الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَالِكُ ذَلِكَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ لِيَجْزِيَ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. وَقِيلَ: (لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) مُعْتَرِضٌ فِي الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى لِيَجْزِيَ. وَقِيلَ: هِيَ لام العاقبة، أي ولله ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَيْ وَعَاقِبَةُ أَمْرِ الْخَلْقِ أن يكون فيهم مسي وَمُحْسِنٌ، فَلِلْمُسِيءِ السُّوأَى وَهِيَ جَهَنَّمُ، وَلِلْمُحْسِنِ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ﴾ فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ﴾ هَذَا نَعْتٌ لِلْمُحْسِنِينَ، أَيْ هُمْ لَا يَرْتَكِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَهُوَ الشِّرْكُ، لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْآثَامِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (كَبِيرَ) عَلَى التَّوْحِيدِ وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالشِّرْكِ.
(وَالْفَواحِشَ) الزِّنَى: وَقَالَ مُقَاتِلٌ: (كَبائِرَ الْإِثْمِ) كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِالنَّارِ.
(وَالْفَواحِشَ) كُلُّ ذَنْبٍ فِيهِ الْحَدُّ. وَقَدْ مَضَى فِي (النِّسَاءِ) [[راجع ج ٥ ص (١٥٨)]] الْقَوْلُ فِي هَذَا. ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ- فَقَالَ: (إِلَّا اللَّمَمَ) وَهِيَ الصَّغَائِرُ الَّتِي لَا يَسْلَمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ [[في ب: (سلمه الله).]] اللَّهُ وَحَفِظَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ: (اللَّمَمَ) كُلُّ مَا دُونَ الزِّنَى. وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ كَانَ يُسَمَّى نَبْهَانَ التَّمَّارَ، كَانَ لَهُ حَانُوتٌ يَبِيعُ فِيهِ تَمْرًا، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَشْتَرِي مِنْهُ تَمْرًا فَقَالَ لَهَا: إِنَّ دَاخِلَ الدُّكَّانِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ رَاوَدَهَا فَأَبَتْ وَانْصَرَفَتْ فَنَدِمَ نَبْهَانُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رسول الله! ما من شي يَصْنَعُهُ الرَّجُلُ إِلَّا وَقَدْ فَعَلْتُهُ إِلَّا الْجِمَاعَ، فَقَالَ: (لَعَلَّ) [[راجع ج ٩ ص ١١١، ففيه بيان الإجمال في هذا الحديث برواية أخرى.]] (زَوْجَهَا غَازٍ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ (هُودٍ) [[راجع ج ٩ ص ١١١، ففيه بيان الإجمال في هذا الحديث برواية أخرى.]] وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَحُذَيْفَةُ وَمَسْرُوقٌ: إن اللمم ما دون الوطي مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْغَمْزَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ. وَرَوَى مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: زِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَى الْيَدَيْنِ الْبَطْشُ، وَزِنَى الرِّجْلَيْنِ الْمَشْيُ، وَإِنَّمَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ، فَإِنْ تَقَدَّمَ كَانَ زِنًى وَإِنْ تَأَخَّرَ كَانَ لَمَمًا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَى اللِّسَانِ النُّطْقُ وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ (. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْفَاحِشَةَ الْعَظِيمَةَ وَالزِّنَى التَّامَّ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ فِي الْفَرْجِ وَغَيْرُهُ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْإِثْمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ [عَنْ أَبِي [[من ب، ى.]] هُرَيْرَةَ] عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زناها الخطا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ (. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ حَدِيثَ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ فِيهِ الْأُذُنَ وَالْيَدَ وَالرِّجْلَ، وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ الْعَيْنَيْنِ وَاللِّسَانِ: (وَزِنَى الشَّفَتَيْنِ الْقُبْلَةُ). فَهَذَا قَوْلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ الرَّجُلُ يُلِمُّ بِذَنْبٍ ثُمَّ يَتُوبُ. قَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ:
إِنْ يَغْفِرِ اللَّهُ يَغْفِرْ جَمًّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا
رَوَاهُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [[روى هذا الحديث الترمذي بهذا الاسناد وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.]]. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ وَأَجَلُّهَا إِسْنَادًا. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (إِلَّا اللَّمَمَ) قَالَ: هُوَ أَنْ يُلِمَّ الْعَبْدُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ لَا يُعَاوِدُهُ، قال الشاعر [[هو أمية بن الصلت قاله عند احتضار.]]:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَأْتِي الذَّنْبَ ثُمَّ لَا يُعَاوِدُهُ، وَنَحْوُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: اللَّمَمُ أَنْ يَزْنِيَ ثُمَّ يَتُوبَ فَلَا يَعُودُ، وَأَنْ يَسْرِقَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ ثُمَّ يَتُوبَ فَلَا يَعُودُ. وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا [[راجع ج ٤ ص ٢٠٩ وص ٢١٥.]] لِذُنُوبِهِمْ) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ [[راجع ج ٤ ص ٢٠٩ وص ٢١٥.]] رَبِّهِمْ) فَضَمِنَ لَهُمُ الْمَغْفِرَةَ، كَمَا قَالَ عقيب اللمم: (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يكون (إِلَّا اللَّمَمَ) استثناء متصل. قال عبد الله ابن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: اللَّمَمُ مَا دُونَ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: اللَّمَمُ الذَّنْبُ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِعَذَابٍ فِي الْآخِرَةِ تُكَفِّرُهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ. وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اللَّمَمُ عَلَى وَجْهَيْنِ: كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا وَلَا عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، فَذَلِكَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ يُلِمُّ بِهِ الْإِنْسَانُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَيَتُوبُ مِنْهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: هُوَ مَا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: إِنَّمَا كُنْتُمْ بِالْأَمْسِ تَعْمَلُونَ مَعَنَا فَنَزَلَتْ وَقَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ [[في ا: (وأبوه) وما أثبتناه يوافق ما في تفسير أبى حيان والطبري]]، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) [[راجع ج ٥ ص ١١٦.]]. وَقِيلَ: اللَّمَمُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِذَنْبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِعَادَةٍ، قَالَهُ نِفْطَوَيْهِ. قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ مَا يَأْتِينَا إِلَّا لِمَامًا، أَيْ فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ. قَالَ: وَلَا يَكُونُ أَنْ يُلِمَّ وَلَا يَفْعَلَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ أَلَمَّ بِنَا إِلَّا إِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ لَا إِذَا هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْهُ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَأَلَمَّ الرَّجُلُ مِنَ اللَّمَمِ وَهُوَ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، وَيُقَالُ: هُوَ مُقَارَبَةُ الْمَعْصِيَةِ مِنْ غَيْرِ مُوَاقَعَةٍ. وَأَنْشَدَ غَيْرُ الْجَوْهَرِيُّ:
بِزَيْنَبَ أَلْمِمْ قَبْلَ أَنْ يَرْحَلَ الرَّكْبُ ... وَقُلْ إِنْ تَمَلِّينَا فَمَا مَلَّكِ الْقَلْبُ
أَيِ اقْرَبْ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: اللَّمَمُ عَادَةُ النَّفْسِ الْحِينَ بَعْدَ الحين. وقال سعيد ابن الْمُسَيَّبِ: هُوَ مَا أَلَمَّ عَلَى الْقَلْبِ، أَيْ خطر. وقال محمد بن الْحَنَفِيَّةِ: كُلُّ مَا هَمَمْتَ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ لَمَمٌ. وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً) الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) [[راجع ج ٣ ص ٣٢٩]] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ). وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ اللَّمَمِ وَالْإِلْمَامِ مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَلَا يَتَعَمَّقُ فيه وَلَا يُقِيمُ عَلَيْهِ، يُقَالُ: أَلْمَمْتُ بِهِ إِذَا زُرْتُهُ وَانْصَرَفْتُ عَنْهُ، وَيُقَالُ: مَا فَعَلْتُهُ إِلَّا لَمَمًا وَإِلْمَامًا: أَيِ الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ. وَإِنَّمَا زِيَارَتُكَ إِلْمَامٌ، وَمِنْهُ إِلْمَامُ الْخَيَالِ، قَالَ الْأَعْشَى:
ألم خيال من قتيلة بعد ما ... وَهَى حَبْلُهَا مِنْ حَبْلِنَا فَتَصَرَّمَا
وَقِيلَ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَأَنْكَرَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَقَالَ: الْمَعْنَى إِلَّا الْمُتَقَارِبَ مِنْ صِغَارِ الذُّنُوبِ. وَقِيلَ: اللَّمَمُ النَّظْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فَجْأَةً. قُلْتُ: هَذَا فِيهِ بُعْدٌ إِذْ هُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ابْتِدَاءً غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ، لِأَنَّهُ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَقَدْ مَضَى فِي (النُّورِ) [[راجع ج ١٢ ص ٢٢٧.]] بَيَانُهُ. وَاللَّمَمُ أَيْضًا طَرَفٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَرَجُلٌ مَلْمُومٌ أَيْ بِهِ لَمَمٌ. وَيُقَالُ أَيْضًا: أَصَابَتْ فُلَانًا لَمَّةٌ مِنَ الْجِنِّ وَهِيَ الْمَسُّ وَالشَّيْءُ الْقَلِيلُ، قَالَ الشَّاعِرُ [[هو ابن مقبل. والواو في (وذلك) زائدة كقول أبى كبير الهذلي:
فإذا وذلك ليس الا حينه ... وإذا مضى شي كأن لم يفعل]]:
فَإِذَا وَذَلِكَ يَا كُبَيْشَةَ لَمْ يَكُنْ ... إِلَّا كَلَمَّةِ حَالِمٍ بِخَيَالِ
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ لِمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ وَاسْتَغْفَرَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ وَكَانَ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا قِبَابٌ مَضْرُوبَةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقَالُوا: لِذِي الْكَلَاعِ وَحَوْشَبٍ، وَكَانَا مِمَّنْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُمَا لَقِيَا اللَّهَ فَوَجَدَاهُ وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ. فَقَالَ أَبُو خَالِدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ ذَا الْكَلَاعِ أَعْتَقَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ بِنْتٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يَعْنِي أَبَاكُمْ آدَمَ مِنَ الطِّينِ وَخَرَجَ اللَّفْظُ عَلَى الْجَمْعِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا، بَلْ وَقَعَ الْإِنْشَاءُ عَلَى التُّرْبَةِ الَّتِي رُفِعَتْ مِنَ الْأَرْضِ، وَكُنَّا جَمِيعًا فِي تِلْكَ التُّرْبَةِ وَفِي تِلْكَ الطِّينَةِ، ثُمَّ خَرَجَتْ مِنَ الطِّينَةِ الْمِيَاهُ إِلَى الْأَصْلَابِ مَعَ ذَرْوِ النُّفُوسِ عَلَى اخْتِلَافِ هَيْئَتِهَا، ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ صُلْبِهَا عَلَى اخْتِلَافِ الْهَيْئَاتِ، مِنْهُمْ كَالدُّرِّ يَتَلَأْلَأُ، وَبَعْضُهُمْ أَنْوَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَسْوَدُ كَالْحُمَمَةِ، وَبَعْضُهُمْ أَشَدُّ سَوَادًا مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ الْإِنْشَاءُ وَاقِعًا عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ. حَدَّثَنَا عيسى ابن حَمَّادٍ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (عُرِضَ عَلَيَّ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بَيْنَ يَدَيْ حُجْرَتِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ) فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنْ مَضَى مِنَ الْخَلْقِ؟ قَالَ: (نَعَمْ عُرِضَ عَلَيَّ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ فَهَلْ كَانَ خُلِقَ) [[كذا في ا، ز. وفى ح، هـ، س (فهل كان أحد). وفى ب: (فهل كان قبله أحد).]] (أَحَدٌ) قَالُوا: وَمَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَبُطُونِ الْأُمَّهَاتِ؟ قَالَ: (نَعَمْ مُثِّلُوا فِي الطِّينِ فَعَرَفْتُهُمْ كَمَا عُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا). قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ (الْأَنْعَامِ) [[راجع ج ٦ ص ٣٨٨.]] أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُخْلَقُ مِنْ طِينِ الْبُقْعَةِ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا.
(وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) جَمْعُ جَنِينٍ وَهُوَ الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ، سُمِّيَ جَنِينًا لِاجْتِنَانِهِ وَاسْتِتَارِهِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا [[وصدره:
ذراعي حرة أدماء بكر
وهى رواية أبى عبيدة. أي لم تضم في رحمها ولدا قط.]]
وَقَالَ مَكْحُولٌ: كُنَّا أَجِنَّةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا فَسَقَطَ مِنَّا مَنْ سَقَطَ وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ، ثُمَّ صِرْنَا رُضَّعًا فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ، ثُمَّ صِرْنَا يَفَعَةً فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ، وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ ثُمَّ صِرْنَا شَبَابًا فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ وَكُنَّا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخا- لا أبالك! - فَمَا بَعْدَ هَذَا نَنْتَظِرُ؟!. وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا هَلَكَ لَهُمْ صَبِيٌّ صَغِيرٌ: هُوَ صِدِّيقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: (كَذَبَتْ يَهُودُ مَا مِنْ نَسَمَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ إِلَّا أَنَّهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) إِلَى آخِرِهَا. وَنَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ: (كَانَ الْيَهُودُ). بِمِثْلِهِ.
(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أَيْ لَا تَمْدَحُوهَا وَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ.
(هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أَيْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ وَاتَّقَى عُقُوبَةَ اللَّهِ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ عَلَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا هِيَ عَامِلَةٌ، وَمَا هِيَ صَانِعَةٌ، وَإِلَى مَا هِيَ صَائِرَةٌ. وَقَدْ مَضَى فِي (النِّسَاءِ) الْكَلَامُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآية عند قوله تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) [[راجع ج ٥ ص (٢٤٦)]] فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أُزَكِّيهِ غَيْرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَاللَّهِ تَعَالَى أعلم.
{"ayahs_start":31,"ayahs":["وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ أَسَـٰۤـُٔوا۟ بِمَا عَمِلُوا۟ وَیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ أَحۡسَنُوا۟ بِٱلۡحُسۡنَى","ٱلَّذِینَ یَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰۤىِٕرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَ ٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَ ٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةࣱ فِی بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوۤا۟ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰۤ"],"ayah":"وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ أَسَـٰۤـُٔوا۟ بِمَا عَمِلُوا۟ وَیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ أَحۡسَنُوا۟ بِٱلۡحُسۡنَى"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











