الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَبِما أَغْوَيْتَنِي﴾ الْإِغْوَاءُ إِيقَاعُ الْغَيِّ فِي الْقَلْبِ، أَيْ فَبِمَا أَوْقَعْتَ فِي قَلْبِي مِنَ الْغَيِّ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ. وَهَذَا لِأَنَّ كُفْرَ إِبْلِيسَ لَيْسَ كُفْرَ جَهْلٍ، بَلْ هُوَ كُفْرُ عِنَادٍ وَاسْتِكْبَارٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ [[راجع ج ١ ص ٢٩٥.]]. قِيلَ: مَعْنَى الْكَلَامِ الْقَسَمُ، أَيْ فَبِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِكَ، أَوْ فِي صِرَاطِكَ، فَحُذِفَ. دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ فِي (ص):" فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [[راجع ج ١٥ ص ٢٢٨.]] "كأن إِبْلِيسَ أَعْظَمَ قَدْرَ إِغْوَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْلِيطِ عَلَى الْعِبَادِ، فَأَقْسَمَ بِهِ إِعْظَامًا لِقَدْرِهِ عِنْدَهُ. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى مَعَ، وَالْمَعْنَى فَمَعَ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ. وَقِيلَ: هُوَ استفهام، كأنه سأل بأي شي أَغْوَاهُ؟. وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ: فَبِمَ أَغْوَيْتِنِي؟. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَبِمَا أَهْلَكْتِنِي بِلَعْنِكَ إِيَّايَ. وَالْإِغْوَاءُ الْإِهْلَاكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [[راجع ج ١١ ص ١٢٥.]] " أَيْ هَلَاكًا. وَقِيلَ: فَبِمَا أَضْلَلْتَنِي. وَالْإِغْوَاءُ: الْإِضْلَالُ وَالْإِبْعَادُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: خَيَّبْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ [[هذا عجز بيت للرقش، وصدره كما في اللسان مادة غوى: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره]]: وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمُ عَلَى الْغَيِّ لَائِمًا أَيْ مَنْ يَخِبْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي [[من ج.]] غَيًّا إِذَا فَسَدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، أَوْ فَسَدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ. وَهُوَ أحد معاني قول تَعَالَى:" وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [[راجع ج ١١ ص ٢٥٥.]] "أَيْ فَسَدَ عَيْشُهُ فِي الْجَنَّةِ. وَيُقَالُ: غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا لَمْ يَدْرِ لَبَنَ أُمِّهِ. الثَّانِيَةُ- مَذْهَبُ أَهْلِ السنة أي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَلَّهُ وَخَلَقَ فِيهِ الْكُفْرَ، وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْإِغْوَاءَ فِي هَذَا إِلَى اللَّهِ تعالى وهو الحقيقة، فلا شي فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، صَادِرٌ عَنْ إِرَادَتِهِ تَعَالَى. وَخَالَفَ الْإِمَامِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمَا شَيْخَهُمْ إِبْلِيسَ الَّذِي طَاوَعُوهُ فِي كُلِّ مَا زَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلَمْ يُطَاوِعُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُونَ: أَخْطَأَ إِبْلِيسُ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلْخَطَأِ حَيْثُ نَسَبَ الْغَوَايَةَ إِلَى رَبِّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: وَإِبْلِيسُ وَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْخَطَأِ فَمَا تَصْنَعُونَ فِي نَبِيٍّ مُكَرَّمٍ مَعْصُومٍ، وهو ونوح عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ لِقَوْمِهِ:" وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [[راجع ج ٩ ص ٢٨.]] "وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ طَاوُسًا جَاءَهُ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْقَدَرِ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ طَاوُسٌ: تَقُومُ أَوْ تُقَامُ؟ فَقِيلَ لِطَاوُسٍ: تَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ فَقِيهٍ! فَقَالَ: إِبْلِيسُ أَفْقَهُ مِنْهُ، يَقُولُ إِبْلِيسُ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي. وَيَقُولُ هَذَا: أَنَا أَغْوِي نَفْسِي. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) "أَيْ بِالصَّدِّ عَنْهُ، وَتَزْيِينِ الْبَاطِلِ حَتَّى يَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ، أَوْ يَضِلُّوا كَمَا ضَلَّ، أَوْ يَخِيبُوا كَمَا خُيِّبَ، حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة ف" أَغْوَيْتَنِي". وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْجَنَّةِ. وَ "صِراطَكَ" مَنْصُوبٌ عَلَى حَذْفِ "عَلَى" أَوْ "فِي" مِنْ قَوْلِهِ: "صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ"، كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ "ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ". وَأَنْشَدَ: لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا عسل الطريق الثعلب [[البيت لساعدة بن جوية. يريد في الطريق. وصف في البيت رمحا لين الهز فشبه اضطرابه في نفسه أو في حال هزه بعسلان الثعلب في سيره. والعسل العسلان (بالتحريك): سير سريع في اضطراب. واللدن: الناعم اللين. (عن شرح الشواهد).]] ومن أحسن ما قيل في تأويل (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أَيْ لَأَصُدَّنَّهُمْ [[في ج: لأضلنهم.]] عَنِ الْحَقِّ، وَأُرَغِّبَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأُشَكِّكُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا غَايَةٌ فِي الضَّلَالَةِ. كَمَا قَالَ:" وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [[راجع ج ٥ ص ٣٨٩.]] "حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ:" مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ "مِنْ دُنْيَاهُمْ." وَمِنْ خَلْفِهِمْ "مِنْ آخِرَتِهِمْ." وَعَنْ أَيْمانِهِمْ "يَعْنِي حَسَنَاتِهِمْ." وَعَنْ شَمائِلِهِمْ "يَعْنِي سَيِّئَاتِهِمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ وَشَرْحُهُ: أَنَّ مَعْنَى" ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ " مِنْ دُنْيَاهُمْ، حَتَّى يُكَذِّبُوا بِمَا فِيهَا [[راجع ج ١٥ ص ٧٣.]] مِنَ الْآيَاتِ وَأَخْبَارُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ "وَمِنْ خَلْفِهِمْ" مِنْ آخِرَتِهِمْ حَتَّى يُكَذِّبُوا بِهَا. "وَعَنْ أَيْمانِهِمْ" مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَأُمُورِ دِينِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: "إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ". "وَعَنْ شَمائِلِهِمْ" يَعْنِي سَيِّئَاتِهِمْ، أَيْ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، لِأَنَّهُ يُزَيِّنُهَا لَهُمْ. (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أَيْ مُوَحِّدِينَ طَائِعِينَ مظهرين الشكر.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب