الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ﴾ ذَكَرَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ وَسَمَّاهُمْ أَصْحَابَ الشِّمَالِ، لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ، ثُمَّ عَظَّمَ ذِكْرَهُمْ في البلاد وَالْعَذَابِ فَقَالَ: (مَا أَصْحابُ الشِّمالِ. فِي سَمُومٍ) وَالسَّمُومُ الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ. وَالْمُرَادُ هُنَا حَرُّ النَّارِ وَلَفْحُهَا. (وَحَمِيمٍ) أَيْ مَاءٍ حَارٍّ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، إِذَا أَحْرَقَتِ النَّارُ أَكْبَادَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ فَزِعُوا إِلَى الْحَمِيمِ، كَالَّذِي يَفْزَعُ مِنَ النَّارِ إِلَى الْمَاءِ لِيُطْفِئَ بِهِ الْحَرَّ فَيَجِدُهُ حَمِيمًا حَارًّا فِي نِهَايَةِ الحرارة والغليان. وقد مضى في (القتال) [[راجع ج ١٦ ص ٢٣٧.]] (وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أَيْ يَفْزَعُونَ مِنَ السَّمُومِ إِلَى الظِّلِّ كَمَا يَفْزَعُ أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَجِدُونَهُ ظِلًّا مِنْ يَحْمُومٍ، أَيْ مِنْ دُخَانِ جَهَنَّمَ أَسْوَدَ شَدِيدِ السَّوَادِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَكَذَلِكَ الْيَحْمُومُ فِي اللُّغَةِ: الشَّدِيدُ السَّوَادُ وَهُوَ يَفْعُولٌ مِنَ الْحَمِّ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُسْوَدُّ بِاحْتِرَاقِ النَّارِ. وقيل: هو مأخوذ مِنَ الْحُمَمِ وَهُوَ الْفَحْمُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّارُ سَوْدَاءُ وَأَهْلُهَا سُودٌ وَكُلُّ مَا فِيهَا أَسْوَدُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: النَّارُ سَوْدَاءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْيَحْمُومُ جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ يَسْتَغِيثُ إلى ظله أهل النار. (لَا بارِدٍ) بَلْ حَارٌّ لِأَنَّهُ مِنْ دُخَانِ شَفِيرِ جَهَنَّمَ. (وَلا كَرِيمٍ) عَذْبٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَلَا حَسُنَ مَنْظَرُهُ، وكل مالا خير فيه فليس بكريم. وَقِيلَ: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أَيْ مِنَ النَّارِ يُعَذَّبُونَ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ [[راجع ج ١٥ ص ٢٤٣.]] ظُلَلٌ). (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) أَيْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَنَعِّمِينَ بِالْحَرَامِ. وَالْمُتْرَفُ الْمُنَعَّمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: (مُتْرَفِينَ) أَيْ مُشْرِكِينَ. (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أَيْ يُقِيمُونَ عَلَى الشِّرْكِ، عَنِ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: الذَّنْبُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَتُوبُونَ مِنْهُ. الشَّعْبِيُّ: هُوَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ، يُقَالُ: حَنِثَ فِي يَمِينِهِ أَيْ لَمْ يبرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لأبعث، وَأَنَّ الْأَصْنَامَ أَنْدَادُ اللَّهِ فَذَلِكَ حِنْثُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) [[راجع ج ١٠ ص ١٥.]]. وَفِي الخبر: كَانَ يَتَحَنَّثُ فِي حِرَاءٍ، أَيْ يَفْعَلُ مَا يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ الْحِنْثَ وَهُوَ الذَّنْبُ. (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا) هَذَا اسْتِبْعَادٌ مِنْهُمْ لِأَمْرِ الْبَعْثِ وَتَكْذِيبٌ لَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (قُلْ) لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ (إِنَّ الْأَوَّلِينَ) مِنْ آبَائِكُمْ (وَالْآخِرِينَ) مِنْكُمْ (لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ الْقَسَمُ وَدُخُولُ اللَّامِ فِي قول تَعَالَى: (لَمَجْمُوعُونَ) هُوَ دَلِيلُ الْقَسَمِ فِي الْمَعْنَى، أَيْ إِنَّكُمْ لَمَجْمُوعُونَ قَسَمًا حَقًّا خِلَافَ قَسَمِكُمُ الْبَاطِلِ (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عَنِ الْهُدَى (الْمُكَذِّبُونَ) بِالْبَعْثِ (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) وَهُوَ شَجَرٌ كَرِيهُ الْمَنْظَرِ، كَرِيهُ الطَّعْمِ، وَهِيَ التي ذكرت في سورة (والصافات) [[راجع ج ١٥ ص ٨٥.]]. (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أَيْ مِنَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) الْأُولَى زَائِدَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُ قَالَ: (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) طَعَامًا. وَقَوْلُهُ: (مِنْ زَقُّومٍ) صِفَةٌ لِشَجَرٍ، وَالصِّفَةُ إِذَا قَدَّرْتَ الْجَارَّ زَائِدًا نُصِبَتْ عَلَى الْمَعْنَى، أَوْ جَرَرْتَ عَلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ قَدَّرْتَ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا لَمْ تَكُنِ الصِّفَةُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَشارِبُونَ عَلَيْهِ﴾ أَيْ عَلَى الزَّقُّومِ أَوْ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ عَلَى الشَّجَرِ، لأنه يذكر ومؤنث. (مِنَ الْحَمِيمِ) وَهُوَ الْمَاءُ الْمَغْلِيُّ الَّذِي قَدِ اشْتَدَّ غَلَيَانُهُ وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ أَيْ يورثهم حرما يَأْكُلُونَ مِنَ الزَّقُّومِ مَعَ الْجُوعِ الشَّدِيدِ عَطَشًا فَيَشْرَبُونَ مَاءً يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُزِيلُ الْعَطَشَ فَيَجِدُونَهُ حَمِيمًا مُغْلًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ (شُرْبَ) بِضَمِّ الشِّينِ. الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: شَرِبْتُ شُرْبًا وَشَرْبًا وَشِرْبًا وَشُرُبًا بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ هُوَ الْمَصْدَرُ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ كُلَّ مَصْدَرٍ مِنْ ذَوَاتِ الثَّلَاثَةِ فَأَصْلُهُ فَعْلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَرُدُّهُ إِلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَتَقُولُ: فَعْلَةٌ نَحْوُ شَرْبَةٍ وَبِالضَّمِّ الِاسْمُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَفْتُوحَ وَالِاسْمَ مَصْدَرَانِ، فَالشَّرْبُ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبُ كَالذُّكْرِ، وَالشِّرْبُ بِالْكَسْرِ الْمَشْرُوبُ كَالطِّحْنِ الْمَطْحُونِ. وَالْهِيمُ الْإِبِلُ العطاش التي لا تروى لِدَاءٍ يُصِيبُهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا: هِيَ الْإِبِلُ الْمِرَاضُ. الضَّحَّاكُ: الْهِيمُ الْإِبِلُ يُصِيبُهَا دَاءٌ تَعْطَشُ مِنْهُ عَطَشًا شَدِيدًا، وَاحِدُهَا أَهْيَمُ وَالْأُنْثَى هَيْمَاءُ. وَيُقَالُ لِذَلِكَ الدَّاءِ الْهُيَامُ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ: يُقَالُ بِهِ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَهُ ... وَقَدْ عَلِمَتْ نَفْسِي مَكَانَ شِفَائِهَا وَقَوْمٌ هِيمٍ أَيْضًا أَيْ عِطَاشٌ، وَقَدْ هَامُوا هُيَامًا. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ فِي الْإِبِلِ: هَائِمٌ وَهَائِمَةٌ وَالْجَمْعُ هُيَّمٌ، قَالَ لَبِيَدٌ: أَجَزْتُ إِلَى مَعَارِفِهَا بِشُعْثِ [[شعث: رجال ساءت حالهم من الجهد والسفر. وأطلاح: ابل مهازيل والواحد طليح. والعيدي: ابل منسوبة إلى فحل، ويقال منسوبة إلى قوم يقال لهم العيد.]] ... وَأَطْلَاحٍ مِنَ الْعِيدِيِّ هِيمُ [[أي خففت وكسرت الهاء لأجل الياء.]] وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْأَخْفَشُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ كَيْسَانَ: الْهِيمُ الْأَرْضُ السَّهْلَةُ ذَاتُ الرَّمَلِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَيَشْرَبُونَ شُرْبَ الرِّمَالِ الَّتِي لَا تُرْوَى بِالْمَاءِ. المهدوي: ويقال لكل مالا يُرْوَى مِنَ الْإِبِلِ وَالرَّمَلِ أَهْيَمُ وَهَيْمَاءُ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْهُيَامُ بِالضَّمِّ أَشَدُّ الْعَطَشِ. وَالْهُيَامُ كَالْجُنُونِ مِنَ الْعِشْقِ. وَالْهُيَامُ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فَتَهِيمُ فِي الْأَرْضِ لَا تَرْعَى. يُقَالُ: نَاقَةٌ هَيْمَاءُ. وَالْهَيْمَاءُ أَيْضًا الْمَفَازَةُ لَا مَاءَ بِهَا. وَالْهَيَامُ بِالْفَتْحِ: الرَّمْلُ الَّذِي لَا يَتَمَاسَكُ أَنْ يَسِيلَ مِنَ الْيَدِ لِلِينِهِ وَالْجَمْعُ هِيمٌ مِثْلُ قَذَالٍ وَقُذُلٍ. وَالْهِيَامُ بِالْكَسْرِ الْإِبِلُ الْعِطَاشُ الْوَاحِدُ هَيْمَانُ، وَنَاقَةٌ هَيْمَاءُ مِثْلُ عَطْشَانَ وَعَطْشَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ﴾ أَيْ رِزْقُهُمُ الَّذِي يُعَدُّ لَهُمْ، كَالنُّزُلِ الَّذِي يُعَدُّ لِلْأَضْيَافِ تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ» أَلِيمٍ) وَكَقَوْلِ أَبِي السَّعْدِ الضَّبِّيِّ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلَا وَقَرَأَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَعَبَّاسٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو (هَذَا نُزُلُهُمْ) بِإِسْكَانِ الزَّايِ، وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ (آلِ عِمْرَانَ) [[راجع ج ٤ ص ٣٢١]] الْقَوْلُ فِيهِ. (يَوْمَ الدِّينِ) يَوْمَ الْجَزَاءِ، يَعْنِي في جهنم
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب