الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ أَيْ يَدُورُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ الْخَدَمُ إِذَا أَرَادُوا الشَّرَابَ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ قَالَ ابن عباس: ليس في الدنيا شي مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، أَيْ مَا فِي الْجَنَّةِ أَشْرَفُ وَأَعْلَى وَأَنْقَى. ثُمَّ لَمْ تُنْفَ الْأَوَانِي الذَّهَبِيَّةُ بَلِ الْمَعْنَى يُسْقَوْنَ فِي أَوَانِي الْفِضَّةِ، وَقَدْ يُسْقَوْنَ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ [الزخرف: ٧١]. وَقِيلَ: نَبَّهَ بِذِكْرِ الْفِضَّةِ عَلَى الذَّهَبِ، كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] أَيْ وَالْبَرْدَ، فَنَبَّهَ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَلَى الثَّانِي. وَالْأَكْوَابُ: الْكِيزَانُ الْعِظَامُ الَّتِي لَا آذَانَ لَهَا وَلَا عُرًى، الْوَاحِدُ مِنْهَا كُوبٌ، وَقَالَ عَدِيٌّ: مُتَّكِئًا تُقْرَعُ [[يروى: تخفق. بدل تقرع.]] أَبْوَابُهُ ... يَسْعَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْكُوبِ وقد مضى في "الزخرف" [[راجع ج ١٦ ص ١١١]]. (كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أَيْ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ وَبَيَاضِ الْفِضَّةِ، فَصَفَاؤُهَا صَفَاءُ الزُّجَاجِ وَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ. وقيل: أرض الجنة مِنْ فِضَّةٍ، وَالْأَوَانِي تُتَّخَذُ مِنْ تُرْبَةِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مِنْهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: ليس في الجنة شي إِلَّا قَدْ أُعْطِيتُمْ فِي الدُّنْيَا شَبَهَهُ، إِلَّا الْقَوَارِيرُ مِنْ فِضَّةٍ. وَقَالَ: لَوْ أَخَذْتَ فِضَّةً مِنْ فِضَّةِ الدُّنْيَا فَضَرَبْتَهَا حَتَّى تَجْعَلَهَا مِثْلَ جَنَاحِ الذُّبَابِ لَمْ تَرَ مِنْ وَرَائِهَا الْمَاءَ، وَلَكِنَّ قَوَارِيرَ الْجَنَّةِ مِثْلَ الْفِضَّةِ [[أي في بياضها.]] فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ. (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالدَّالِ، أَيْ قَدَّرَهَا لَهُمُ السُّقَاةُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِهَا عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: أَتَوْا بِهَا عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ، بِغَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ أَلَذُّ وَأَشْهَى، وَالْمَعْنَى: قَدَّرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَطُوفُ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قَدَّرُوهَا عَلَى مِلْءِ الْكَفِّ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ، حَتَّى لَا تُؤْذِيَهُمْ بِثِقَلٍ أَوْ بِإِفْرَاطِ صِغَرٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الشَّارِبِينَ قَدَّرُوا لَهَا مَقَادِيرَ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى مَا اشْتُهُوا وَقَدَرُوا. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ (قُدِّرُوهَا) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِّ، أَيْ جُعِلَتْ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ إِرَادَتِهِمْ. وَذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ: وَمَنْ قَرَأَ قَدَّرُوها فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ قُدِّرُوا عَلَيْهَا فَحُذِفَ الْجَرُّ، وَالْمَعْنَى قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهُ:» آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ آكُلُهُ ... وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى حَبِّ الْعِرَاقِ. وَقِيلَ: هَذَا التَّقْدِيرُ هُوَ أَنَّ الْأَقْدَاحَ تَطِيرُ فَتَغْتَرِفُ بِمِقْدَارِ شَهْوَةِ الشَّارِبِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدَّرُوها تَقْدِيراً أَيْ لَا يَفْضُلُ عَنِ الرِّيِّ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَدْ أُلْهِمَتِ الْأَقْدَاحُ مَعْرِفَةَ مِقْدَارِ رِيِّ الْمُشْتَهِي حَتَّى تَغْتَرِفَ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ. ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي "نَوَادِرِ الْأُصُولِ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً﴾ وَهِيَ الْخَمْرُ فِي الْإِنَاءِ. كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا كانَ صِلَةٌ، أَيْ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلٌ، أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ اللَّهِ زنجبيلا. وكانت العرب تستلذ من الشَّرَابِ مَا يُمْزَجُ بِالزَّنْجَبِيلِ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ، لِأَنَّهُ يَحْذُو اللِّسَانَ، وَيَهْضِمُ الْمَأْكُولَ، فَرُغِّبُوا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ بِمَا اعْتَقَدُوهُ نِهَايَةَ النِّعْمَةِ وَالطِّيبِ. وَقَالَ الْمُسَيَّبُ بْنُ عَلَسٍ يَصِفُ ثَغْرَ الْمَرْأَةِ: وَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيلِ بِهِ ... إِذْ ذُقْتَهُ وَسَلَافَةَ الْخَمْرِ وَيُرْوَى. الْكَرْمُ. وَقَالَ آخَرُ [[الذي في ديوان الأعشى هذا البيت لا الذي بعده وفية: خالط فاها ... إلخ والظاهر أن البيتين واحد واختلفت الرواية. والأري: العسل.]]: كَأَنَّ جَنِيًّا مِنَ الزَّنْجَبِي ... - لِ بَاتَ بِفِيهَا وَأَرْيًا مَشُورًا وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: كَأَنَّ الْقُرُنْفُلَ وَالزَّنْجَبِي ... - لَ بَاتَا بِفِيهَا وَأَرْيًا مَشُورًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الزَّنْجَبِيلُ اسْمٌ لِلْعَيْنِ الَّتِي مِنْهَا مِزَاجُ شَرَابِ الْأَبْرَارِ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: وَالزَّنْجَبِيلُ اسْمُ الْعَيْنِ الَّتِي يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَتُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ يُوجَدُ فِيهَا طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ. وَقِيلَ: إِنَّ فِيهِ مَعْنَى الشَّرَابِ الْمَمْزُوجِ بِالزَّنْجَبِيلِ. وَالْمَعْنَى كَأَنَّ فِيهَا زَنْجَبِيلًا. عَيْناً بَدَلٌ مِنْ كَأْسٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ يُسْقَوْنَ عَيْنًا. وَيَجُوزُ نَصْبُهُ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ أَيْ مِنْ عَيْنٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: ٦]. فِيها أَيْ فِي الْجَنَّةِ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا السَّلْسَبِيلُ الشَّرَابُ اللَّذِيذُ، وَهُوَ فَعْلَلِيلٌ مِنَ السُّلَالَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا شَرَابٌ سَلِسٌ وَسَلْسَالٌ وَسَلْسَلٌ وَسَلْسَبِيلٌ بِمَعْنًى، أَيْ طَيِّبُ الطَّعْمِ لَذِيذُهُ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَتَسَلْسَلَ الْمَاءُ فِي الْحَلْقِ جَرَى، وَسَلْسَلْتُهُ أَنَا صَبَبْتُهُ فِيهِ، وَمَاءٌ سَلْسَلَ وَسَلْسَالٌ: سَهْلُ الدُّخُولِ فِي الْحَلْقِ لِعُذُوبَتِهِ وَصَفَائِهِ، وَالسُّلَاسِلُ بِالضَّمِّ مِثْلُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السَّلْسَبِيلُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا كَانَ فِي غَايَةِ السَّلَاسَةِ، فَكَأَنَّ الْعَيْنَ سُمِّيَتْ بِصِفَتِهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَلْسَبِيلَا: حَدِيدَةُ الْجَرْيَةِ تَسِيلُ فِي حُلُوقِهِمُ انْسِلَالًا. وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا الْحَدِيدَةُ الْجَرْيِ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ [[البريص: نهر بدمشق. وبردي نهر آخر بدمشق أيضا أي ماء بردي. ويصفق: يمزج. والرحيق: الخمر البيضاء.]] وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَلْسَبِيلَا، لِأَنَّهَا تَسِيلُ عَلَيْهِمْ فِي الطُّرُقِ وَفِي مَنَازِلِهِمْ، تَنْبُعُ مِنْ أَصْلِ الْعَرْشِ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَلِسَةُ مُنْقَادٍ مَاؤُهَا حَيْثُ شَاءُوا. وَنَحْوَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: أَيْ تِلْكَ عَيْنٌ شَرِيفَةٌ فَسَلْ سَبِيلًا إِلَيْهَا. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: تُسَمَّى أَيْ إِنَّهَا مَذْكُورَةٌ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَعِنْدَ الْأَبْرَارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ. وَصُرِفَ سَلْسَبِيلٌ، لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، كقوله تعالى: الظُّنُونَا [الأحزاب: ١٠] والسَّبِيلَا [الأحزاب: ٦٧].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب