَجَوَازُ اسْتِلَافِ الْإِمَامِ الْمَالَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ وَرَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ. وَحَدِيثُ صَفْوَانَ أَصْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (إلا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً). وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبْيَ يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "النِّسَاءِ" مُسْتَوْفًى [[راجع ج ٥ ص ١٢١.]]. وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ أَنَّ صَفْوَانَ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ كَافِرٌ، فَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَامْرَأَتُهُ مُسْلِمَةٌ. الْحَدِيثَ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَا أَرَى أَنْ يُسْتَعَانَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا خَدَمًا أَوْ نَوَاتِيَّةً. وَقَالَ أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْغَالِبُ، وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ إِذَا كَانَ حُكْمُ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْإِسْهَامِ لَهُمْ فِي "الْأَنْفَالِ" [[راجع المسألة الموفية العشرين ص ١٨ من هذا الجزء.]] الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) "حُنَيْنٍ" وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَانْصَرَفَ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُذَكَّرٌ، وَهِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَصْرِفُهُ، يَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ. وَأَنْشَدَ: نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ وَشَدُّوا أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنٍ يَوْمَ تَوَاكُلِ الْأَبْطَالِ [[البيت لحسان بن ثابت.]] "وَيَوْمَ" ظَرْفٌ، وَانْتَصَبَ هُنَا عَلَى مَعْنَى: وَنَصَرَكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ تَنْصَرِفْ "مَواطِنَ" لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْمُفْرَدِ وَلَيْسَ لَهَا جِمَاعٌ، إِلَّا أَنَّ الشَّاعِرَ رُبَّمَا اضْطَرَّ فَجَمَعَ، وَلَيْسَ يجوز في الكلام كلما يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ. وَأَنْشَدَ: فَهُنَّ يَعْلُكْنَ حَدَائِدَاتِهَا وَقَالَ النَّحَّاسُ: رَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَتَعَجَّبُ مِنْ هَذَا قَالَ: أَخَذَ قَوْلَ الْخَلِيلِ وَأَخْطَأَ فِيهِ، لِأَنَّ الْخَلِيلَ يَقُولُ فِيهِ: لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ جَمْعٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْوَاحِدِ، وَلَا يُجْمَعُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ، وَأَمَّا بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فَلَا يَمْتَنِعُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا وَخَمْسُمِائَةٍ. وَقِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلَّةٍ. فَوُكِلُوا إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْهَزِيمَةِ فِي الِابْتِدَاءِ إِلَى أَنْ تَرَاجَعُوا، فَكَانَ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ. فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْغَلَبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِنَصْرِ اللَّهِ لَا بِالْكَثْرَةِ وَقَدْ قَالَ: ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾[[راجع ج ٤ ص ٢٥٣ فما بعد]] [آل عمران: ١٦٠]. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ﴾ أَيْ مِنَ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ: كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كفة حابل [[الكفة (بالكسر): حبالة الصائد. والحابل: الذي ينصب الحبالة.]] وَالرُّحْبُ (بِضَمِّ الرَّاءِ) السَّعَةُ. تَقُولُ مِنْهُ: فُلَانٌ رُحْبُ الصَّدْرِ. وَالرَّحْبُ (بِالْفَتْحِ): الْوَاسِعُ. تَقُولُ مِنْهُ: بَلَدٌ رَحْبٌ، وَأَرْضٌ رَحْبَةٌ. وَقَدْ رَحُبَتْ تَرْحُبُ رُحْبًا وَرَحَابَةً. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَيْ مَعَ رَحْبِهَا. وَقِيلَ: بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ عَلَى رَحْبِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِرَحْبِهَا، فَ"- مَا" مَصْدَرِيَّةٌ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ فَقَالَ: أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ. فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ مَا وَلَّى، وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخِفَّاءُ [[أخفاء: جمع خفيف كطبيب وأطباء. وأراد بهم المتعجلين. والحسر: جمع حاسر كساجد وسجد. وهو من لا درع له ولا مغفر. أي ليس عليهم سلاح. والرشق (بالكسر): اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة. والرجل (بالكسر): القطعة. وقوله (احمر البأس) أي اشتد الحرب. (راجع شرح النووي على صحيح مسلم كتاب المغازي).]] مِنَ النَّاسِ، وَحُسَّرٌ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ. وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ، فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ: (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ. أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ). قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُسَكِّنُهُمْ وَيُذْهِبُ خَوْفَهُمْ، حَتَّى اجْتَرَءُوا عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ وَلَّوْا. (وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، يُقَوُّونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُلْقُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالتَّثْبِيتِ، وَيُضَعِّفُونَ الْكَافِرِينَ بِالتَّجْبِينِ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَصْرٍ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْقِتَالِ: أَيْنَ الْخَيْلُ الْبُلْقُ، وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَيْهَا بِيضٌ، مَا كُنَّا فِيهِمْ إِلَّا كَهَيْئَةِ الشَّامَةِ، وَمَا كَانَ قَتْلُنَا إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ. أَخْبَرُوا النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ فَقَالَ: (تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ). (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ بِأَسْيَافِكُمْ. (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أَيْ عَلَى مَنِ انْهَزَمَ فَيَهْدِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ. كَمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ رَئِيسِ حُنَيْنٍ وَمَنْ أسلم معه من قومه. الثانية- وَلَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غنائم حنين بالجعرانة [[الجعرانة: موضع على سبعة أميال من مكة إلى الطائف.]]، أتاه وفد هو ازن مُسْلِمِينَ رَاغِبِينَ فِي الْعَطْفِ عَلَيْهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ خَيْرُ النَّاسِ وَأَبَرُّ النَّاسِ، وَقَدْ أَخَذْتَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا. فَقَالَ لَهُمْ: (إِنِّي قَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ وَقَدْ وَقَعَتِ الْمَقَاسِمُ وَعِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ وَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِمَّا ذَرَارِيَكُمْ وَإِمَّا أَمْوَالَكُمْ (. فَقَالُوا: لَا نَعْدِلُ بِالْأَنْسَابِ شَيْئًا. فَقَامَ خَطِيبًا وَقَالَ:) هَؤُلَاءِ جَاءُونَا مُسْلِمِينَ وَقَدْ خَيَّرْنَاهُمْ فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَنْسَابِ فَرَضَوْا بِرَدِّ الذُّرِّيَّةِ وَمَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ فَهُوَ لَهُمْ (. وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: أَمَّا مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَامْتَنَعَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي قَوْمِهِمَا مِنْ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِمَّا وَقَعَ لَهُمْ فِي سِهَامِهِمْ. وَامْتَنَعَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ كَذَلِكَ، وَطَمِعَ أَنْ يُسَاعِدَهُ قَوْمُهُ كَمَا سَاعَدَ الْأَقْرَعَ وَعُيَيْنَةَ قَوْمُهُمَا. فَأَبَتْ بَنُو سُلَيْمٍ وَقَالُوا: بَلْ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ ضَنَّ مِنْكُمْ بِمَا فِي يَدَيْهِ فَإِنَّا نُعَوِّضُهُ مِنْهُ). فَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نساء هم وَأَوْلَادَهُمْ، وَعَوَّضَ مَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَرْكِ نَصِيبِهِ أَعْوَاضًا رَضَوْا بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ظِئْرَ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ مِنْ بَنِي سَعْدٍ أَتَتْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَسَأَلَتْهُ سَبَايَا حُنَيْنٍ. فَقَالَ ﷺ: (إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا مَا يُصِيبُنِي مِنْهُمْ وَلَكِنِ ايِتِينِي غَدًا فَاسْأَلِينِي وَالنَّاسُ عِنْدِي فَإِذَا أَعْطَيْتُكِ حِصَّتِي أَعْطَاكِ النَّاسُ). فجاءت الغد فبسط لها ثوبه فأقعد ها عَلَيْهِ. ثُمَّ سَأَلَتْهُ فَأَعْطَاهَا نَصِيبَهُ فَلَمَّا رَأَى ذلك الناس أعطوها أنصباء هم. وكان عدد سبي هو زان فِي قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ سِتَّةَ آلَافِ رَأْسٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِنَّ الشَّيْمَاءُ أُخْتُ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ [وَبِنْتُ] حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، فَأَكْرَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَعْطَاهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَرَجَعَتْ مسرورة إِلَى بِلَادِهَا بِدِينِهَا وَبِمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ أَوْطَاسٍ امْرَأَةً تَعْدُو وَتَصِيحُ وَلَا تَسْتَقِرُّ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ: فَقَدَتْ بُنَيًّا لَهَا. ثُمَّ رَآهَا وَقَدْ وَجَدَتِ ابْنَهَا وَهِيَ تُقَبِّلُهُ وَتُدْنِيهِ، فَدَعَاهَا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: (أَطَارِحَةٌ هَذِهِ وَلَدَهَا فِي النَّارِ)؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: (لِمَ)؟ قَالُوا: لِشَفَقَتِهَا. قَالَ: (اللَّهُ أَرْحَمُ بِكُمْ منها). وخرجه مسلم بمعناه، والحمد لله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب