الباحث القرآني

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمُّهُمُ الْعَذَابُ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَ فِيهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَكَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّا أُرِدْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْيَوْمَ، وَمَا كُنْتُ أَظُنُّهَا إِلَّا فِيمَنْ خُوطِبَ ذَلِكَ الْوَقْتَ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتِ (الْآيَةُ [[من ج.]]) فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً، فَأَصَابَتْهُمُ الْفِتْنَةُ يَوْمَ الْجَمَلِ فَاقْتَتَلُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: وَقَالَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَيَعُمُّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (يَكُونُ بَيْنَ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِي فِتْنَةٌ يَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ بِصُحْبَتِهِمْ إِيَّايَ يَسْتَنُّ بِهِمْ فِيهَا نَاسٌ بَعْدَهُمْ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ بِهَا النَّارَ (. قُلْتُ: وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ هِيَ الَّتِي تُعَضِّدُهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ". وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ:) إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ) وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:" مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا [[استهموا: افترعوا.]] عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نصيبنا خرقا ولم نوذ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا". فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَعْذِيبُ الْعَامَّةِ بِذُنُوبِ الْخَاصَّةِ. وَفِيهِ اسْتِحْقَاقُ الْعُقُوبَةِ بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالْفِتْنَةُ إِذَا عملت هَلَكَ الْكُلُّ. وَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَعَاصِي وَانْتِشَارِ الْمُنْكَرِ وَعَدَمِ التَّغْيِيرِ، وَإِذَا لَمْ تُغَيَّرْ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْكِرِينَ لَهَا بِقُلُوبِهِمْ هِجْرَانُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَالْهَرَبُ مِنْهَا. وَهَكَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ، كَمَا فِي قِصَّةِ السَّبْتِ حِينَ هَجَرُوا الْعَاصِينَ وَقَالُوا لَا نُسَاكِنُكُمْ. وَبِهَذَا قَالَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: تُهْجَرُ الْأَرْضُ الَّتِي يُصْنَعُ فِيهَا الْمُنْكَرُ جِهَارًا وَلَا يُسْتَقَرُّ فِيهَا. وَاحْتَجَّ بِصَنِيعِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي خُرُوجِهِ عَنْ أَرْضِ مُعَاوِيَةَ حِينَ أَعْلَنَ بِالرِّبَا، فَأَجَازَ بَيْعَ سِقَايَةِ الذَّهَبِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا. خَرَّجَهُ الصَّحِيحُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ". فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَلَاكَ الْعَامَّ مِنْهُ مَا يَكُونُ طُهْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ نِقْمَةً لِلْفَاسِقِينَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: عَبِثَ [[عبث: معناه اضطرب بجسمه. وقيل: حرك أطرافه كمن يأخذ شيئا أو يدفعه.]] رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَنَامِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَنَعْتَ شَيْئًا فِي مَنَامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ؟ فَقَالَ: (الْعَجَبُ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ". فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ. قَالَ:" نَعَمْ، فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ [[المستبصر: هو المستبين للأمر، القاصد لذلك عمدا. والمجبور: المكره.]] والمحبور وَابْنُ السَّبِيلِ يَهْلِكُونَ مَهْلِكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نِيَّاتِهِمْ". فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [[راجع ج ٧ ص ١٥٥ فما بعد. وج ١٠ ص ٢٣٠ وج ١٧ ص ١١٣.]] "." كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [[راجع ج ١٩ ص ٨٢ فما بعد.]] "." لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [[راجع ج ٣ ص ٤٢٤ فما بعد.]] ". وَهَذَا يُوجِبُ أَلَّا يُؤْخَذَ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الْعُقُوبَةُ بِصَاحِبِ الذَّنْبِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ إِذَا تَظَاهَرُوا بِالْمُنْكَرِ فَمِنَ الْفَرْضِ عَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، فَإِذَا سَكَتَ [[كذا في ب وج وهـ وك وى. وفى ز: سكتوا.]] عَلَيْهِ فَكُلُّهُمْ عَاصٍ. هَذَا بِفِعْلِهِ وَهَذَا بِرِضَاهُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ الرَّاضِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ، فَانْتَظَمَ فِي الْعُقُوبَةِ [[عبارة ابن العربي: "فانتظم الذنب بالعقوبة".]]، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَهُوَ مَضْمُونُ الْأَحَادِيثِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمَقْصُودُ الْآيَةِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً تَتَعَدَّى الظَّالِمَ، فَتُصِيبُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي دُخُولِ النُّونِ فِي "لَا تُصِيبَنَّ". قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: انْزِلْ عَنِ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ، فَهُوَ جَوَابُ الْأَمْرِ بِلَفْظِ النَّهْيِ، أَيْ إِنْ تَنْزِلْ عَنْهَا لَا تَطْرَحَنَّكَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ [[راجع ج ١٣ ص ١٦٩ فما بعد.]] "أَيْ إِنْ تَدْخُلُوا لَا يَحْطِمَنَّكُمْ، فَدَخَلَتِ النُّونُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْقَسَمِ، وَالنُّونُ لا تدخل إلا على فعل النهي ألا على جَوَابِ الْقَسْمِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: إِنَّهُ نَهْيٌ بَعْدَ أَمْرٍ، وَالْمَعْنَى النَّهْيُ لِلظَّالِمِينَ، أَيْ لَا تَقْرَبُنَّ الظُّلْمَ. وَحَكَى سِيبَوَيْهَ: لَا أَرَيَنَّكَ ها هنا، أي لا تكن ها هنا، فإنه من كان ها هنا رَأَيْتُهُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْمَعْنَى اتَّقُوا فِتْنَةً تُصِيبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا خَاصَّةً. فَقَوْلُهُ" لَا تُصِيبَنَّ "نَهْيٌ فِي مَوْضِعِ وَصْفِ النَّكِرَةِ، وَتَأْوِيلُهُ الْإِخْبَارُ بِإِصَابَتِهَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ" لَتُصِيبَنَّ "بِلَا أَلِفٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ قَرَأَ" لَتُصِيبَنَّ "جَازَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا مَنْ" لَا تُصِيبَنَّ "حُذِفَتِ الْأَلِفُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ" مَا "وَهِيَ أُخْتُ" لَا" فِي نَحْوِ أَمَ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، وَشِبْهِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تكون مخالقة لِقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهَا تُصِيبُ الظَّالِمَ خاصة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب