الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ﴾ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَمِنْهَا الْإِدْرَاكُ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ وَالتَّحْدِيدِ، كَمَا تُدْرَكُ سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالرُّؤْيَةُ ثَابِتَةٌ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لَا يُبْلَغُ كُنْهُ حَقِيقَتِهِ، كَمَا تَقُولُ: أَدْرَكْتُ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الْأَحَادِيثُ فِي الرُّؤْيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ" فِي الدُّنْيَا، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَةِ، لِإِخْبَارِ اللَّهِ بِهَا فِي قَوْلِهِ:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ [[راجع ج ١٩ ص ١٠٥.]] ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ "وَقَالَ السُّدِّيُّ. وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ لِدَلَالَةِ التَّنْزِيلِ وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" يُونُسَ [[راجع ج ٨ ص ٣٣٠.]] ". وَقِيلَ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ" لَا تُحِيطُ به وهو يحيط بها، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ، أَيْ لَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ فَتَتَوَهَّمُهُ، إِذْ" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [[راجع ج ١٦ ص ٧ وص ٥٢.]] " وَقِيلَ الْمَعْنَى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ الْمَخْلُوقَةُ فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّهُ يَخْلُقُ لِمَنْ يُرِيدُ كَرَامَتَهُ بَصَرًا وَإِدْرَاكًا يَرَاهُ فِيهِ كَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ رُؤْيَتُهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ عَقْلًا، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ جَائِزَةً لَكَانَ سُؤَالُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَحِيلًا، وَمُحَالٌ أَنْ يَجْهَلَ نَبِيٌّ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، بَلْ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا جَائِزًا غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ. وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي رُؤْيَةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ [[أبو عائشة: كنية الامام مسروق.]]، ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجِلِينِي، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [[راجع ج ١٩ ص ٢٣٩.]] "" وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [[راجع ج ١٧ ص ٩٢.]] "؟ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ (مَنْ [[من ك.]] سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ:) إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بين السماء والأرض (. فقالت: أو لم تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"؟ أو لم تسمع اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا"- إِلَى قَوْلِهِ" عَلِيٌّ حَكِيمٌ [[راجع ج ١٦ ص ٧ وص ٥٢.]] "؟ قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [[راجع ج ٦ ص ٢٤٢.]] "قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:" قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [[راجع ج ١٣ ص ٢٢٥.]] " وَإِلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيلَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأنه رأى جبريل، وأختلف عنهما. وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ. وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [[راجع ج ١٧ ص ٩٢.]] ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ: اجْتَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا نَحْنُ بَنُو [[كذا في كل الأصول، وهو منصوب على الاختصاص.]] هَاشِمٍ فَنَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَعْجَبُونَ أَنَّ الْخُلَّةَ تَكُونُ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْكَلَامُ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. قَالَ: فَكَبَّرَ كَعْبٌ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَكَلَّمَ مُوسَى وَرَآهُ مُحَمَّدٌ ﷺ. وَحَكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ. وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْأَوَّلُ عَنْهُ أَشْهَرُ. وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ مَرْوَانَ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَقُولُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِعَيْنِهِ رَآهُ رَآهُ! حَتَّى انْقَطَعَ نَفَسُهُ، يَعْنِي نَفَسَ أَحْمَدَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ (أَنَّ [[من ع.]] مُحَمَّدًا ﷺ) رأى الله ببصره وعيني رأسه. وقال أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالرَّبِيعُ وَالْحَسَنُ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْقُرَظِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّهُ إِنَّمَا رَأَى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ وَفُؤَادِهِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَآهُ بِقَلْبِهِ، وَجَبُنَ عَنِ الْقَوْلِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ بَاقٍ وَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي، فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ وَرُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَةً رَأَوُا الْبَاقِيَ بِالْبَاقِي. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مَلِيحٌ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِحَالَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ ضَعْفِ الْقُدْرَةِ، فَإِذَا قَوَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَأَقْدَرَهُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الرُّؤْيَةِ لَمْ يمتنع في حقه. وسيأتي شي مِنْ هَذَا فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي" الْأَعْرَافِ [[راجع ص ٢٧٨ من هذا الجزء.]] " إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ﴾ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شي إلا يراه ويعلمه. إنما خَصَّ الْأَبْصَارَ، لِتَجْنِيسِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ لَا يدركون الْأَبْصَارَ، أَيْ لَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ حَقِيقَةِ الْبَصَرِ، وَمَا الشَّيْءُ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ يُبْصِرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ. ثُمَّ قَالَ: "وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" أَيِ الرَّفِيقُ بِعِبَادِهِ، يُقَالُ: لَطَفَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ يَلْطُفُ، أَيْ رَفَقَ بِهِ. وَاللُّطْفُ فِي الْفِعْلِ الرِّفْقُ فِيهِ. وَاللُّطْفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ. وَأَلْطَفَهُ بِكَذَا، أَيْ بَرَّهُ بِهِ. وَالِاسْمُ اللَّطَفُ بِالتَّحْرِيكِ. يُقَالُ: جَاءَتْنَا مِنْ فُلَانٍ لَطَفَةٌ، أَيْ هَدِيَّةٌ. وَالْمُلَاطَفَةُ الْمُبَارَّةُ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنِ فَارِسٍ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمَعْنَى لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْأَشْيَاءِ خَبِيرٌ بِمَكَانِهَا. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: اللَّطِيفُ من نور قلبك بالهدى، وربى جسمك بالغذاء، وَجَعَلَ لَكَ الْوِلَايَةَ فِي الْبَلْوَى، وَيَحْرُسُكَ وَأَنْتَ فِي لَظَى، وَيُدْخِلُكَ جَنَّةَ الْمَأْوَى. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، مِمَّا مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الرِّفْقِ وَغَيْرِهِ. وَسَيَأْتِي مَا لِلْعُلَمَاءِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ فِي" الشُّورَى [[راجع ج ١٦ ص ١٦.]] " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب