الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً﴾ ١٥٠ لَمْ يَنْصَرِفْ "غَضْبَانَ" لِأَنَّ مُؤَنَّثَهُ غَضْبَى، وَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَالنُّونَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ أَلِفَيِ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِكَ حَمْرَاءُ. وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَ "أَسِفًا" شَدِيدُ الْغَضَبِ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الْأَسَفُ مَنْزِلَةٌ وَرَاءَ الْغَضَبِ أَشَدُّ من ذلك. وهو أسف وأسف وَأَسْفَانٌ وَأَسُوفٌ. وَالْأَسِيفُ أَيْضًا الْحَزِينُ. ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: رَجَعَ حَزِينًا مِنْ صَنِيعِ قَوْمِهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَنَّهُمْ قَدْ فُتِنُوا بِالْعِجْلِ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ وَهُوَ غَضْبَانُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ غَضَبًا، لَكِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْفَيْئَةِ [[الفيئة (بفتح الفاء وكسرها): الحالة من الرجوع عن الشيء الذي يكون قد لابسه الإنسان وباشره.]]، فَتِلْكَ بِتِلْكَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ، وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ فِي الْقَلْبِ. وَلِأَجْلِهِ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ غَضِبَ أَنْ يَضْطَجِعَ. فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ غَضَبُهُ اغْتَسَلَ، فَيُخْمِدُهَا اضْطِجَاعُهُ وَيُطْفِئُهَا اغْتِسَالُهُ. وَسُرْعَةُ غَضَبِهِ كَانَ سَبَبًا لِصَكِّهِ مَلَكَ الموت ففقأ عينه. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَائِدَةِ [[راجع ج ٦ ص ١٢٢.]] مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: وَإِنَّمَا اسْتَجَازَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَيْهِ أَوْ مَدَّ إِلَيْهِ يَدًا بِأَذًى فَقَدْ عَظُمَ الْخَطْبُ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ احْتَجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ تَنْزِعُ رُوحِي؟ أَمِنْ فَمِي وَقَدْ نَاجَيْتُ بِهِ رَبِّي! أَمْ مِنْ سَمْعِي وَقَدْ سَمِعْتُ بِهِ كَلَامَ رَبِّي! أَمْ مِنْ يَدِي وَقَدْ قَبَضْتُ مِنْهُ [[في ج: به.]] الْأَلْوَاحَ! أَمْ مِنْ قَدَمِي وَقَدْ قُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أُكَلِّمُهُ بِالطُّورِ! أَمْ مِنْ عَيْنِي وَقَدْ أَشْرَقَ وَجْهِي لِنُورِهِ. فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ مُفْحَمًا. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَنَا: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ الْقَاصِّ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّعْدِيِّ فَكَلَّمَهُ رَجُلٌ فَأَغْضَبَهُ، فَقَامَ ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ تَوَضَّأَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَطِيَّةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ). قَوْلُهُ تعالى: (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) ١٥٠ ذَمٌّ مِنْهُ لَهُمْ، أَيْ بِئْسَ الْعَمَلُ عَمِلْتُمْ [[في ب: عملكم.]] بَعْدِي. يُقَالُ: خَلَفَهُ، بِمَا يَكْرَهُ. وَيُقَالُ فِي الْخَيْرِ أَيْضًا. يُقَالُ مِنْهُ: خَلَفَهُ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ فِي أَهْلِهِ وقومه بَعْدَ شُخُوصِهِ. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) ١٥٠ أَيْ سَبَقْتُمُوهُ. وَالْعَجَلَةُ: التَّقَدُّمُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَهِيَ مَذْمُومَةٌ. وَالسُّرْعَةُ: عَمَلُ الشَّيْءِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهِ، وَهِيَ مَحْمُودَةٌ. قَالَ يَعْقُوبُ: يُقَالُ عَجِلْتُ الشَّيْءَ سَبَقْتُهُ. وَأَعْجَلْتُ الرَّجُلَ اسْتَعْجَلْتُهُ، أَيْ حَمَلْتُهُ عَلَى الْعَجَلَةِ. وَمَعْنَى "أَمْرَ رَبِّكُمْ ١٥٠" أَيْ مِيعَادُ رَبِّكُمْ، أَيْ وعد أربعين ليلة. وقيل: أن تَعَجَّلْتُمْ سَخَطَ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ: أَعَجِلْتُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمْ أَمْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَلْقَى الْأَلْواحَ﴾ ١٥٠ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَلْقَى الْأَلْواحَ﴾ ١٥٠ أَيْ مِمَّا اعْتَرَاهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْأَسَفِ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى قَوْمِهِ وَهُمْ عَاكِفُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَعَلَى أَخِيهِ فِي إهمال أمرهم، قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَلِهَذَا قِيلَ: لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. وَلَا الْتِفَاتَ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنَّ إِلْقَاءَهُ الْأَلْوَاحَ إِنَّمَا كَانَ لِمَا رَأَى فِيهَا مِنْ فَضِيلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ولم يكن ذلك لأمته. وهذا قول ردئ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَى مُوسَى ﷺ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْأَلْوَاحَ تَكَسَّرَتْ، وَأَنَّهُ رُفِعَ مِنْهَا التَّفْصِيلُ وَبَقِيَ (فِيهَا [[من ب.]]) الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ. الثَّانِيَةُ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ جُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ رَمْيِ الثِّيَابِ إِذَا اشْتَدَّ طَرَبُهُمْ عَلَى الْمَغْنَى. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرْمِي بِهَا صِحَاحًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرِقُهَا ثُمَّ يَرْمِي بِهَا. قَالَ: هَؤُلَاءِ فِي غَيْبَةٍ فَلَا يُلَامُونَ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَمُّ بِعِبَادَةِ قَوْمِهِ الْعِجْلَ، رَمَى الْأَلْوَاحَ فَكَسَّرَهَا، وَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: مَنْ يُصَحِّحُ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَمَاهَا رَمْيَ كَاسِرٍ؟ وَالَّذِي ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ أَلْقَاهَا، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ؟ ثُمَّ لَوْ قِيلَ: تَكَسَّرَتْ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهُ قَصَدَ كَسْرَهَا؟ ثُمَّ لَوْ صَحَّحْنَا ذَلِكَ عَنْهُ قُلْنَا كَانَ فِي غَيْبَةٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ بَحْرٌ مِنْ نَارٍ لَخَاضَهُ. وَمَنْ يُصَحِّحُ لِهَؤُلَاءِ غَيْبَتَهُمْ وَهُمْ يَعْرِفُونَ الْمُغَنِّيَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَحْذَرُونَ مِنْ بِئْرٍ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ. ثُمَّ كَيْفَ تُقَاسُ أَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عُقَيْلٍ عَنْ تَوَاجُدِهِمْ وَتَخْرِيقِ ثِيَابِهِمْ فَقَالَ: خَطَأٌ وَحَرَامٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَإِنَّهُمْ لا يعقلون ما يفعلون. فقال: إِنْ حَضَرُوا هَذِهِ الْأَمْكِنَةَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الطَّرَبَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ فَيُزِيلُ عُقُولَهُمْ أَثِمُوا بِمَا أَدْخَلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّخْرِيقِ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَفْسَدُوا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ خِطَابُ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ قَبْلَ الْحُضُورِ بِتَجَنُّبِ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ. كَمَا هُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ، كَذَلِكَ هَذَا الطَّرَبُ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ التَّصَوُّفِ وَجْدًا إِنْ صَدَقُوا أَنَّ فِيهِ سُكْرَ طَبْعٍ، وَإِنْ كَذَبُوا أَفْسَدُوا مَعَ الصَّحْوِ، فَلَا سَلَامَةَ فِيهِ مَعَ الْحَالَيْنِ، وَتَجَنُّبُ مَوَاضِعِ الرِّيَبِ وَاجِبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ ١٥٠ أَيْ بِلِحْيَتِهِ وَذُؤَابَتِهِ. وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا- بِثَلَاثَ سِنِينَ، وَأَحَبَّ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ موسى، لأنه كان لين الغضب. للعلماء فِي أَخْذِ مُوسَى بِرَأْسِ أَخِيهِ أَرْبَعَ تَأْوِيلَاتٍ الْأَوَّلُ- أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُتَعَارَفًا عِنْدَهُمْ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ قَبْضِ الرَّجُلِ عَلَى لِحْيَةِ أَخِيهِ وَصَاحِبِهِ إِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِذْلَالِ. الثَّانِي- أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِيُسِرَّ إِلَيْهِ نُزُولَ الْأَلْوَاحِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمُنَاجَاةِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْفِيَهَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ التَّوْرَاةِ. فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي، لِئَلَّا يُشْتَبَهَ سِرَارُهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِذْلَالِهِ. الثَّالِثُ- إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ هَارُونَ مَائِلٌ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. الرَّابِعُ- ضَمَّ إِلَيْهِ أَخَاهُ لِيَعْلَمَ مَا لَدَيْهِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ هَارُونُ لِئَلَّا يَظُنَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ أَهَانَهُ، فَبَيَّنَ لَهُ أَخُوهُ أَنَّهُمُ اسْتَضْعَفُوهُ، يَعْنِي عَبَدَةَ الْعِجْلِ، وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ أَيْ قَارَبُوا. فَلَمَّا سَمِعَ عُذْرَهُ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، أَيِ اغْفِرْ لِي مَا كَانَ مِنَ الْغَضَبِ الَّذِي أَلْقَيْتُ مِنْ أَجْلِهِ الْأَلْوَاحَ، وَلِأَخِي لِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُقَصِّرًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ، أَيِ اغْفِرْ لِأَخِي إِنْ قَصَّرَ. قَالَ الْحَسَنُ: عَبَدَ كُلُّهُمُ الْعِجْلَ غَيْرَ هَارُونَ، إِذْ لَوْ كَانَ ثَمَّ مُؤْمِنٌ غَيْرُ مُوسَى وَهَارُونَ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، وَلَدَعَا لِذَلِكَ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا. وَقِيلَ: اسْتَغْفَرَ لِنَفْسِهِ مِنْ فِعْلِهِ بِأَخِيهِ، فَعَلَ ذَلِكَ لِمَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فَيُعَرِّفُهُ مَا جَرَى لِيَرْجِعَ فَيَتَلَافَاهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ:" يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ [[راجع ج ١١ ص ٢٣٦.]] [٢٠: ٩٣] - ٩٢ "الْآيَةَ. فَبَيَّنَ هَارُونُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقَامَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِمَنْ خَشِيَ الْقَتْلَ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ تغيير المنكر أن يسكت. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي" آلِ عِمْرَانَ [[راجع ج ٤ ص ٤٧.]] " ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ لَا يُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُغَيِّرْ غَضَبُهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ، بَلِ اطَّرَدَتْ عَلَى مَجْرَاهَا مِنْ إِلْقَاءِ لَوْحٍ وَعِتَابِ أَخٍ وَصَكِّ مَلَكٍ. الهدوي: لِأَنَّ غَضَبَهُ كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُكُوتَهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَوْفًا أَنْ يَتَحَارَبُوا أَوْ يَتَفَرَّقُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قالَ ابْنَ أُمَّ﴾ ١٥٠ وَكَانَ ابْنَ أُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَلَكِنَّهَا كَلِمَةُ لِينٍ وَعَطْفٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ كَانَ هَارُونُ أَخَا مُوسَى لأمه لا لأبيه. وقرى بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، فَمَنْ فَتَحَ جَعَلَ "ابْنَ أُمَّ ١٥٠" اسْمًا وَاحِدًا كَخَمْسَةَ عَشَرَ، فَصَارَ كَقَوْلِكَ: يَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَقْبِلُوا. وَمَنْ كَسَرَ الْمِيمَ جعله مضاف إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ حَذَفَ يَاءَ الْإِضَافَةِ، لِأَنَّ مَبْنَى النِّدَاءِ عَلَى الْحَذْفِ، وَأَبْقَى الْكَسْرَةَ فِي الْمِيمِ لِتَدُلَّ عَلَى الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ:" يَا عِبادِ [[راجع ج ١٥ ص ٢٤٣.]] ١٠". يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ السَّمَيْقَعِ "يَا بن أُمِّي" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ والفراء وأبو عبيد:"ابْنَ أُمَّ [٢٠: ٩٤] "بالفتح، تقديره يا بن أُمَّاهُ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْأَلِفَ خَفِيفَةٌ لَا تُحْذَفُ، وَلَكِنْ جَعَلَ الِاسْمَيْنِ اسما واحدا. وقال الأخفش وأبو حاتم:"ابْنَ أُمَّ [٢٠: ٩٤] " بِالْكَسْرِ كَمَا تَقُولُ: يَا غُلَامُ غُلَامِ أَقْبِلْ، وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ وَالْقِرَاءَةُ بِهَا بَعِيدَةٌ. وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا يَكُونُ مُضَافًا إِلَيْكَ، فَأَمَّا الْمُضَافُ إِلَى مُضَافٍ إِلَيْكَ فَالْوَجْهُ أَنْ تقول: يا غلام غلامي، ويا بن أخي. وجوزوا يا بن أُمَّ، يَا بْنَ عَمَّ، لِكَثْرَتِهَا فِي الْكَلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ: وَلَكِنْ لَهَا وَجْهٌ حَسَنٌ جَيِّدٌ، يُجْعَلُ الِابْنُ مَعَ الْأُمِّ وَمَعَ الْعَمِّ اسْمًا وَاحِدًا، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: يَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَقْبِلُوا، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَا غُلَامِ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي اسْتَذَلُّونِي وَعَدُّونِي ضَعِيفًا. وَكَادُوا أَيْ قَارَبُوا. يَقْتُلُونَنِي بِنُونَيْنِ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ. وَيَجُوزُ الْإِدْغَامُ فِي غَيْرِ [[راجع ج ١٥ ص ٢٧٦ ففيه خلاف هذا.]] الْقُرْآنِ. فَلَا تشمت بى الأعداء أَيْ لَا تَسُرُّهُمْ. وَالشَّمَاتَةُ: السُّرُورُ بِمَا يُصِيبُ أَخَاكَ مِنَ الْمَصَائِبِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَعَوَّذُ مِنْهَا وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ وَدَرْكِ الشَّقَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ ... كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ... سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِيَنَا وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ "تَشْمَتُ" بِالنَّصْبِ فِي التَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، "الْأَعْدَاءُ" بِالرَّفْعِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَفْعَلْ بِي مَا تَشْمَتُ مِنْ أَجْلِهِ الْأَعْدَاءُ، أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِفِعْلٍ تَفْعَلُهُ أَنْتَ بِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا "تَشْمَتْ" بِالْفَتْحِ فِيهِمَا "الْأَعْدَاءَ" بِالنَّصْبِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: الْمَعْنَى فَلَا تَشْمَتْ بِي أَنْتَ يَا رَبِّ. وَجَازَ هَذَا كَمَا قَالَ:" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [[راجع ج ١ ص ٢٠٧.]] "وَنَحْوَهُ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمُرَادِ فَأَضْمَرَ فِعْلًا نَصَبَ بِهِ الْأَعْدَاءَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تُشْمِتْ بِيَ، الْأَعْدَاءَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَكَيْتُ عَنْ حُمَيْدٍ:" فَلَا تَشْمِتْ" بِكَسْرِ الْمِيمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ شَمِتَ وَجَبَ أَنْ يَقُولَ تَشْمَتُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ أَشْمَتَ وَجَبَ أَنْ يَقُولَ تُشْمِتُ. وَقَوْلُهُ: (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ١٥٠ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الذين عبدوا العجل. (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [[راجع ج ٣ ص ٤٣١.]]) تقدم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب