الباحث القرآني

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ [[كذا في جميع الأصول.]]: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى: "أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ" التَّقْدِيرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَجَعَلْتُمْ أَصْحَابَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ أَوْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ مِثْلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ. وَيَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ الْحَذْفُ فِي "مَنْ آمَنَ" أَيْ أَجَعَلْتُمْ عَمَلَ سَقْيِ الْحَاجِّ كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ. وَالسِّقَايَةُ مَصْدَرٌ كَالسِّعَايَةِ وَالْحِمَايَةِ. فَجَعَلَ الِاسْمَ بِمَوْضِعِ الْمَصْدَرِ إِذْ عُلِمَ مَعْنَاهُ، مِثْلَ إِنَّمَا السَّخَاءُ حَاتِمٌ، وَإِنَّمَا الشِّعْرُ زُهَيْرٌ. وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِثْلُ ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢]. وَقَرَأَ أَبُو [[في نسخ الأصل: (ابن أبي وجزة) إلا ى: وجزة. وهو تحريف.]] وَجْزَةَ "أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" سُقَاةُ جَمْعُ سَاقٍ وَالْأَصْلُ سُقْيَةٌ عَلَى فُعْلَةٍ، كَذَا يُجْمَعُ الْمُعْتَلُّ مِنْ هَذَا، نَحْوَ قَاضٍ وَقُضَاةٍ وَنَاسٍ وَنُسَاةٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَلًّا جُمِعَ عَلَى فُعَلَةٍ نَحْوَ نَاسِئٍ وَنُسَأَةٍ، لِلَّذِينَ كَانُوا يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ. وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ "سُقَاةَ وَعَمَرَةَ" إِلَّا أَنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ نَصَبَ "الْمَسْجِدَ" عَلَى إِرَادَةِ التَّنْوِينِ فِي "عَمَرَةً". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سُقَايَةً بِضَمِّ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَالْحَاجُّ اسْمُ جِنْسِ الْحُجَّاجِ. وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: مُعَاهَدَتُهُ وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا مُبْطِلَةٌ قَوْلَ مَنِ افْتَخَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ. قَالَ: افْتَخَرَ عَبَّاسٌ بِالسِّقَايَةِ، وَشَيْبَةٌ بِالْعِمَارَةِ، وَعَلِيٌّ بِالْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، فَصَدَّقَ اللَّهُ عَلِيًّا وَكَذَّبَهُمَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِمَارَةَ لَا تكون بالكفر، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِالْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَأَدَاءِ الطَّاعَةِ. وَهَذَا بَيِّنٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا الْيَهُودَ وَقَالُوا: نَحْنُ سُقَاةُ الْحَاجِّ وَعُمَّارُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَفَنَحْنُ أَفْضَلُ أَمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ؟ فَقَالَتْ لَهُمُ الْيَهُودُ عِنَادًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنْتُمْ أَفْضَلُ. وَقَدِ اعْتَرَضَ هُنَا إِشْكَالٌ وَهُوَ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ. وَقَالَ آخَرُ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مما قلتم. فزجر هم عُمَرُ وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ- وهو يَوْمُ الْجُمُعَةِ- وَلَكِنْ إِذَا صُلِّيَتِ الْجُمُعَةُ دَخَلْتُ وَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَهَذَا الْمَسَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ: "وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" فَتَعَيَّنَ الْإِشْكَالُ. وَإِزَالَتُهُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ تَسَامَحَ فِي قَوْلِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَإِنَّمَا قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ الْآيَةَ عَلَى عُمَرَ حِينَ سَأَلَهُ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَئِذٍ. وَاسْتَدَلَّ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ مِمَّا قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ سَمِعَهُمْ عُمَرُ، فَاسْتَفْتَى لَهُمْ فَتَلَا عَلَيْهِ مَا قَدْ كَانَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا أُنْزِلَ فِي الْكَافِرِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحْكَامَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ. قِيلَ لَهُ: لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُنْتَزَعَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْمُشْرِكِينَ أَحْكَامٌ تَلِيقُ بِالْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: إِنَّا لَوْ شِئْنَا لَاتَّخَذْنَا سَلَائِقَ [[سلائق: الحملان المشوية ويروى بالصاد.]] وَشِوَاءً وَتُوضَعُ صَحْفَةٌ وَتُرْفَعُ أُخْرَى وَلَكِنَّا سَمِعْنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها﴾[[راجع ج ١٦ ص ١٩٩.]] [الأحقاف: ٢٠]. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي الْكُفَّارِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفَهِمَ مِنْهَا عُمَرُ الزَّجْرَ عَمَّا يُنَاسِبُ أَحْوَالَهُمْ بَعْضَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَهَذَا نَفِيسٌ وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ ويرتفع الإبهام، والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب