الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ، أَيْ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ جَنَّاتٍ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التَّنَعُّمُ الْخَالِصُ، لَا يَشُوبُهُ مَا يُنَغِّصُهُ كَمَا يَشُوبُ جَنَّاتِ الدُّنْيَا. وَكَانَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ يَرَوْنَ وُفُورَ حَظِّهِمْ مِنَ الدُّنْيَا وَقِلَّةَ حُظُوظِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، فَإِذَا سَمِعُوا بِحَدِيثِ الْآخِرَةِ وَمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: إِنْ صَحَّ أَنَّا نُبْعَثُ كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ وَمَنْ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ حَالُنَا وَحَالُهُمْ إِلَّا مِثْلَ مَا هِيَ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا لَمْ يَزِيدُوا عَلَيْنَا وَلَمْ يَفْضُلُونَا، وَأَقْصَى أَمْرِهِمْ أَنْ يُسَاوُونَا. فَقَالَ: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أَيْ كَالْكَفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: قَالَتْ كُفَّارُ مَكَّةَ: إِنَّا نُعْطَى فِي الْآخِرَةِ خَيْرًا مِمَّا تُعْطَوْنَ، فَنَزَلَتْ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ ونجهم فَقَالَ: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هَذَا الْحُكْمَ الْأَعْوَجَ، كَأَنَّ أَمْرَ الْجَزَاءِ مُفَوَّضٌ إِلَيْكُمْ حَتَّى تَحْكُمُوا فِيهِ بِمَا شِئْتُمْ أَنَّ لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ. (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) أَيْ لَكُمْ كِتَابٌ تَجِدُونَ فِيهِ الْمُطِيعَ كَالْعَاصِي. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) تَخْتَارُونَ وَتَشْتَهُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَكُمْ (بِالْفَتْحِ) وَلَكِنَّهُ كُسِرَ لِدُخُولِ اللَّامِ، تَقُولُ عَلِمْتُ أَنَّكَ عَاقِلٌ (بِالْفَتْحِ)، وعلمت إِنَّكَ لَعَاقِلٌ (بِالْكَسْرِ). فَالْعَامِلُ فِي إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ تَدْرُسُونَ فِي الْمَعْنَى. وَمَنَعَتِ اللَّامُ مِنْ فَتْحِ إِنَّ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: تَدْرُسُونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أَيْ إِنَّ لَكُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِذًا مَا تَخَيَّرُونَ، أَيْ لَيْسَ لَكُمْ ذَلِكَ. وَالْكِنَايَةُ فِي فِيهِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكِتَابِ. ثُمَّ زَادَ فِي التَّوْبِيخِ فَقَالَ: (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ) أَيْ عُهُودٌ وَمَوَاثِيقُ. (عَلَيْنا بالِغَةٌ) مُؤَكَّدَةٌ. وَالْبَالِغَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَيْ أَمْ لَكُمْ عُهُودٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْتَوْثَقْتُمْ بِهَا فِي أَنْ يُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ. (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) كسرت أَيْمانٌ لِدُخُولِ اللَّامِ فِي الْخَبَرِ. وَهِيَ مِنْ صِلَةِ أَيْمانٌ، وَالْمَوْضِعُ النَّصْبُ وَلَكِنْ كُسِرَتْ لِأَجْلِ اللَّامِ، تَقُولُ: حَلَفْتُ إِنَّ لَكَ لَكَذَا. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ إِذًا، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ "أَيْنَ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ" أَيْنَ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ"، بِالِاسْتِفْهَامِ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ (بَالِغَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَكُمْ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَيْمانٌ فَفِيهِ ضَمِيرٌ مِنْهُ. وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْنا إِنْ قَدَّرْتَ عَلَيْنا وَصْفًا لِلْأَيْمَانِ لَا مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْأَيْمَانِ، لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرًا مِنْهُ، كَمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ خَبَرًا عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ أَيْمانٌ وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً، كَمَا أَجَازُوا نَصْبَ حَقًّا عَلَى الْحَالِ مِنْ مَتاعٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [[راجع ج ٣ ص ٢٢٨.]] [البقرة: ٢٤١]. وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بالِغَةٌ بِالرَّفْعِ نَعْتٌ لِ أَيْمانٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب