الباحث القرآني

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ أَيْ لِقِصَرِ مُدَّتِهَا كَمَا قَالَ: أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ نَائِمٍ ... وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لَا يَكُونُ بِدَائِمِ تَأَمَّلْ إِذَا مَا نِلْتَ بِالْأَمْسِ لَذَّةً ... فَأَفْنَيْتَهَا هَلْ أَنْتَ إِلَّا كَحَالِمِ وَقَالَ آخَرُ: فَاعْمَلْ عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ ... وَاكْدَحْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ فَكَانَ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى ... وَكَانَ مَا هُوَ كَائِنٌ قَدْ كَانَا [[فيه إقواء.]] وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، أي الذي يشتهونه فِي الدُّنْيَا لَا عَاقِبَةَ لَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللعب واللهو. ونظر سليمان بن عبد الملك فِي الْمِرْآةِ فَقَالَ: أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ، فَقَالَتْ لَهُ جَارِيَةٌ لَهُ: أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى ... غَيْرَ أَنْ لَا بَقَاءَ لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ فِيمَا بَدَا لَنَا مِنْكَ عَيْبٌ ... كَانَ [[في هامش ب: عابه الناس.]] فِي النَّاسِ غَيْرَ أَنَّكَ فَانِي وَقِيلَ: مَعْنَى (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) بَاطِلٌ وَغُرُورٌ، كَمَا قَالَ: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [[راجع ج ١٧ ص ٢٥٥.]]] آل عمران: ١٨٥] فَالْمَقْصِدُ بِالْآيَةِ تَكْذِيبُ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: "إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا". وَاللَّعِبُ مَعْرُوفٌ، وَالتَّلْعَابَةُ الْكَثِيرُ اللَّعِبِ، وَالْمَلْعَبُ مَكَانُ اللَّعِبِ، يُقَالُ: لَعِبَ يَلْعَبُ. وَاللَّهْوُ أَيْضًا مَعْرُوفٌ، وَكُلُّ مَا شَغَلَكَ فَقَدْ أَلْهَاكَ، وَلَهَوْتُ مِنَ اللَّهْوِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: لَهَيْتُ عَنْهُ، قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الَّذِي مَعْنَاهُ الصَّرْفُ لَامُهُ يَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: لِهْيَانُ، وَلَامُ الْأَوَّلِ وَاوٌ. الثَّانِيَةُ- لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ مَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ اللَّعِبِ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَاللَّهْوُ مَا يُلْتَهَى بِهِ، وَمَا كَانَ مُرَادًا لِلْآخِرَةِ خَارِجٌ عَنْهُمَا، وَذَمَّ رَجُلٌ الدُّنْيَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ: الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ نَجَاةٍ [[في ك: تجارة.]] لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ منها. وقال محمود الوراق: لَا تُتْبِعِ الدُّنْيَا وَأَيَّامَهَا ... ذَمًّا وَإِنْ دَارَتْ بِكَ الدَّائِرَةُ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَمِنْ فَضْلِهَا ... أَنَّ بِهَا تُسْتَدْرَكُ الْآخِرَةُ وَرَوَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ أَدَّى إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَالْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ شَرِيكَانَ فِي الْأَجْرِ وَسَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِ) وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ (مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَلَّا يُعْصَى إِلَّا فِيهَا وَلَا يُنَالَ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِتَرْكِهَا). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ). وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَسَمَّعْ [[كذا في الأصول. وهو المعنى المراد. وفي ط الأول: تمتع.]] مِنَ الْأَيَّامِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا ... فَإِنَّكَ مِنْهَا بَيْنَ نَاهٍ وَآمِرِ إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ ... فَمَا فَاتَ مِنْ شَيْءٍ فَلَيْسَ بِضَائِرِ وَلَنْ تَعْدِلَ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ... وَلَا وَزْنَ زِفٍّ [[الزف (بالكسر): صغير الريش، وخص بعضهم به ريش النعام، وورد في أدب الدنيا والدين (وزن ذر).]] مِنْ جَنَاحٍ لِطَائِرِ فَمَا رَضِيَ الدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُؤْمِنٍ ... وَلَا [[كذا في الأصول. بل الدنيا جزاء الكافر لقوله عليه الصلاة والسلام "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".]] رَضِيَ الدُّنْيَا جَزَاءً لِكَافِرِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ حَيَاةُ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ يُزْجِيهَا [[يزجى الأيام يدافعها.]] فِي غُرُورٍ وَبَاطِلٍ، فَأَمَّا حَيَاةُ الْمُؤْمِنِ فَتَنْطَوِي عَلَى أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، فَلَا تَكُونُ لَهْوًا وَلَعِبًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ﴾ أَيِ الْجَنَّةُ لِبَقَائِهَا، وَسُمِّيَتْ آخِرَةٌ لِتَأَخُّرِهَا عَنَّا، وَالدُّنْيَا لِدُنُوِّهَا مِنَّا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ) بِلَامٍ وَاحِدَةٍ، وَالْإِضَافَةُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، التَّقْدِيرُ: وَلَدَارُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَرَفَعَ الدَّارَ بِالِابْتِدَاءِ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ نَعْتًا لَهَا وَالْخَبَرَ (خَيْرٌ لِلَّذِينَ) يقويه ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾[[راجع ج ١٣ ص ٣٢٠، ص ٣٦١.]] [القصص: ٨٣] ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ﴾[[راجع ج ١٣ ص ٣٢٠، ص ٣٦١.]] [العنكبوت: ٦٤]. فَأَتَتِ الْآخِرَةُ صِفَةً لِلدَّارِ فِيهِمَا. (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أَيِ الشِّرْكَ. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قُرِئَ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، أَيْ أَفَلَا يَعْقِلُونَ أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا فَيَزْهَدُوا في الدنيا. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب