الباحث القرآني

فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنَّا وَهُوَ يَشْرَبُهَا وَيَأْكُلُ الْمَيْسِرَ؟ وَنَحْوَ هَذَا- فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَأَمَرَ [[أي النبي ﷺ.]] مُنَادِيًا يُنَادِي، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ! قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا- وَكَانَ الْخَمْرُ مِنَ الْفَضِيخِ» - قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الْآيَةَ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَظِيرُ سُؤَالِهِمْ عَمَّنْ مَاتَ إِلَى الْقِبْلَةِ الْأُولَى فَنَزَلَتْ "وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" [[راجع ج ٢ ص ١٥٧.]]] البقرة: ١٤٣]. وَمَنْ فَعَلَ مَا أُبِيحَ لَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ شي، لَا إِثْمٌ وَلَا مُؤَاخَذَةٌ وَلَا ذَمٌّ وَلَا أَجْرٌ وَلَا مَدْحٌ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْعِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَخَوَّفَ وَلَا يُسْأَلَ عَنْ حَالِ مَنْ مَاتَ وَالْخَمْرُ فِي بَطْنِهِ وَقْتَ إِبَاحَتِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَائِلُ غَفَلَ عَنْ دَلِيلِ الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يَخْطُرْ لَهُ، أَوْ يَكُونُ لِغَلَبَةِ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَشَفَقَتِهِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ تَوَهَّمَ مُؤَاخَذَةً وَمُعَاقَبَةً لِأَجْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ: "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الْآيَةَ. الثَّالِثَةُ- هَذَا الْحَدِيثُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ إِذَا أَسْكَرَ خَمْرٌ، وَهُوَ نَصٌّ وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ] رَحِمَهُمُ [[من ب وج وك.]] اللَّهُ [هُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَقَدْ عَقَلُوا أَنَّ شَرَابَهُمْ ذَلِكَ خَمْرٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَرَابٌ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْمَدِينَةِ غَيْرُهُ، وَقَدْ قَالَ الْحَكَمِيُّ: لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ ... وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ الْبَاسِقَاتِ كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولًا ... وَفَاتَ ثِمَارَهَا أَيْدِي الْجُنَاةِ وَمِنَ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْبَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عن جابر عن النبي صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ هُوَ الْخَمْرُ]. وَثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَحَسْبُكُ بِهِ عَالِمًا بِاللِّسَانِ وَالشَّرْعِ- خَطَبَ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. وَهَذَا أَبْيَنُ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَمْرِ، يَخْطُبُ بِهِ عُمَرُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ وَلَمْ يَفْهَمُوا مِنَ الْخَمْرِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بَطَلَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى نَبِيذًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: تَرَكْتُ النَّبِيذَ لِأَهْلِ النَّبِيذِ ... وَصِرْتُ حَلِيفًا لِمَنْ عَابَهُ شَرَابٌ يُدَنِّسُ عِرْضَ الْفَتَى ... وَيَفْتَحُ للشر أبوابه الرَّابِعَةُ- قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُسْكِرُ نَوْعُهُ حَرُمَ شُرْبُهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا نِيئًا، كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْعِنَبِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حُدَّ، فَأَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ الني فَهُوَ الَّذِي انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَلَوْ نُقْطَةٌ مِنْهُ. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ فِي الْقَلِيلِ مِمَّا عَدَا مَا ذُكِرَ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ الْإِسْكَارَ، وَفِي الْمَطْبُوخِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْعِنَبِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ الني، فأما المطبوخ منهما، والني وَالْمَطْبُوخُ مِمَّا سِوَاهُمَا فَحَلَالٌ مَا لَمْ يَقَعِ الْإِسْكَارُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمُعْتَصَرِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ عَلَى تَفْصِيلٍ، فَيَرَى أَنَّ سُلَافَةَ الْعِنَبِ يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا إِلَّا أَنْ تُطْبَخَ حَتَّى يَنْقُصَ ثُلُثَاهَا، وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ فَيَحِلُّ مَطْبُوخُهُمَا وَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ مَسًّا قَلِيلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بحد، وأما الني مِنْهُ فَحَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ مَعَ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِيهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَقَعِ الْإِسْكَارُ، فَإِنْ وَقَعَ الْإِسْكَارُ اسْتَوَى الْجَمِيعُ. قَالَ شَيْخُنَا الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ] أَحْمَدُ [[[من ك.]] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْعَجَبُ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَمْرِ الْمُعْتَصَرِ مِنَ الْعِنَبِ حَرَامٌ كَكَثِيرِهِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَلِمَ حُرِّمَ الْقَلِيلُ مِنَ الْخَمْرِ وَلَيْسَ مُذْهِبًا لِلْعَقْلِ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ دَاعِيَةٌ إِلَى الْكَثِيرِ، أَوْ لِلتَّعَبُّدِ، فَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُمْ: كُلُّ مَا قَدَّرْتُمُوهُ فِي قَلِيلِ الْخَمْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي قَلِيلِ النَّبِيذِ فَيَحْرُمُ أَيْضًا، إِذْ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ إِذَا سُلِّمَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقِيَاسُ هُوَ أَرْفَعُ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ فِيهِ مُسَاوٍ لِلْأَصْلِ فِي جَمِيعِ أوصافه، وهذا كما يقوله فِي قِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ. ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ! فَإِنَّهُمْ يَتَوَغَّلُونَ فِي الْقِيَاسِ وَيُرَجِّحُونَهُ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكُوا هَذَا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ الْمَعْضُودَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ صدور الامة، لأحاديث لا يصح شي مِنْهَا عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَ عِلَلَهَا الْمُحَدِّثُونَ في كتبهم، وليس في الصحيح شي مِنْهَا. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ "النَّحْلِ" [[راجع ج ١٠ ص ١٢٧.]] تَمَامُ هَذِهِ المسألة إن شاء الله تعالى. الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿طَعِمُوا﴾ أَصْلُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْأَكْلِ، يُقَالُ: طَعِمَ الطَّعَامَ وَشَرِبَ الشَّرَابَ، لَكِنْ قَدْ تُجُوِّزَ فِي ذَلِكَ فَيُقَالُ: لَمْ أَطْعَمَ خُبْزًا وَلَا مَاءً وَلَا نَوْمًا، قَالَ الشاعر: نعاما بوجرة [[وجرة: موضع بين مكة والبصرة، يقول الشاعر: هي صائمة منه لا تطعمه، وروى في اللسان (لا تطعم الماء) وقال: وذلك لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه. وقبله: فأما بنو عامر بالنار ... غداة لقونا فكانوا نعاما]] صفر الْخُدُو ... دِ لَا تَطْعَمُ النَّوْمَ إِلَّا صِيَامَا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٣ ص ٢٥٢.]] فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ"] البقرة: ٢٤٩] بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةِ. السَّادِسَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَنَاوُلَ الْمُبَاحِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالِانْتِفَاعَ بِكُلِّ لَذِيذٍ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَمَنْكَحٍ وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ وَتُنُوهِيَ فِي ثَمَنِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ"] المائدة: ٨٧] وَنَظِيرُ قَوْلِهِ: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ" [[راجع ج ٧ ص ١٩٥.]]] الأعراف: ٣٢]. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ التَّقْوَى تَكْرَارٌ، وَالْمَعْنَى اتَّقَوْا شُرْبَهَا، وَآمَنُوا بِتَحْرِيمِهَا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي دَامَ اتِّقَاؤُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ، وَالثَّالِثُ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ إِلَى الِاتِّقَاءِ. وَالثَّانِي: اتَّقَوْا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا بَعْدَ تَحْرِيمِهَا شُرْبَهَا، ثُمَّ اتَّقَوْا فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ [[في ع: أعمارهم.]]، وَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ. الثَّالِثُ- اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي ثُمَّ اتَّقَوُا الْكَبَائِرَ، وَازْدَادُوا إيمانا، ومعنى الثَّالِثُ ثُمَّ اتَّقَوُا الصَّغَائِرَ وَأَحْسَنُوا أَيْ تَنَفَّلُوا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: الِاتِّقَاءُ [[لعل قول ابن جرير هو الرابع.]] الْأَوَّلُ هُوَ الِاتِّقَاءُ بِتَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالدَّيْنُونَةِ بِهِ وَالْعَمَلِ، وَالِاتِّقَاءُ الثَّانِي، الِاتِّقَاءُ بِالثَّبَاتِ عَلَى التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان، والتقرب بالنوافل. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِيَ الْمُحْسِنَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُتَّقِي الْمُؤْمِنِ الَّذِي عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَضَّلَهُ بِأَجْرِ الْإِحْسَانِ. التَّاسِعَةُ- قَدْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ أَخَوَيْهِ عُثْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَعُمِّرَ [[عمر: عاش زمانا طويلا.]]. وَكَانَ خَتْنُ [[الختن (بالتحريك): الصهر، أو كل ما كان من قبل المرأة كالأب والأخ.]] عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، خَالُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَفْصَةُ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، ثُمَّ عَزَلَهُ بِشَهَادَةِ الْجَارُودِ- سَيِّدِ عَبْدِ الْقَيْسِ- عَلَيْهِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابن عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ فُلَيْحٍ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الشُّرَّابَ كَانُوا يُضْرَبُونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَكَانُوا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ كَانَ عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ يَجْلِدُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ حَتَّى أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شرب فأمر به أن يجلد، فقال لِمَ تَجْلِدُنِي؟ بَيْنِي وَبَيْنَكَ كِتَابُ اللَّهِ! فَقَالَ عُمَرُ: وَفِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ أَلَّا أَجْلِدَكَ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الْآيَةَ. فَأَنَا مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ] كُلَّهَا [[[من ع.]]، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الآيات أنزلن عُذْرًا لِمَنْ غَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ" الْآيَةَ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، الْآيَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ جَلْدَةً، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْبُرْقَانِيِّ [[البرقاني (بفتح الموحدة وسكون الراء): هذه النسبة إلى قرية كانت بنواحي خوارزم وخربت، وصارت مزرعة. (الأنساب) للسمعاني.]] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْجَارُودُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا، وَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ حَقَّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ إِلَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ، فَدَعَا عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْهَدُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ حِينَ شَرِبَ، وَرَأَيْتُهُ سَكْرَانَ يقي، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ تَنَطَّعْتَ [[تنطع في الكلام: تعمق وغالى.]] فِي الشَّهَادَةِ، ثُمَّ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى قُدَامَةَ وَهُوَ بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَةُ وَالْجَارُودُ بِالْمَدِينَةِ كَلَّمَ الْجَارُودُ عُمَرَ، فَقَالَ: أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْجَارُودِ: أَشَهِيدٌ أَنْتَ أَمْ خَصْمٌ؟ فَقَالَ الْجَارُودُ: أَنَا شَهِيدٌ، قَالَ: قَدْ كُنْتُ أَدَّيْتُ الشَّهَادَةَ، ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ: إِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ! فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَمْلِكَنَّ لِسَانَكَ أَوْ لَأَسُوءَنَّكَ، فَقَالَ الْجَارُودُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا ذَلِكَ بِالْحَقِّ، أَنْ يَشْرَبَ ابْنُ عَمِّكَ وَتَسُوءَنِي! فَأَوْعَدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ شَهَادَتِنَا فَسَلْ بِنْتَ الْوَلِيدِ امْرَأَةَ ابْنِ مَظْعُونٍ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى هِنْدٍ يَنْشُدُهَا بِاللَّهِ، فَأَقَامَتْ هِنْدٌ عَلَى زَوْجِهَا الشَّهَادَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا قُدَامَةُ إِنِّي جَالِدُكَ، فَقَالَ قُدَامَةُ: وَاللَّهِ لَوْ شَرِبْتَ- كَمَا يَقُولُونَ- مَا كَانَ لَكَ أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَرُ. قَالَ: وَلِمَ يَا قُدَامَةُ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" الْآيَةَ إِلَى "الْمُحْسِنِينَ". فَقَالَ عُمَرُ: أَخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ يَا قُدَامَةُ، إِذَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا [[وجع: مريض.]]، فَسَكَتَ عُمَرُ عَنْ جَلْدِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: لَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَحْتَ السَّوْطِ، أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ فِي عُنُقِي! وَاللَّهِ لَأَجْلِدَنَّهُ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ، فَجَاءَهُ مَوْلَاهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ رَقِيقٍ صَغِيرٍ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ: أَخَذَتْكَ دِقْرَارَةُ [[الدقرارة (واحدة الدقارير): وهي الأباطيل وعادات السوء، أراد أن عادة السوء التي هي عادة قومك، وهي العدول عن الحق والعميل بالباطل (؟؟؟؟) وعرضت لك فعملت بها، وكان أسلم عبدا بجاويا.]] أَهْلِكَ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا. قَالَ: فَجَاءَهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ تَامٍّ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ، فَغَاضَبَ قُدَامَةُ عُمَرَ وَهَجَرَهُ، فَحَجَّا وَقُدَامَةُ مُهَاجِرٌ لِعُمَرَ حَتَّى قَفَلُوا عَنْ حَجِّهِمْ وَنَزَلَ عُمَرُ بِالسُّقْيَا [[السقيا (بالضم): موضع بين المدينة ووادي الصفراء.]] وَنَامَ بِهَا فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ قَالَ: عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ، انْطَلِقُوا فَأْتُونِي بِهِ، فَوَاللَّهِ لَأَرَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ: سَالِمْ قُدَامَةَ فَإِنَّهُ أَخُوكَ، فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَةَ أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ، فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرَّ إِلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ وَاسْتَغْفَرَ له، فكان أول صلحهما. قال أيوب ابن أَبِي تَمِيمَةَ: لَمْ يُحَدَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فِي الْخَمْرِ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَعُمَرَ فِي حَدِيثِ الْبُرْقَانِيِّ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي غَيْرِهِ مَا حُدَّ عَلَى الْخَمْرِ أَحَدٌ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ تَأْوِيلٍ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَةَ، وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوِهِ [[الشجو: الهم والحزن.]] إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى عُمَرَ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ] رَضِيَ اللَّهُ [[من ع.]] عَنْهُ [أَنَّ قَوْمًا شَرِبُوا بِالشَّامِ وَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَجْمَعَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ عَلَى أَنْ يُسْتَتَابُوا، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا، ذَكَرَهُ إِلْكِيَا الطبري.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب