الباحث القرآني
فِيهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، أَيْ لَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيُقَالُ لِلْوَاحِدَةِ شِعَارَةٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ. وَالشَّعِيرَةُ الْبَدَنَةُ تُهْدَى، وَإِشْعَارُهَا أَنْ يُجَزَّ سَنَامُهَا حَتَّى يَسِيلَ مِنْهُ الدَّمُ فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ. وَالْإِشْعَارُ الْإِعْلَامُ مِنْ طَرِيقِ الْإِحْسَاسِ، يُقَالُ: أَشْعَرَ هَدْيَهُ أَيْ جَعَلَ لَهُ عَلَامَةً لِيُعْرَفَ أَنَّهُ هَدْيٌ، وَمِنْهُ الْمَشَاعِرُ الْمَعَالِمُ، وَاحِدُهَا مَشْعَرٌ وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي قَدْ أُشْعِرَتْ بِالْعَلَامَاتِ. وَمِنْهُ الشِّعْرُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِحَيْثُ يَقَعُ الشُّعُورُ، وَمِنْهُ الشَّاعِرُ، لِأَنَّهُ يَشْعُرُ بِفِطْنَتِهِ لِمَا لَا يَفْطِنُ لَهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ الشَّعِيرُ لِشَعْرَتِهِ الَّتِي فِي رَأْسِهِ، فَالشَّعَائِرُ عَلَى قَوْلٍ مَا أُشْعِرَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ لِتُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَعَلَى قَوْلٍ جَمِيعُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَالْهَدْيُ وَالْبُدْنُ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الشَّعَائِرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ [[البيت كما رواه اللسان وفي أوج وز: نقاتلهم بهم نتقرب.]]:
نُقَتِّلُهُمْ جِيلًا فَجِيلًا تَرَاهُمُ ... شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهَا يُتَقَرَّبُ
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيُهْدُونَ فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ". وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: شَعَائِرُ اللَّهِ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: دِينُ اللَّهِ كُلُّهُ، كَقَوْلِهِ: "ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" [[راجع ج ١٢ ص ٥٦.]]] الحج: ٣٢] أي دين الله.
قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِعُمُومِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِشْعَارِ الْهَدْيِ وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ جِهَةٍ يُشْعَرُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَشْعَرَ نَاقَتَهُ فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ أَشْعَرَ بَدَنَةً مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا عِنْدِي حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ غَيْرُهُ. وَصَفْحَةُ السَّنَامِ جَانِبُهُ، وَالسَّنَامُ أَعْلَى الظَّهْرِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَمَنَعَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْوَسْمِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمِلْكُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ أَوْغَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ حِينَ لَمْ يَرَ الْإِشْعَارَ فَقَالَ: كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ! لَهِيَ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْعُلَمَاءِ. قُلْتُ: وَالَّذِي رَأَيْتُهُ مَنْصُوصًا فِي كُتُبِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ الْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا سُنَّةٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ، لِأَنَّ الْإِشْعَارَ لَمَّا كَانَ إِعْلَامًا كَانَ سُنَّةً بِمَنْزِلَةِ التَّقْلِيدِ، وَمِنْ حَيْثُ أَنَّهُ جَرْحٌ وَمُثْلَةٌ كَانَ حَرَامًا، فَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَجُعِلَ مُبَاحًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِشْعَارَ مُثْلَةٌ وَأَنَّهُ حَرَامٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ فَكَانَ مَكْرُوهًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْتَهِبُ كُلَّ مَالٍ إِلَّا مَا جُعِلَ هَدْيًا، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْهَدْيَ إِلَّا بِالْإِشْعَارِ ثُمَّ زَالَ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ أَبَا حَنِيفَةَ كَرِهَ إِشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْبَضْعِ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ السَّرَايَةُ [[اسراية: هي من قول الفقهاء. سرى الجرح إلى النفس أي دام ألمه حتى حدث منه الموت. كما يستفاد من المصباح.]]، أَمَّا مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ فَعَلَ كَمَا كَانَ يفعل في عهد رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ. فَهَذَا اعْتِذَارُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْإِشْعَارِ، فَقَدْ سَمِعُوهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ وَعَلِمُوهُ، قَالُوا: وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا يَصِيرُ بِهِ أَحَدٌ مُحْرِمًا، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْمَكْرُوهِ لَا تُعَدُّ مِنَ الْمَنَاسِكِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ﴾ اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ فِي جَمِيعِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ [[سرد: متتابعة.]] سَرْدٌ، يَأْتِي بَيَانُهَا فِي "بَرَاءَةٌ" [[راجع ج ٨ ص ٧١.]]، وَالْمَعْنَى: لَا تَسْتَحِلُّوهَا لِلْقِتَالِ وَلَا لِلْغَارَةِ وَلَا تُبَدِّلُوهَا، فَإِنَّ اسْتِبْدَالَهَا اسْتِحْلَالٌ، وَذَلِكَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ من النسي، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ" أَيْ لَا تَسْتَحِلُّوهُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَلَا ذَوَاتِ الْقَلَائِدِ جَمْعُ قِلَادَةٍ. فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنِ اسْتِحْلَالِ الْهَدْيِ جُمْلَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقَلَّدَ مِنْهُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي التَّقْلِيدِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ﴾ الْهَدْيُ مَا أُهْدِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ، الْوَاحِدَةُ هَدْيَةٌ وَهَدِيَّةٌ وَهَدْيٌ. فَمَنْ قَالَ: أَرَادَ بِالشَّعَائِرِ الْمَنَاسِكَ قَالَ: ذَكَرَ الْهَدْيَ تَنْبِيهًا عَلَى تَخْصِيصِهَا. وَمَنْ قَالَ: الشَّعَائِرُ الْهَدْيُ قَالَ: إِنَّ الشَّعَائِرَ مَا كَانَ مُشْعَرًا أَيْ مُعَلَّمًا بِإِسَالَةِ الدَّمِ مِنْ سَنَامِهِ، وَالْهَدْيُ مَا لَمْ يُشْعَرْ، اكْتُفِيَ فِيهِ بِالتَّقْلِيدِ. وَقِيلَ: الْفَرْقُ أَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ الْبُدْنُ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَالْهَدْيُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالثِّيَابُ وَكُلُّ مَا يُهْدَى. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الهدي عاما فِي جَمِيعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنَ الذَّبَائِحِ وَالصَّدَقَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (الْمُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً) إِلَى أَنْ قَالَ: (كَالْمُهْدِي بَيْضَةً) فَسَمَّاهَا هَدْيًا، وَتَسْمِيَةُ الْبَيْضَةِ هَدْيًا لَا مَحْمَلَ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا قَالَ جَعَلْتُ ثَوْبِي هَدْيًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، إِلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَسَوْقُهَا إِلَى الْحَرَمِ وَذَبْحُهَا فِيهِ، وَهَذَا إِنَّمَا تُلُقِّيَ مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ" [[راجع ج ٢ ص ٣٦٥.]]] البقرة: ١٩٦] وَأَرَادَ بِهِ الشَّاةَ، وَقَالَ تَعَالَى: "يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ" [[راجع ص ٣١٢ من هذا الجزء.]]] المائدة: ٩٥] وقال تعالى: "فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ"] البقرة: ١٩٦] وَأَقَلُّهُ شَاةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَالَ ثَوْبِي هَدْيٌ يَجْعَلُ ثَمَنَهُ فِي هَدْيٍ. "وَالْقَلائِدَ" مَا كَانَ النَّاسُ يَتَقَلَّدُونَهُ أَمَنَةً لَهُمْ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَا أَصْحَابَ الْقَلَائِدِ ثُمَّ نُسِخَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آيَتَانِ نُسِخَتَا مِنَ "الْمَائِدَةِ" آيَةُ الْقَلَائِدِ وَقَوْلُهُ: "فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ"] المائدة: ٤٢] فَأَمَّا الْقَلَائِدُ فَنَسَخَهَا الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ كَانُوا وَفِي أَيِّ شَهْرٍ كَانُوا. وَأَمَّا الْأُخْرَى فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ﴾] المائدة: ٤٩] عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقَلَائِدِ نَفْسَ الْقَلَائِدِ، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَخْذِ لِحَاءِ [[لحاء الشجر: قشره.]] شَجَرِ الْحَرَمِ حَتَّى يُتَقَلَّدَ بِهِ طَلَبًا لِلْأَمْنِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَمُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَقِيقَةُ الْهَدْيِ كُلُّ مُعْطًى لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ عِوَضٌ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِثَمَنِهِ إِلَى مَكَّةَ. وَأَمَّا الْقَلَائِدُ فَهِيَ كُلُّ مَا عُلِّقَ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا وَأَعْنَاقِهَا عَلَامَةً أَنَّهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، مِنْ نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهِيَ سُنَّةٌ إِبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ، وَهِيَ سُنَّةُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا فَقَلَّدَهَا، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَإِلَى هَذَا صَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ حَبِيبٍ، وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ فِي تَقْلِيدِ الْغَنَمِ، أَوْ بَلَغَ لَكِنَّهُمْ رَدُّوهُ لِانْفِرَادِ الْأَسْوَدِ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَالْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنْ كَانَتْ لَهَا أسنمة أشعرت كالبدن، قاله ابْنُ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقَلَّدُ وَتُشْعَرُ مُطْلَقًا وَلَمْ يُفَرِّقُوا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تُقَلَّدُ وَلَا تُشْعَرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ إِذْ لَيْسَ لَهَا سَنَامٌ، وَهِيَ أَشْبَهُ بِالْغَنَمِ مِنْهَا بِالْإِبِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- وَاتَّفَقُوا فِيمَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً عَلَى نِيَّةِ الْإِحْرَامِ وَسَاقَهَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ" إِلَى أَنْ قَالَ: "فَاصْطادُوا" وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِحْرَامَ لَكِنْ لَمَّا ذَكَرَ التَّقْلِيدَ عرف أنه بمنزلة الإحرام.
السَّادِسَةُ- فَإِنْ بَعَثَ بِالْهَدْيِ وَلَمْ يَسُقْ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شي أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَصِيرُ مُحْرِمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ الْهَدْيُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ جَالِسًا فَقَدَّ قَمِيصَهُ مِنْ جَيْبِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِجْلَيْهِ، فَنَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: (إِنِّي أُمِرْتُ بِبُدْنِي الَّتِي بَعَثْتُ بِهَا أَنْ تُقَلَّدَ وَتُشْعَرَ عَلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَلَبِسْتُ قَمِيصِي وَنَسِيتُ فَلَمْ أَكُنْ لِأُخْرِجَ قَمِيصِي مِنْ رَأْسِي) وَكَانَ بَعَثَ بِبُدْنِهِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ. فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ [[في التهذيب: (ابن بنت أبي لبيبة).]] وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَإِنْ قَلَّدَ شَاةً وَتَوَجَّهَ مَعَهَا فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الشَّاةِ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ وَلَا مِنَ الشَّعَائِرِ، لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهَا الذِّئْبُ فَلَا تَصِلُ إِلَى الْحَرَمِ بِخِلَافِ الْبُدْنِ، فَإِنَّهَا تُتْرَكُ حَتَّى تَرِدَ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ وَتَصِلَ إِلَى الْحَرَمِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي. الْعِهْنُ الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى:" وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [١٠: ٥]" [القارعة: ٥] [[راجع ج ٢٠ ص ١٦٥.]]. السَّابِعَةُ- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْهَدْيِ وَلَا هِبَتُهُ إِذَا قُلِّدَ أَوْ أُشْعِرَ، لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ، وَإِنْ مَاتَ مُوجِبُهُ لَمْ يُوَرَّثْ عَنْهُ وَنَفَذَ لِوَجْهِهِ، بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِالذَّبْحِ خَاصَّةً عِنْدَ مَالِكٍ إِلَّا أَنْ يُوجِبَهَا بِالْقَوْلِ، فَإِنْ أَوْجَبَهَا بِالْقَوْلِ قَبْلَ الذَّبْحِ فَقَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً تَعَيَّنَتْ، وَعَلَيْهِ، إِنْ تَلِفَتْ ثُمَّ وَجَدَهَا أَيَّامَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهَا ذَبَحَهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهَا، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً غَيْرَهَا ذَبَحَهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَدَلَ عَلَيْهِ إِذَا ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ، إِنَّمَا الْإِبْدَالُ فِي الْوَاجِبِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا ضلت فقد أجزأت. ومن مَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يُضَحِّيَ كَانَتْ ضَحِيَّتُهُ مَوْرُوثَةً عَنْهُ كَسَائِرِ مَالِهِ بِخِلَافِ الْهَدْيِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: تُذْبَحُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تُذْبَحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْأُضْحِيَّةِ فَتُبَاعُ فِي دَيْنِهِ. وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ ذَبْحِهَا لَمْ يَرِثْهَا عَنْهُ وَرَثَتُهُ، وَصَنَعُوا بِهَا مِنَ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهَا، وَلَا يَقْتَسِمُونَ لَحْمَهَا عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ. وَمَا أَصَابَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْلَ الذَّبْحِ مِنَ الْعُيُوبِ كَانَ عَلَى صَاحِبِهَا بَدَلُهَا بِخِلَافِ الْهَدْيِ، هَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْهَدْيِ عَلَى صَاحِبِهِ الْبَدَلُ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ﴾ يَعْنِي الْقَاصِدِينَ لَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ أَمَمْتُ كَذَا أَيْ قَصَدْتُهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: "وَلَا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ" بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ: "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ" وَالْمَعْنَى: لَا تَمْنَعُوا الْكُفَّارَ الْقَاصِدِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَلَى جِهَةِ التَّعَبُّدِ وَالْقُرْبَةِ، وَعَلَيْهِ فَقِيلَ: مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ نَهْيٍ عَنْ مُشْرِكٍ، أَوْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةٍ لَهُ بِقِلَادَةٍ، أَوْ أَمِّ الْبَيْتِ فَهُوَ كُلُّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي قوله: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" [[راجع ج ٨ ص ٧١ وص ١٠٣.]]] التوبة: ٥] وَقَوْلُهُ: "فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا"] التوبة: ٢٨] فَلَا يُمَكَّنُ الْمُشْرِكُ مِنَ الْحَجِّ، وَلَا يُؤَمَّنُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَإِنْ أَهْدَى وَقَلَّدَ وَحَجَّ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ وَهِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ إِخَافَةِ مَنْ يَقْصِدُ بَيْتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالنَّهْيُ عَامٌّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّ الشَّهْرَ الْحَرَامِ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا وَتَفْضِيلًا، وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ عَطَاءٍ، فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تُحِلُّوا مَعَالِمَ اللَّهِ، وَهِيَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَمَا أَعْلَمَهُ النَّاسُ فَلَا تُحِلُّوهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا إِلَّا "الْقَلائِدَ" وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَلَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ الْحَرَمِ [[أي لحاء شجر الحرم.]] فَلَا يُقْرَبُ فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَذِهِ الْآيَةُ نَهْيٌ عَنِ الْحُجَّاجِ أَنْ تُقْطَعَ سُبُلُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ عَامَ الْفَتْحِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ، جَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ فَلَنْ نَدَعَهُمْ إِلَّا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ". وقيل: كَانَ هَذَا لِأَمْرِ شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْبَكْرِيِّ [[في ز: الكندي وفي أسباب النزول للواحدي: نزلت في الخطيم واسمه شريح بن ضبيع الكندي.]] - ويلقب بالحطم- أخذته جند رسول الله عليه وسلم وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي عُمْرَتِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَدْرَكَ الْحُطَمُ هَذَا رِدَّةَ الْيَمَامَةِ فَقُتِلَ مُرْتَدًّا وَقَدْ رُوِيَ مِنْ خَبَرِهِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ، وَخَلَّفَ خَيْلَهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو النَّاسَ؟ فَقَالَ: (إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) فَقَالَ: حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ لِي أُمَرَاءَ لَا أَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُمْ وَلَعَلِّي أُسْلِمُ وَآتِي بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: (يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ) ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ بِقَفَا غَادِرٍ وَمَا الرَّجُلُ بِمُسْلِمٍ). فَمَرَّ بِسَرْحِ [[السرح: المال السائم.]] الْمَدِينَةِ فَاسْتَاقَهُ، فَطَلَبُوهُ فَعَجَزُوا عَنْهُ، فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ [[رجل حطم وحطمة: إذا كان قليل الرحمة للماشية يهشم بعضها ببعض.]] ... لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ
وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرٍ وَضَمْ [[الوضم: كل شي يوضع عليه اللحم من خشب أو حصير يوقى به من الأرض.]] ... بَاتُوا نِيَامًا وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم [[الزلم: (بفتح الزاي وضمها) القدح، والجمع الأزلام وهي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها.]] ... خذلّج [[خدلج الساقين: عظيمهما.]] السَّاقَيْنِ خَفَّاقُ الْقَدَمْ [[خفاق القدم: عريض صدر القدمين.]]
فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ عَامَ الْقَضِيَّةِ [[القضية: قضاء العمرة التي أحصر عنها.]] سَمِعَ تَلْبِيَةَ حُجَّاجِ الْيَمَامَةِ فَقَالَ: (هَذَا الْحُطَمُ وَأَصْحَابُهُ). وَكَانَ قَدْ قَلَّدَ مَا نَهَبَ مِنْ سَرْحِ الْمَدِينَةِ وَأَهْدَاهُ إِلَى مَكَّةَ [[في ج وز: الكعبة.]]، فَتَوَجَّهُوا فِي طَلَبِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، أَيْ لَا تُحِلُّوا مَا أُشْعِرَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. التَّاسِعَةُ- وَعَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ يُوجِبُ إِتْمَامَ أُمُورِ الْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَخَلَ فِي الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْهَا وَإِنْ فَسَدَ حَجُّهُ، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ﴾ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [[راجع ج ٨ ص ١٣٦.]] وَقَوْلِهِ: (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ فَكُلُّ مَنْ قلد الهدي وَنَوَى الْإِحْرَامَ صَارَ مُحْرِمًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحِلَّ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بَعْضُهَا مَنْسُوخٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً﴾ قَالَ فِيهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ يَبْتَغُونَ الْفَضْلَ وَالْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ، وَيَبْتَغُونَ مَعَ ذَلِكَ رِضْوَانَهُ فِي ظَنِّهِمْ وَطَمَعِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَبْتَغِي التِّجَارَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ بِالْحَجِّ رِضْوَانَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَنَالُهُ، وَكَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَعْتَقِدُ جَزَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ يُبْعَثُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْلَافٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَرَبِ وَلُطْفٌ بِهِمْ، لِتَنْبَسِطَ النُّفُوسُ، وَتَتَدَاخَلُ النَّاسُ، وَيَرِدُونَ الْمَوْسِمَ فَيَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، وَيَدْخُلُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ وَتَقُومُ عِنْدَهُمُ الْحُجَّةُ كَالَّذِي كَانَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْفَتْحِ فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهَ بَعْدَ عَامٍ سَنَةَ تِسْعٍ، إِذْ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَنُودِيَ النَّاسُ بِسُورَةِ "بَرَاءَةٌ". الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا﴾ أَمْرُ إِبَاحَةٍ- بِإِجْمَاعِ النَّاسِ- رَفَعَ مَا كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ، حَكَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ صِيغَةُ "أَفْعَلِ" الْوَارِدَةُ بَعْدَ الْحَظْرِ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْوُجُوبِ قَائِمٌ وَتَقَدُّمَ الْحَظْرِ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [[راجع ج ٨ ص ٧١.]]] التوبة: ٥] فَهَذِهِ "أَفْعَلُ" عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْجِهَادُ، وَإِنَّمَا فُهِمَتِ الْإِبَاحَةُ هُنَاكَ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ: "فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا ١٠" [[راجع ج ١٨ ص ١٠٨.]]] الجمعة: ١٠] "فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ" [[راجع ج ٣ ص ٩٠.]] مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى وَالْإِجْمَاعِ، لَا مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ شأي لَا يَحْمِلَنَّكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ. وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، يُقَالُ: جَرَمَنِي كَذَا عَلَى بُغْضِكَ أَيْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: [[هو أبو أسماء بن الضريبة ويقال: هو عطية بن عفيف. وطعنت (بفتح التاء) لأنه يخاطب كرزا العقيلي ويرثيه وقبل البيت:
يا كرز إنك قد قتلت بفارس ... بطل إذا هاب الكماة وجببوا
وكان كرز قد طعن أبا عيينة وهو حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري.
(اللسان).]]
وَلَقَدْ طَعَنْتُ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزَارَةَ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ وَلَا يُحِقَّنَّكُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: مَعْنَى "لَا يَجْرِمَنَّكُمْ" أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ أَنْ تَعْتَدُوا الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالْعَدْلَ إِلَى الظُّلْمِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ "فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ"] البقرة: ١٩٤] وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى [[راجع ج ٢ ص ٣٥٦ وما بعدها.]]. وَيُقَالُ: فُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ أَيْ كَاسِبُهُمْ، فَالْجَرِيمَةُ وَالْجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ. وَأَجْرَمَ فُلَانٌ أَيِ اكْتَسَبَ الْإِثْمَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ [[هو أبو خراش الهذلي يذكر عقابا شبه فرسه بها والناهض فرخ العقاب والنبق أرفع موضع في الجبل.]]:
جَرِيمَةُ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ ... تَرَى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا
مَعْنَاهُ كَاسِبُ قُوتٍ، وَالصَّلِيبُ الْوَدَكُ [[الودك: دسم اللحم.]]، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي بِنَاءِ جَ رَ مَ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: يُقَالُ جَرَمَ وَأَجْرَمَ، وَلَا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، وَأَصْلُهَا مِنْ جَرَمَ أَيِ اكْتَسَبَ، قَالَ:
جَرَمَتْ فَزَارَةَ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا
وَقَالَ آخَرُ:
يَا أَيُّهَا الْمُشْتَكِي عُكْلًا [[عكل (بالضم): أبو قبيلة فيهم غباوة اسمه عوف بن عبد مناة حضنته أمة تدعى عكل فلقب بها.
(القاموس).]] وَمَا جَرَمَتْ ... إِلَى الْقَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ وَإِبْآسِ
وَيُقَالُ: جَرَمَ يَجْرِمُ جَرْمًا إِذَا قَطَعَ، قَالَ الرُّمَّانِيُّ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: وَهُوَ الْأَصْلُ، فَجَرَمَ بِمَعْنَى حَمَلَ عَلَى الشَّيْءِ لِقَطْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَجَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى الْكَسْبِ، وَجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ لِأَنَّ الْحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: "لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ" [[راجع ج ١٠ ص ١٢٠.]]] النحل: ٦٢] لَقَدْ حَقَّ أَنَّ لَهُمُ الْعَذَابَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَرَمَ وَأَجْرَمَ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيِ اكْتَسَبَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "يَجْرِمَنَّكُمْ" بِضَمِّ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا لَا يَكْسِبَنَّكُمْ، وَلَا يَعْرِفُ الْبَصْرِيُّونَ الضَّمَّ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: جَرَمَ لَا غَيْرَ. وَالشَّنَآنُ الْبُغْضُ. وقرى بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِهَا، يُقَالُ: شَنِئْتُ الرَّجُلَ أَشْنَؤُهُ شنأ وشنأة وشنآنا وَشَنْآنًا بِجَزْمِ النُّونِ، كُلُّ ذَلِكَ إِذَا أَبْغَضْتُهُ، أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ بِصَدِّهِمْ إِيَّاكُمْ أَنْ تَعْتَدُوا، وَالْمُرَادُ بُغْضُكُمْ قَوْمًا، فَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا صُدَّ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الْبَيْتِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مَرَّ بِهِمْ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَصُدُّهُمْ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ لَا تَعْتَدُوا عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا تَصُدُّوهُمْ "أَنْ صَدُّوكُمْ" أَصْحَابُهُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ صَدُّوكُمْ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ "إِنْ صَدُّوكُمْ" وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ "إِنْ يَصُدُّوكُمْ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنْ لِلْجَزَاءِ، أَيْ إِنْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَأَمَّا "إِنْ صَدُّوكُمْ" بِكَسْرِ "إِنْ" فَالْعُلَمَاءُ الْجُلَّةُ بِالنَّحْوِ وَالْحَدِيثِ وَالنَّظَرِ يَمْنَعُونَ الْقِرَاءَةَ بِهَا لِأَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فَالصَّدُّ كَانَ قَبْلَ الْآيَةِ، وَإِذَا قُرِئَ بِالْكَسْرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بَعْدَهُ، كَمَا تَقُولُ: لَا تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا إِنْ قَاتَلَكَ، فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ فَتَحْتَ كَانَ لِلْمَاضِي، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَلَّا يَجُوزَ إِلَّا "أَنْ صَدُّوكُمْ". وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَصِحْ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ الْفَتْحُ وَاجِبًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: "لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُنْهَوْنَ عَنْ هَذَا إِلَّا وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الصَّدِّ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَوَجَبَ مِنْ هَذَا فَتْحُ "أَنْ" لِأَنَّهُ لِمَا مَضَى.
(أَنْ تَعْتَدُوا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لأنه مفعول به، أي لا يجر منكم شَنَآنُ قَوْمٍ الِاعْتِدَاءَ. وَأَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ "شَنْآنُ" بِإِسْكَانِ النُّونِ، لِأَنَّ الْمَصَادِرَ إِنَّمَا تَأْتِي فِي مِثْلِ هَذَا مُتَحَرِّكَةٌ، وَخَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مَصْدَرًا وَلَكِنَّهُ اسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى وَزْنِ كَسْلَانَ وَغَضْبَانَ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى﴾ قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مَقْطُوعٌ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَيْ لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَحَاثُّوا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَاعْمَلُوا بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَامْتَنِعُوا مِنْهُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ). وَقَدْ قيل: الدَّالُّ عَلَى الشَّرِّ كَصَانِعِهِ. ثُمَّ قِيلَ: الْبِرُّ وَالتَّقْوَى لَفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكُرِّرَ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً، إِذْ كُلُّ بِرٍّ تَقْوَى وَكُلُّ تَقْوَى بِرٌّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا تَسَامُحٌ مَا، وَالْعُرْفُ فِي دَلَالَةِ هَذَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَنَّ الْبِرَّ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ، وَالتَّقْوَى رِعَايَةُ الْوَاجِبِ، فَإِنْ جُعِلَ أَحَدُهُمَا بَدَلَ الْآخَرِ فَبِتَجَوُّزٍ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَدَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَقَرَنَهُ بِالتَّقْوَى لَهُ، لِأَنَّ فِي التَّقْوَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْبِرِّ رِضَا النَّاسِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَا النَّاسِ فَقَدْ تَمَّتْ سَعَادَتُهُ وَعَمَّتْ نِعْمَتُهُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ فِي أَحْكَامِهِ: وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى يَكُونُ بِوُجُوهٍ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُعِينَ النَّاسَ بِعِلْمِهِ فَيُعَلِّمُهُمْ [[في ز: فيعلمهم ويفتيهم. وفيها: كاليد الواحدة تتكافؤ دماءهم إلخ.]]، وَيُعِينُهُمُ الْغَنِيُّ بِمَالِهِ، وَالشُّجَاعُ بِشَجَاعَتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ مُتَظَاهِرِينَ كَالْيَدِ الْوَاحِدَةِ (الْمُؤْمِنُونَ تتكافؤ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ). وَيَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُتَعَدِّي وَتَرْكِ النُّصْرَةِ لَهُ وَرَدِّهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ. ثُمَّ نَهَى فَقَالَ.
(وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) وَهُوَ الْحُكْمُ اللَّاحِقُ عَنِ الْجَرَائِمِ [[تفسير (للإثم) كما في (ابن عطية).]]، وَعَنِ "الْعُدْوانِ" وَهُوَ ظُلْمُ النَّاسِ. ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّقْوَى وَتَوَعَّدَ تَوَعُّدًا مُجْمَلًا فَقَالَ: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحِلُّوا۟ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡیَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰۤىِٕدَ وَلَاۤ ءَاۤمِّینَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَ ٰنࣰاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُوا۟ۚ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُوا۟ۘ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق