الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾ هَذَا أَمْرٌ بِالدُّعَاءِ وَتَعَبُّدٌ بِهِ. ثُمَّ قَرَنَ جَلَّ وَعَزَّ بِالْأَمْرِ صِفَاتٍ تَحْسُنُ مَعَهُ، وَهِيَ الْخُشُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ وَالتَّضَرُّعُ. وَمَعْنَى "خُفْيَةً" أَيْ سِرًّا فِي النَّفْسِ لِيَبْعُدَ عَنِ الرِّيَاءِ، وَبِذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُ:" إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [[راجع ج ١١ ص ٧٦.]] ". وَنَحْوَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: (خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي). وَالشَّرِيعَةُ مُقَرِّرَةٌ أَنَّ السِّرَّ فِيمَا لَمْ يَعْتَرِضْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَعْظَمُ أَجْرًا من الجهر. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ [[راجع ج ٣ ص ٣٣٢.]] ". قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ عَمَلٌ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَكُونَ سِرًّا فَيَكُونُ جَهْرًا أَبَدًا. وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ فَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا الْهَمْسُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً). وذكر عبد اصالحا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: "إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا". وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ "آمِينَ" أَوْلَى مِنَ الْجَهْرِ بِهَا، لِأَنَّهُ دُعَاءٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي" الْفَاتِحَةِ [[راجع ج ١ ص ١٢٧.]] ". وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ- وَفِي رِوَايَةٍ فِي غَزَاةٍ- فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ- وَفِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ رَجُلٌ كُلَّمَا عَلَا ثَنِيَّةً قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا [[أي ارفقوا بها ولا تبالغوا في الجهد.]] عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ). الْحَدِيثَ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ، فَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَرَأَى شُرَيْحٌ رَجُلًا رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: مَنْ تَتَنَاوَلُ بِهِمَا، لَا أُمَّ لَكَ! وَقَالَ مَسْرُوقٌ لِقَوْمٍ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ: قَطَعَهَا اللَّهُ. وَاخْتَارُوا إِذَا دَعَا اللَّهَ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُشِيرَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ. وَيَقُولُونَ: ذَلِكَ الْإِخْلَاصُ. وَكَانَ قَتَادَةُ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ. وَكَرِهَ رَفْعَ الْأَيْدِي عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ. وَرُوِيَ جَوَازُ الرَّفْعِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: دَعَا النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. وَمِثْلُهُ عَنْ أَنَسٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ [[هو خالد بن الوليد، بعثه النَّبِيُّ ﷺ إِلَى بَنِي جذيمة داعيا إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر. فنقم النبي ﷺ على خالد استعجاله في شأنهم وترك التثبت في أمرهم. راجع كتاب المغازي في صحيح البخاري.]]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ [[تقدم في ج ٣ ص ٢٥٥. أن أهل بدر كأصحاب طالوت وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر. وهذا هو المشهور. فليراجع.]] رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ الْقِبْلَةَ مَادًّا يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ لَمْ يَحُطُّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ فَيَرُدُّهُمَا صِفْرًا (أَوْ قَالَ [[الزيادة عن سنن ابن ماجة.]]) خَائِبَتَيْنِ (. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ وَرَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الْمُسَبِّحَةِ. وَبِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة أن أنس ابن مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ لا يرفع يديه في شي مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُمَا حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ طُرُقًا وَأَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، فَإِنَّ سَعِيدًا كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ عَقْلُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ. وَقَدْ خَالَفَهُ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ (بْنِ مَالِكٍ [[من ج.]]) فَقَالَ فِيهِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ أَنَّ الرَّفْعَ عِنْدَ ذَلِكَ جَمِيلٌ حَسَنٌ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَيَوْمَ بَدْرٍ. قُلْتُ: وَالدُّعَاءُ حَسَنٌ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْإِنْسَانِ لِإِظْهَارِ مَوْضِعِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ وَالْخُضُوعِ. فَإِنْ شَاءَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ شَاءَ فَلَا، فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً". وَلَمْ يُرِدْ [[في ع: ولم ترد صفة.]] صِفَةً مِنْ رَفْعِ يَدَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ:" الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً [[راجع ج ٤ ص ٣٠٥.]] " فَمَدَحَهُمْ وَلَمْ يَشْتَرِطْ حَالَةً غَيْرَ مَا ذَكَرَ. وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ وهو غير مستقبل القبلة. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ يُرِيدُ فِي الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا (إِلَى هَذَا هِيَ الْإِشَارَةُ [[ما بين المربعات هكذا ورد في نسخ الأصل ولعله زيادة من الناسخ.]]. وَالْمُعْتَدِي هُوَ الْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ وَمُرْتَكِبُ الْحَظْرِ. وَقَدْ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ مَا اعْتَدَى فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ. حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجَرِيرِيُّ عَنْ أَبِي نَعَامَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا. فَقَالَ: أي بني، سل الله الجنة وعذبه مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ). وَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْجَهْرُ الْكَثِيرُ وَالصِّيَاحُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ فِي أَنْ تَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةُ نَبِيٍّ، أَوْ يَدْعُوَ فِي مُحَالٍ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الشَّطَطِ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ طَالِبًا مَعْصِيَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَتَخَيَّرُ أَلْفَاظًا مُفَقَّرَةً [[في ع: مقفاه.]] وَكَلِمَاتٍ مُسَجَّعَةً قَدْ وَجَدَهَا فِي كَرَارِيسَ لَا أَصْلَ لَهَا وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُهَا شِعَارَهُ وَيَتْرُكُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكُلُّ هَذَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ. كَمَا تقدم في البقرة بيانه [[راجع ج ٢ ص ٣٠٨.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب