الباحث القرآني

فيه مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أَمَرَ النَّبِيَّ ﷺ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَسَوَاءٌ قَالَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ" لَمَّا تَأَدَّتِ الرِّسَالَةُ إِلَّا بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ بِعَيْنِهَا، هَذَا بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْأَلْفَاظُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَنْتَهُوا﴾ يُرِيدُ عَنِ الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا بُدَّ، وَالْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ جَوَابُ الشَّرْطِ "يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ" وَمَغْفِرَةُ مَا قَدْ سَلَفَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمُنْتَهٍ عَنِ الْكُفْرِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ أَبُو سَعِيدِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّبَيْرِيُّ: يَسْتَوْجِبُ الْعَفْوَ الْفَتَى إِذَا اعْتَرَفْ ... ثُمَّ انْتَهَى عَمَّا أَتَاهُ وَاقْتَرَفْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْمُعْتَرِفْ ... إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي شَمَّاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ يَبْكِي طَوِيلًا. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ لَطِيفَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلْقِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِمَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ وَالْمَآثِمَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ مُؤَاخَذَةً لَهُمْ لَمَا اسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَةً وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَةٌ. فَيَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْإِنَابَةِ، وَبَذْلَ الْمَغْفِرَةِ بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ لِدُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ، وَأَدْعَى إِلَى قَبُولِهِمْ لِكَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا تَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ثُمَّ سَأَلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَجَاءَ عَابِدًا فَسَأَلَ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ: لَا تَوْبَةَ لَكَ فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، الْحَدِيثَ. فَانْظُرُوا إِلَى قَوْلِ الْعَابِدِ: لَا تَوْبَةَ لك، فلما علم أنه قد أيئسه قَتَلَهُ، فِعْلُ الْآيِسِ مِنَ الرَّحْمَةِ. فَالتَّنْفِيرُ مَفْسَدَةٌ للخليفة، وَالتَّيْسِيرُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ لَمْ يَقْتُلْ فَسَأَلَ: هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَيَقُولُ: لَا تَوْبَةَ، تَخْوِيفًا وَتَحْذِيرًا. فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ قَتَلَ فَسَأَلَهُ: هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ لَهُ: لَكَ تَوْبَةٌ، تَيْسِيرًا وَتَأْلِيفًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ: فَلَا طَلَاقَ لَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ فَأَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. وَكَذَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، فَذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ. فَأَمَّا مَنِ افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْفِرْيَةِ وَالسَّرِقَةِ. وَلَوْ زَنَى وَأَسْلَمَ، أَوِ اغتصب مسلمة سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَعْنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ، مِنْ مَالٍ أو دم أو شي. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾، وَقَوْلُهُ: (الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ)، وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْمَعْنَى مِنَ التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ. قُلْتُ: أَمَّا الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ فَلَا خِلَافَ فِي إِسْقَاطِ مَا فَعَلَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا إِنْ دَخَلَ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَإِنْ سَرَقَ قُطِعَ. وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إِذَا قَذَفَ حُدَّ ثَمَانِينَ، وَإِذَا سَرَقَ قُطِعَ، وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ. وَلَا يُسْقِطُ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ عَنْهُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ حَالَ كُفْرِهِ، عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي النَّصْرَانِيِّ يَزْنِي ثُمَّ يُسْلِمُ، وَقَدْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذْ هُوَ بِالْعِرَاقِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَغْرِيبَ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ" قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا أَقَرَّ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ كَافِرٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَحُكِيَ عَنِ الْكُوفِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُحَدُّ. الرَّابِعَةُ- فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ، وَأَصَابَ جِنَايَاتٍ وَأَتْلَفَ أَمْوَالًا، فَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ إِذَا أَسْلَمَ، لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِمَّا أَحْدَثَهُ فِي حَالِ ارْتِدَادِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَلْزَمُهُ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلْآدَمِيِّ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَلْزَمُهُ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ لِلَّهِ يَسْقُطُ، وَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنْ حَقِّهِ، وَالْآدَمِيُّ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَتَلْزَمُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ. قَالُوا: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ﴾ عام في الحقوق لله تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَعُودُوا﴾ يُرِيدُ إِلَى الْقِتَالِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ "عَادَ" إِذَا جَاءَتْ مُطْلَقَةً فَإِنَّمَا تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ إِلَى حَالَةٍ كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَسْنَا نَجِدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ حَالَةٌ تُشْبِهُ مَا ذَكَرْنَا إِلَّا الْقِتَالَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَأَوَّلَ إِلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنْهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ فِي "عاد" إذا كانت مطلقة لأنها قد تجئ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ دَاخِلَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهَا مَعْنَى صَارَ، كَمَا تَقُولُ: عَادَ زَيْدٌ مَلِكًا، يُرِيدُ صَارَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالًا وَهَذِهِ لَا تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ إِلَى حَالَةٍ قَدْ كَانَ الْعَائِدُ عَلَيْهَا قَبْلُ. فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِخَبَرِهَا لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ دُونَهَا، فَحُكْمُهَا حُكْمُ صَارَ. قوله تعالى: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) عِبَارَةٌ تَجْمَعُ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ وَالتَّمْثِيلَ بِمَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ بِعَذَابِ الله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب