الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَسِيحُوا﴾ رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ أَيْ قُلْ لَهُمْ سِيحُوا أَيْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ آمِنِينَ غَيْرَ خَائِفِينَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَرْبٍ وَلَا سَلْبٍ وَلَا قَتْلٍ وَلَا أَسْرٍ. يُقَالُ سَاحَ فُلَانٌ فِي الْأَرْضِ يَسِيحُ سِيَاحَةً وَسُيُوحًا وَسَيَحَانًا وَمِنْهُ السَّيْحُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي الْمُنْبَسِطِ وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَنِي ... حَتَّى تَرَى أَمَامِي تَسِيحُ الثَّانِيَةُ - وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّأْجِيلِ وَفِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَرِئَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: هُمَا صِنْفَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَحَدُهُمَا كَانَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأُمْهِلَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْآخَرُ كَانَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ بِغَيْرِ أَجَلٍ مَحْدُودٍ فَقُصِرَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِيَرْتَادَ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ هُوَ حَرْبٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يُقْتَلُ حَيْثُ مَا أُدْرِكَ وَيُؤْسَرُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَابْتِدَاءُ هَذَا الْأَجَلِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَانْقِضَاؤُهُ إِلَى عَشْرٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَإِنَّمَا أَجَلُهُ انْسِلَاخُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَذَلِكَ خَمْسُونَ يَوْمًا: عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا كَانَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ لِمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَمَنْ كَانَ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُتَمَّ لَهُ عَهْدُهُ بِقَوْلِهِ ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤] وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَالَحَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَضَعُوا الْحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ دَمًا كَانَ لِبَنِي بَكْرٍ عِنْدَ خُزَاعَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِمُدَّةٍ، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ الْمُنْعَقِدَةُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَاغْتَنَمَ بَنُو الدِّيلِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ- وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ الدَّمُ لَهُمْ- تِلْكَ الْفُرْصَةَ وَغَفْلَةَ خُزَاعَةَ، وَأَرَادُوا إِدْرَاكَ ثَأْرِ بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ [[في هامش تاريخ الطبري طبع أوربا قسم ١ ص ١٦١٩: (رزين).]]، الَّذِينَ قَتَلَهُمْ خُزَاعَةُ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ معاوية ألد يلي فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، حَتَّى بَيَّتُوا [[بيت القوم والعدو أوقع بهم ليلا.]] خُزَاعَةَ وَاقْتَتَلُوا، وَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ، وَقَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَعَانُوهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَانْهَزَمَتْ خُزَاعَةُ إِلَى الْحَرَمِ عَلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ مَسْطُورٌ [[راجع تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام في فتح مكة.]]، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلصُّلْحِ الْوَاقِعِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ وَقَوْمٌ مِنْ خُزَاعَةَ، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش، وأنشده عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا كُنْتَ لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدَا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا عَتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... أَبْيَضَ مِثْلَ الشَّمْسِ يَنْمُو صُعُدَا إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ [[في الأصول: (الحطيم). والتصويب عن سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري ومعجم ياقوت وكتب الصحابة في ترجمة (عمرو بن سالم الخزاعي). والوتير: اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة.]] هُجَّدَا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لا نصرت إن لم أنصر كَعْبٍ). ثُمَّ نَظَرَ إِلَى سَحَابَةٍ فَقَالَ: (إِنَّهَا لَتَسْتَهِلُّ لِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ) يَعْنِي خُزَاعَةَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَمَنْ مَعَهُ: (إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ سَيَأْتِي لِيَشُدَّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الصُّلْحِ [[في ابن هشام: (في المدة).]] وَسَيَنْصَرِفُ بِغَيْرِ حَاجَةٍ). فَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مَا فَعَلَتْ، فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَسْتَدِيمَ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الصُّلْحِ، فَرَجَعَ بِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ خَبَرِهِ. وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى مَكَّةَ فَفَتَحَهَا اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. فَلَمَّا بَلَغَ هَوَازِنَ فَتْحُ مَكَّةَ جَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ مِنْ غَزَاةِ حُنَيْنٍ. وَسَيَأْتِي بَعْضُهَا. وَكَانَ الظَّفَرُ وَالنَّصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَكَانَتْ وَقْعَةُ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَسْمَ الْغَنَائِمِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالنِّسَاءِ، فَلَمْ يَقْسِمْهَا حَتَّى أَتَى الطَّائِفَ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. وَقِيلَ غير ذلك. ونصب عليهم المنجنيق ورما هم بِهِ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ تِلْكَ الْغَزَاةِ. ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْجِعْرَانَةِ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، عَلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ أَمْرِهَا وَخَبَرِهَا. ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقُوا، وَأَقَامَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ أَقَامَ الْحَجَّ فِي الْإِسْلَامِ. وَحَجَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَشَاعِرِهِمْ. وَكَانَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ خَيِّرًا فَاضِلًا وَرِعًا. وَقَدِمَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَامْتَدَحَهُ، وَأَقَامَ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول وأنشد ها إلى آخر ها، وَذَكَرَ فِيهَا الْمُهَاجِرِينَ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ- وَكَانَ قَبْلَ دلك قَدْ حُفِظَ لَهُ هِجَاءٌ فِي النَّبِيِّ ﷺ- فَعَابَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ إِذْ لَمْ يَذْكُرْهُمْ، فَغَدَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ بِقَصِيدَةٍ يَمْتَدِحُ فِيهَا الْأَنْصَارَ فَقَالَ: مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ [[المقنب: الجماعة من الفوارس.]] وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... إِنَّ الْخِيَارَ هُمُ بَنُو الْأَخْيَارِ الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ ... كَسَوَافِلِ الْهِنْدِيِّ غَيْرِ قِصَارِ [[السمهري: الرمح. وسافلة القناة: أعظمها وأقصر ها كعوبا. والهندي: الرماح.]] وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ ... كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلِيلَةِ الْأَبْصَارِ وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ ... لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الْكُفَّارِ دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنِ خَفِيَّةٍ ... غُلْبُ الرِّقَابِ مِنَ الْأُسُودِ ضَوَارِ [[دربوا: اعتادوا. وخفية: موضع كثير الأسد. والغلب: الغلاظ الرقاب. والضواري: اللواتي قد ضرين بأكل لحوم الناس الواحد ضار.]] وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إِلَيْهِمُ ... أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَغْفَارِ [[المعاقل: الحصون. والاغفار: أولاد الاروية (الوعل) واحد ها غفر.]] ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً ... دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ [[علي: هو علي بن بكر بن وائل. ويقال: هو على أخو عبد مناة بن خزيمة من أمه. وقالوا: هو علي بن مسعود بن مازن.]] لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِي كُلَّهُ ... فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي الَّذِينَ أُمَارِي قَوْمٌ إِذَا خَوَتِ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ ... لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِي [[خوت: إذا لم يكن لها مطر. والمقاري: جمع مقرى الذي يقرى الضيف.]] ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ انصرافه من الطائف ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأول وَجُمَادَى الْآخِرَةَ، وَخَرَجَ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى غَزْوَةِ الرُّومِ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وهي آخر غزوة غزا ها. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ من تَبُوكَ أَرَادَ الْحَجَّ ثُمَّ قَالَ: (إِنَّهُ يَحْضُرُ الْبَيْتَ عُرَاةٌ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونُ ذَلِكَ). فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ صَدْرِ "بَرَاءَةٌ" لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ. فَلَمَّا خَرَجَ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ عَلِيًّا وَقَالَ: (اخْرُجْ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةٌ فَأَذِّنْ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ إِذَا اجْتَمَعُوا). فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَى نَاقَةِ النَّبِيِّ ﷺ الْعَضْبَاءِ حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا رَآهُ: أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ؟ فَقَالَ: بَلْ مَأْمُورٌ ثُمَّ نَهَضَا، فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَلَى مَنَازِلِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرٍ: وَأَنَّ عَلِيًّا قَرَأَ عَلَى النَّاسِ "بَرَاءَةٌ" حَتَّى خَتَمَهَا قَبْلَ يوم التروية بيوم. وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ انقضاء خطبة أبي بكر في الثلاثة الأيام. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلُ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ يَنْفِرُونَ وَكَيْفَ يَرْمُونَ، يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ. فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ "بَرَاءَةٌ" حَتَّى خَتَمَهَا. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: لَمَّا خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ بِعَرَفَةَ قَالَ: قُمْ يَا عَلِيٌّ فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَامَ عَلِيٌّ فَفَعَلَ. قَالَ: ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ لَمْ يُشَاهِدُوا خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ الْفَسَاطِيطَ يَوْمَ النَّحْرِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ عليا بأي شي بُعِثْتَ فِي الْحَجِّ؟ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: أَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ [[الصحل: حدة الصوت مع بحح.]] صَوْتِي. قَالَ أَبُو عُمَرَ: بُعِثَ عَلِيٌّ لِيَنْبِذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهَ، وَيَعْهَدَ إِلَيْهِمْ أَلَّا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ. وَأَقَامَ الْحَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ سَنَةَ تِسْعٍ أَبُو بَكْرٍ. ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ قَابِلٍ حجته التي لم يحج غير ها مِنَ الْمَدِينَةِ، فَوَقَعَتْ حَجَّتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ. فَقَالَ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ ... ) الْحَدِيثَ، عَلَى ما يأتي في آية النسي بَيَانُهُ [[راجع ج ١٣٦ ص؟؟؟]]. وَثَبَتَ الْحَجُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَذَكَرَ مُجَاهِدٌ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَجَّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي إِعْطَاءِ "بَرَاءَةٌ" لِعَلِيٍّ أَنَّ بَرَاءَةٌ تَضَمَّنَتْ نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَكَانَتْ سِيرَةُ الْعَرَبِ أَلَّا يَحُلَّ الْعَقْدَ إِلَّا الَّذِي عَقَدَهُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَقْطَعَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ بِالْحُجَّةِ، وَيُرْسِلَ ابْنَ عَمِّهِ الْهَاشِمِيَّ مِنْ بَيْتِهِ يَنْقُضُ الْعَهْدَ، حَتَّى لَا يبقى لهم متكلم. قال معناه الزجاج. الثالثة- قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ جَوَازَ قَطْعِ الْعَهْدِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلِذَلِكَ حَالَتَانِ: حَالَةٌ تَنْقَضِي الْمُدَّةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَنُؤْذِنُهُمْ بِالْحَرْبِ. وَالْإِيذَانُ اخْتِيَارٌ. والثانية- أن نخاف منهم غدرا، فننبذ إليهم عهد هم كَمَا سَبَقَ. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَاهَدَ ثُمَّ نبذ العهد لما أمر بالقتال.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب