الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ فِي "الِانْفِطَارِ" وَغَيْرِهَا [[راجع ج ١٩ ص (٢٢٤)]] أَيْ سَوَّى مَا خَلَقَ، فَلَمْ يَكُنْ فِي خَلْقِهِ تَثْبِيجٌ [[التثبيج: التخليط.]]. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ عَدَّلَ قَامَتْهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَسَّنَ مَا خَلَقَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَلَقَ آدَمَ فَسَوَّى خَلْقَهُ. وَقِيلَ: خَلَقَ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ، وَسَوَّى فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ. وَقِيلَ: خَلَقَ الْأَجْسَادَ، فَسَوَّى الْأَفْهَامَ. وَقِيلَ: أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَهَيَّأَهُ لِلتَّكْلِيفِ. (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) قَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السلمي وَالْكِسَائِيُّ (قَدَرَ) مُخَفَّفَةَ الدَّالِ، وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ. وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ قَدَّرَ وَوَفَّقَ لِكُلِّ شَكْلٍ شَكْلَهُ. فَهَدى أَيْ أَرْشَدَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: قَدَّرَ الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى لِلرُّشْدِ وَالضَّلَالَةِ. وَعَنْهُ قَالَ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاعِيهَا. وَقِيلَ: قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ، وَهَدَاهُمْ لِمَعَاشِهِمْ إِنْ كَانُوا إِنْسًا، وَلِمَرَاعِيهِمْ إِنْ كَانُوا وَحْشًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ فَهَدى قَالُوا: عَرَّفَ خَلْقَهُ كَيْفَ يَأْتِي الذكر الأنثى، كما قال في (طه): أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» [طه: ٥٠] أَيِ الذَّكَرَ لِلْأُنْثَى. وَقَالَ عَطَاءٌ: جَعَلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مَا يُصْلِحُهَا، وَهَدَاهَا لَهُ. وَقِيلَ: خَلَقَ المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه اسْتِخْرَاجِهَا مِنْهَا. وَقِيلَ قَدَّرَ فَهَدى: قَدَّرَ لِكُلِّ حيوان ما يصلحه، فهداه إليه، وَعَرَّفَهُ وَجْهَ الِانْتِفَاعِ بِهِ. يُحْكَى أَنَّ الْأَفْعَى إِذَا أَتَتْ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ عَمِيَتْ، وَقَدْ أَلْهَمَهَا اللَّهُ أَنَّ مَسْحَ الْعَيْنِ بِوَرَقِ الرَّازِيَانْجِ [[الرازيانج: شجرة يسميها أهل اليمن (السمار)، ومن خصائصها أن عصارة أغصانها وأوراقها تخلط بالأدوية التي تحد البصر وتجلوه (انظر المعتمد في الأدوية المفردة لملك اليمن يوسف بن رسول. طبع مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة.]] الْغَضِّ يَرُدُّ إِلَيْهَا بَصَرَهَا، فَرُبَّمَا كَانَتْ فِي بَرِيَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرِّيفِ مَسِيرَةُ أَيَّامٍ، فَتَطْوِي تِلْكَ الْمَسَافَةَ عَلَى طُولِهَا وَعَلَى عَمَاهَا، حَتَّى تَهْجُمَ فِي بَعْضِ الْبَسَاتِينِ عَلَى شَجَرَةٍ الرَّازِيَانْجِ لَا تُخْطِئَهَا، فَتَحُكَّ بِهَا عَيْنَيْهَا وَتَرْجِعَ بَاصِرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهِدَايَاتُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا لَا يُحَدُّ مِنْ مَصَالِحِهِ، وَمَا لَا يُحْصَرُ مِنْ حَوَائِجِهِ، فِي أَغْذِيَتِهِ وَأَدْوِيَتِهِ، وَفِي أَبْوَابِ دُنْيَاهُ وَدِينِهِ، وَإِلْهَامَاتِ الْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَهَوَامِّ الْأَرْضِ بَابٌ وَاسِعٌ، وَشَوْطٌ بَطِينٌ [[أي بعيد.]]، لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ، فَسُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَدَّرَ مُدَّةَ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ تِسْعَةَ أَشْهُرَ، وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، ثُمَّ هَدَاهُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الرَّحِمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ قَدَّرَ، فَهَدَى وَأَضَلَّ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [[آية ٨١ سورة النحل.]] [النحل: ٨١]. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى دَعَا إِلَى الْإِيمَانِ، كقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ [[آية ٥٢ سورة الشورى.]] [الشورى: ٥٢] أَيْ لَتَدْعُو، وَقَدْ دَعَا الْكُلَّ إِلَى الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: فَهَدى أَيْ دَلَّهُمْ بِأَفْعَالِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَكَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا. وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ شَدَّدَ الدَّالَ مِنْ قَدَّرَ أَنَّهُ مِنَ التَّقْدِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [[آية ٢ سورة الفرقان.]] [الفرقان: ٢]. وَمَنْ خَفَّفَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّقْدِيرِ فَيَكُونَانِ بِمَعْنًى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَدْرِ وَالْمِلْكِ، أَيْ مَلَكَ الْأَشْيَاءَ، وَهَدَى مَنْ يَشَاءُ. قُلْتُ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَشْيَاخِي يَقُولُ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى. هُوَ تَفْسِيرُ الْعُلُوِّ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى﴾ أَيِ النَّبَاتَ والكلأ الأخضر. قال الشاعر: [[هو زفر بن الحارث. والدمن: السرقين- الزبل- المتلبد بالبعر. والثرى: التراب والأرض.]] وَقَدْ يَنْبُتُ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِ الثَّرَى ... وَتَبْقَى حزازات النفوس كما هيا (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) الْغُثَاءُ: مَا يَقْذِفُ بِهِ السَّيْلُ عَلَى جَوَانِبِ الْوَادِي مِنَ الْحَشِيشِ وَالنَّبَاتِ وَالْقُمَاشِ [[القماش (بالضم): ما كان على وجه الأرض من فتات الأشياء. وقماش كل شي: فتاته.]]. وَكَذَلِكَ الْغُثَّاءُ (بِالتَّشْدِيدِ). وَالْجَمْعُ: الْأَغْثَاءُ، قَتَادَةُ: الْغُثَاءُ: الشَّيْءُ الْيَابِسُ. وَيُقَالُ لِلْبَقْلِ وَالْحَشِيشِ إِذَا تَحَطَّمَ وَيَبِسَ: غُثَاءٌ وَهَشِيمٌ. وَكَذَلِكَ لِلَّذِي يَكُونُ حَوْلَ الْمَاءِ مِنَ الْقُمَاشِ غُثَاءٌ، كَمَا قَالَ: كَأَنَّ طَمِيَّةَ [[كذا رواه صاحب اللسان في (طما)، وقال: طمية: جبل وفي بعض النسخ ومعلقة امرئ القيس: كأن ذرا رأس المجيمر غدوة وقد أشار التبريزي شارح المعلقة إلى الرواية الاولى. قال: "والمجيمر": أرض لبني فزارة. وطمية: جبل في بلادهم. يقول: قد امتلأ المجيمر فكأن الجبل في الماء فلكة مغزل لما جمع السيل حوله من الغثاء.]] الْمُجَيْمِرِ غُدْوَةً ... مِنَ السَّيْلِ وَالْأَغْثَاءِ [[في المعلقة: "الغثاء" قال التبريزي: ورواه الفراء "من السيل والاغثاء": جمع الغثاء، وهو قليل في الممدود. قال أبو جعفر: من رواه الاغثاء فقد أخطأ لان غثاء لا يجمع على أغثاء وإنما يجمع على أغثية لان أفعلة جمع الممدود وأفعالا جمع المقصور نحو رحا وأرحاء.]] فَلْكَةُ مِغْزَلٍ وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ: غَثَا الْوَادِي وَجَفَأَ [[في الأصول: (وانجفى)، وهو تحريف عن (جفا). والجفاء كغراب: ما يرمى به الوادي.]]. وَكَذَلِكَ الْمَاءُ: إِذَا عَلَاهُ مِنَ الزَّبَدِ وَالْقُمَاشِ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَالْأَحْوَى: الْأَسْوَدُ، أَيْ إِنَّ النَّبَاتَ يَضْرِبُ إِلَى الْحُوَّةِ مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ كَالْأَسْوَدِ. وَالْحُوَّةُ: السَّوَادُ، قَالَ الْأَعْشَى: [[كذا في جميع نسخ الأصل وهو خطأ. والبيت لذي الرمة كما في ديوانه واللسان. والياء من الشفاء: اللطيفة القليلة الدم. واللعس (بفتحتين) لَوْنُ الشَّفَةِ إِذَا كَانَتْ تَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ قليلا، وذلك يستملح. والشنب: برودة وعذوبة في، ورقة في الأسنان.]] لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْحُوَّةُ: سُمْرَةُ الشَّفَةِ. يُقَالُ: رَجُلٌ أَحَوَى، وَامْرَأَةٌ حَوَّاءُ، وَقَدْ حَوِيتُ. وَبَعِيرٌ أَحَوَى إِذَا خَالَطَ خُضْرَتَهُ سَوَادٌ وصفرة. وَتَصْغِيرُ أَحَوَى أُحَيْوٌ، فِي لُغَةِ مَنْ قَالَ أُسَيْوِدٌ. ثُمَّ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحْوى حَالًا مِنَ الْمَرْعى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: كَأَنَّهُ مِنْ خُضْرَتِهِ يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَخْرَجَ الْمَرْعَى أَحَوَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً يُقَالُ: قَدْ حُوِيَ النَّبْتُ، حكاه الكسائي، وقال: وَغَيْثٍ مِنَ الْوَسْمِيِّ حُوٍّ تِلَاعُهُ ... تَبَطَّنْتُهُ بِشَيْظَمٍ صَلَتَانِ [[الوسمي: مطر أول الربيع لأنه يسم الأرض بالنبات. نسب إلى الوسم. والتلاع: جمع التلعة، وهي أرض مرتفعة غليظة يتردد فيها السيل، ثم يدفع منها إلى تلعة أسفل منها. وهي مكرمة من المنابت: وقيل: التلعة مجرى الماء من أعلى الوادي إلى بطون الأرض وتبطنته: دخلته. والشظيم: الطويل الجسيم الفتى من الناس والخيل. والصلتان: النشيط الحديد الفؤاد من الخيل.]] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحْوى صِفَةً لِ غُثاءً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ صَارَ كَذَلِكَ بَعْدَ خُضْرَتِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَجَعَلَهُ أَسْوَدَ مِنِ احْتِرَاقِهِ وَقِدَمِهِ، وَالرَّطْبُ إِذَا يَبِسَ اسْوَدَّ. وَقَالَ عَبْدُ الرحمن زَيْدٍ: أَخْرَجَ الْمَرْعَى أَخْضَرَ، ثُمَّ لَمَّا يَبِسَ اسْوَدَّ مِنِ احْتِرَاقِهِ، فَصَارَ غُثَاءً تَذْهَبُ بِهِ الرِّيَاحُ وَالسُّيُولُ. وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى للكفار، لذهاب الدنيا بعد نضارتها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب