الباحث القرآني

فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ﴾ أَيْ لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ. وَكَانَ الصَّيْدُ أَحَدَ مَعَايِشِ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ، وَشَائِعًا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْهُمْ، مُسْتَعْمَلًا جِدًّا، فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ فِيهِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، كَمَا ابْتَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَلَّا يَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض صَيْدٌ اخْتَلَفَ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَمَحْظُورَاتِ حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَنِ الْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمُ الْمُحِلُّونَ، قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُحْرِمُونَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَيَبْلُوَنَّكُمُ" فَإِنَّ تَكْلِيفَ الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَحَلِّ بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ، وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَصْفِهِ فِي كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ" أَيْ: لَيُكَلِّفَنَّكُمْ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ. الثالثة- قوله تعالى: "بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ" يُرِيدُ بِبَعْضِ الصَّيْدِ، فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ صَيْدُ الْبَرِّ خَاصَّةً، وَلَمْ يَعُمَّ الصَّيْدَ كله لان للبحر صيدا، قال الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَرَادَ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدَ، لِقَوْلِهِ: "تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ". الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ﴾ بَيَانٌ لِحُكْمِ صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ: "يَنَالُهُ" بِالْيَاءِ مَنْقُوطَةٌ مِنْ تَحْتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَيْدِي تَنَالُ الْفِرَاخَ وَالْبَيْضَ وَمَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفِرَّ، وَالرِّمَاحُ تَنَالُ كِبَارَ الصَّيْدِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" وكل شي يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ فَهُوَ صَيْدٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْمُ [[أي معظمه.]] التَّصَرُّفِ فِي الِاصْطِيَادِ، وَفِيهَا تَدْخُلُ الْجَوَارِحُ وَالْحِبَالَاتُ، وَمَا عُمِلَ بِالْيَدِ مِنْ فِخَاخٍ وَشِبَاكٍ، وَخَصَّ الرِّمَاحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْمُ مَا يُجْرَحُ بِهِ الصَّيْدُ، وَفِيهَا يَدْخُلُ السَّهْمُ وَنَحْوُهُ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيمَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالسِّهَامِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [[راجع ص ٦٥ فما بعد من هذا الجزء.]] بِمَا فيه الكفاية والحمد لله. السَّادِسَةُ- مَا وَقَعَ فِي الْفَخِّ وَالْحِبَالَةِ فَلِرَبِّهَا، فَإِنْ أَلْجَأَ الصَّيْدَ إِلَيْهَا أَحَدٌ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَخْذُهُ فَرَبُّهَا فِيهِ شَرِيكُهُ. وَمَا وَقَعَ فِي الْجُبْحِ [[الجبح (بجيم مثلثة وموحدة ساكنة): خلية العسل ويجمع على (أجبح وجبوح وجباح).]] الْمَنْصُوبِ فِي الْجَبَلِ مِنْ ذُبَابِ النَّحْلِ فَهُوَ كَالْحِبَالَةِ وَالْفَخِّ، وَحَمَامُ الْأَبْرِجَةِ تُرَدُّ عَلَى أَرْبَابِهَا إِنِ اسْتُطِيعَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ نَحْلُ الْجِبَاحِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ حَصَلَ الْحَمَامُ أَوِ النَّحْلُ عِنْدَهُ أَنْ يَرُدَّهُ. وَلَوْ أَلْجَأَتِ الْكِلَابُ صَيْدًا فَدَخَلَ فِي بَيْتِ أَحَدٍ أَوْ دَارِهِ فَهُوَ لِلصَّائِدِ مُرْسِلُ الْكِلَابِ دُونَ صَاحِبِ الْبَيْتِ، وَلَوْ دَخَلَ فِي الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارِ الْكِلَابِ لَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْبَيْتِ. السَّابِعَةُ- احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْمُثِيرَ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ وَلَا رُمْحُهُ بَعْدُ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الثَّامِنَةُ- كَرِهَ مَالِكٌ صَيْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" يَعْنِي أَهْلَ الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ الْآيَةِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ أهل العلم، لقوله تَعَالَى: "وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ"] المائدة: ٩٤] وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ ذَبَائِحِهِمْ. وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ أَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الطَّعَامِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ. قُلْتُ: هَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الْإِلْزَامُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فِي دِينِهِمْ فَيَلْزَمُنَا أَكْلُهُ لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب