الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وعبد الله بن أبي أمية ابن الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (يَا عَمُّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ) فقال أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ" وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[[راجع ج ١٣ ص.]] [القصص: ٥٦]. فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا نَاسِخَةٌ لِاسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه سلم لِعَمِّهِ فَإِنَّهُ اسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ السُّورَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَاتَ أَبُو طَالِبٍ فِي عُنْفُوَانِ الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيُّ ﷺ بِمَكَّةَ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ قَطْعَ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ حَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ فَطَلَبُ الْغُفْرَانِ لِلْمُشْرِكِ مِمَّا لَا يَجُوزُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ كَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ هَذَا مَعَ مَنْعِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ. قِيلَ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: (رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ نَبِيًّا قَبْلَهُ شَجَّهُ قَوْمُهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). قُلْتُ: وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْحِكَايَةِ عَمَّنْ قَبْلَهُ، لَا أَنَّهُ قَالَهُ ابْتِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالنَّبِيُّ الَّذِي حَكَاهُ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ [هُودٍ [[راجع ج ٩ ص ٤٣.]]] إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي الْآيَةِ الصَّلَاةُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَوْ كَانَتْ حَبَشِيَّةً حبلى من الزني لِأَنِّي لَمْ أَسْمَعِ اللَّهَ حَجَبَ الصَّلَاةَ إِلَّا عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: "مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ" الْآيَةَ. قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالِاسْتِغْفَارُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْأَحْيَاءِ جائز لأنه مرجو إيمانهم ويمكن تَأَلُّفَهُمْ بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَتَرْغِيبُهُمْ فِي الدِّينِ. وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ لِأَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمَا مَا دَامَا حَيَّيْنِ. فَأَمَّا مَنْ مَاتَ فَقَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الرَّجَاءُ فَلَا يُدْعَى لَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِمَوْتَاهُمْ فَنَزَلَتْ فَأَمْسَكُوا عَنِ الِاسْتِغْفَارِ وَلَمْ يَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْأَحْيَاءِ حَتَّى يَمُوتُوا. الثَّالِثَةُ- قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: "مَا كانَ" فِي الْقُرْآنِ يَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ: عَلَى النَّفْيِ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها﴾[[راجع ج ١٣ ص]] [النمل: ٦٠]، ﴿وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[[راجع ج ٤ ص ٢٢٦.]] [آل عمران: ١٤٥]. وَالْآخَرُ بِمَعْنَى النَّهْيِ كَقَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾[[راجع ج ١٤ ص]] [الأحزاب: ٥٣]، وَ "مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب