الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ مَا افْتَرَيْتَهُ وَلَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِكَ، وَلَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ، كَمَا يَدَّعِيهِ الْمُشْرِكُونَ. ووجه اتصال هذه الآية بنا قَبْلُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَصْنَافَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ يَتَضَمَّنُ مَا بالناس حاجة إليه، فليس بسحر وَلَا كَهَانَةٍ، وَلَا شِعْرٍ، وَأَنَّهُ حَقٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَ الْقُرْآنَ مُتَفَرِّقًا: آية بَعْدَ آيَةٍ، وَلَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلِذَلِكَ قَالَ نَزَّلْنا وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا مُبَيَّنًا [[راجع ج ١٣ ص (٢٩)]] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أَيْ لِقَضَاءِ رَبِّكَ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اصْبِرْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ، هَكَذَا قَضَيْتُ. ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: أَيِ اصْبِرْ لِمَا حُكِمَ بِهِ عَلَيْكَ مِنَ الطَّاعَاتِ، أَوِ انْتَظِرْ حُكْمَ اللَّهِ إِذْ وَعَدَكِ أَنَّهُ يَنْصُرُكِ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَسْتَعْجِلُ فَإِنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَيْ ذَا إِثْمٍ أَوْ كَفُوراً أَيْ لَا تُطِعِ الْكُفَّارَ. فَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَيُقَالُ: نَزَلَتْ فِي عتبة بن ربيعة والوليد ابن الْمُغِيرَةِ، وَكَانَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَعْرِضَانِ عَلَيْهِ الْأَمْوَالَ وَالتَّزْوِيجَ، عَلَى أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ النُّبُوَّةِ، فَفِيهِمَا نَزَلَتْ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. قَالَ مُقَاتِلٌ: الَّذِي عَرَضَ التَّزْوِيجَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: إِنَّ بَنَاتِي مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، فَأَنَا أُزَوِّجُكَ ابْنَتِي مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ وَارْجِعْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ. وَقَالَ الْوَلِيدُ: إِنْ كُنْتَ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ لِأَجْلِ الْمَالِ، فَأَنَا أُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ حَتَّى تَرْضَى وَارْجِعْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَنَزَلَتْ. ثُمَّ قِيلَ: أَوْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آثِماً أَوْ كَفُوراً أَوْكَدُ مِنَ الْوَاوِ، لِأَنَّ الْوَاوَ إِذَا قُلْتَ: لَا تُطِعْ زَيْدًا وَعَمْرًا فَأَطَاعَ أَحَدَهُمَا كَانَ غَيْرَ عَاصٍ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَلَّا يُطِيعَ الِاثْنَيْنِ، فَإِذَا قَالَ: لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً فَ- أَوْ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ أَنْ يُعْصَى، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا تُخَالِفِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ، أَوِ اتَّبِعِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ فَقَدْ قُلْتَ: هَذَانَ أَهْلٌ أَنْ يُتَّبَعَا وَكُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ لِأَنْ يُتَّبَعُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَوْ هُنَا بِمَنْزِلَةِ لَا كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا كَفُورًا، قَالَ الشَّاعِرُ: لَا وَجْدُ ثَكْلَى كَمَا وَجَدْتُ وَلَا ... وَجْدُ عَجُولٍ أَضَلَّهَا رُبَعُ [[العجول من النساء والإبل: الواله التي فقدت ولدها سميت بذلك لعجلتها في جيئتها وذهابها جزعا وهي هنا الناقة. والربع: كمضر: الفصيل ينتج في الربيع.]] أَوْ وَجْدُ شَيْخٍ أَضَلَّ نَاقَتُهُ ... يَوْمَ تَوَافَى الْحَجِيجُ فَانْدَفَعُوا أَرَادَ وَلَا وَجْدَ شَيْخٍ. وَقِيلَ: الْآثِمُ الْمُنَافِقُ، وَالْكَفُورُ الْكَافِرُ الَّذِي يُظْهِرُ الْكُفْرَ، أَيْ لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا وَلَا كَفُورًا. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ أَيْ صَلِّ لِرَبِّكَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، فَفِي أَوَّلِهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَفِي آخِرِهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) يعني صلاة المغرب والعشاة الْآخِرَةِ (وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) يَعْنِي التَّطَوُّعَ فِي اللَّيْلِ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسُفْيَانُ: كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ صَلَاةٌ. وَقِيلَ: هُوَ الذِّكْرُ الْمُطْلَقُ سَوَاءً كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا مَنْسُوخٌ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَقِيلَ: هُوَ نَدْبٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ ﷺ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مِثْلِهِ فِي سُورَةِ "الْمُزَّمِّلِ" [[راجع ص ٣٨ من هذا الجزء.]] وَقَوْلُ ابْنُ حَبِيبٍ حَسَنٌ. وَجَمْعُ الْأَصِيلِ: الْأَصَائِلُ وَالْأُصُلُ كَقَوْلِكَ سَفَائِنُ وَسُفُنٌ قَالَ: وَلَا بِأَحْسَنَ منها إذا دَنَا الْأُصُلُ وَقَالَ [[قاله أبو ذؤيب الهذلي.]] فِي الْأَصَائِلِ وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ: لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ فِي أفيائه بالاصائل وقد مضى هذا فِي آخِرِ (الْأَعْرَافِ) [[راجع ج ٧ ص ٣٥٥.]] مُسْتَوْفًى. وَدَخَلَتْ (مِنَ) عَلَى الظَّرْفِ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب