الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ "كَمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَهْلَكْنَا لَا بِقَوْلِهِ "أَلَمْ يَرَوْا" لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ. وَالْمَعْنَى: أَلَا يَعْتَبِرُونَ بِمَنْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ لِتَكْذِيبِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ أَيِ أَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ. وَالْقَرْنُ الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ. وَالْجَمْعُ الْقُرُونُ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِذَا ذَهَبَ الْقَرْنُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمْ ... وَخُلِّفْتَ في قرن فأنت غريب فالقرن كل عَالَمٌ فِي عَصْرِهِ مَأْخُوذٌ مِنِ الِاقْتِرَانِ أَيْ عَالَمٌ مُقْتَرِنٌ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (خَيْرُ النَّاسِ [[في ع: خيركم. وهي رواية في البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي.]] قَرْنِي- يَعْنِي أَصْحَابِي [[في ك: الصحابة.]] - ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مِنْ أَهْلِ قرن فحذف كقوله: "وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ"] يوسف: ٨٢]. فَالْقَرْنُ عَلَى هَذَا مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ، قِيلَ: سِتُّونَ عَامًا وَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقِيلَ: مِائَةٌ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةُ سَنَةٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ: "تَعِيشُ قَرْنًا" فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. واصل القرن الشيء الطالع كقرن ماله قَرْنٌ مِنَ الْحَيَوَانِ. (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) خُرُوجٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الخطاب، عكسه "حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ" [[راجع ج ٨ ص ٣٢٤.]]] يونس: ٢٢]. وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ. أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ "أَلَمْ يَرَوْا" وَفِيهِمْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ مَعَهُمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْرَمَهُ: وَقُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْرَمَكَ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْغَيْبَةِ لَقَالَ: مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ. وَيَجُوزُ مَكِّنْهُ وَمَكِّنْ لَهُ، فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا، أَيْ أَعْطَيْنَاهُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا. (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) يُرِيدُ الْمَطَرَ الْكَثِيرَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّمَاءِ لِأَنَّهُ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعر [[هو معود الحكماء- معاوية بن مالك- وفي ك: نزل السماء. وهي رواية: وهذا صدر بيت له، وتمامه: رعيناه إن كانوا غضابا وسمي معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة: أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الحدثان نابا [ ..... ]]] إذا سقط السماء بأرض قوم و "مِدْراراً" بِنَاءٌ دَالٌّ عَلَى التَّكْثِيرِ، كَمِذْكَارٍ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي كَثُرَتْ وِلَادَتُهَا لِلذُّكُورِ، وَمِئْنَاثٌ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تَلِدُ الْإِنَاثُ، يُقَالُ: دَرَّ اللَّبَنَ يَدِرُّ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْحَالِبِ بِكَثْرَةٍ. وَانْتَصَبَ "مِدْراراً" عَلَى الْحَالِ. وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أَيْ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: "وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي" [[راجع ج ١٦ ص ٩٨.]]] الزخرف: ٥١] وَالْمَعْنَى: وَسَّعْنَا عَلَيْهِمُ النِّعَمَ فَكَفَرُوهَا. (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أَيْ بِكُفْرِهِمْ فَالذُّنُوبُ سَبَبُ الِانْتِقَامِ وَزَوَالِ النِّعَمِ. (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أَيْ أَوْجَدْنَا، فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب