الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ﴾ أَيْ أَنْ أُبْعَثَ. "وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي" قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَفْصٍ وَغَيْرِهِمَا "أُفٍّ" مَكْسُورٌ مُنَوَّنٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ "أُفٍّ" بِالْفَتْحِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ غَيْرِ مُنَوَّنٍ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ، وَقَدْ مَضَى فِي "بَنِي إِسْرَائِيلَ" [[راجع ج ١٠ ص ٢٤٢.]]. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ "أَتَعِدانِنِي" بِنُونَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ. وَفَتَحَ يَاءَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ. وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْمُغِيرَةُ وَهِشَامٌ "أَتَعِدَانِّي" بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ. وَالْعَامَّةُ عَلَى ضَمِّ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ "أَنْ أُخْرَجَ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَنَصْرٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو مَعْمَرٍ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ يَدْعُوهُ أَبَوَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُجِيبُهُمَا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ أَيْضًا: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ أُمُّ رُومَانَ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَعِدَانِهِ بِالْبَعْثِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: هِيَ نَعْتُ عَبْدٍ كَافِرٍ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَيْفَ يُقَالُ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ" أَيِ الْعَذَابُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عَدَمُ الْإِيمَانِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدٍ كَافِرٍ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلى مروان ابن الْحَكَمِ حَتَّى يُبَايِعَ النَّاسَ لِيَزِيدَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا هِرَقْلِيَّةَ [[أراد أن البيعة لأولاد الملوك سنة ملوك الروم، وهرقل: اسم ملك الروم.]]، أَتُبَايِعُونَ لِأَبْنَائِكُمْ! فَقَالَ مَرْوَانُ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ فِيهِ "وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما" الْآيَةَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ. وَلَوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَبَاكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ، فَأَنْتَ فَضَضٌ [[كل ما انقطع من شيء أو تفرق فهو فضض، أراد أنك قطعة وطائفة منها.]] مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ "أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ" يُرَادُ بِهِ مَنِ اعْتَقَدَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَأَوَّلُ الْآيَةِ خَاصٌّ وَآخِرُهَا عَامٌّ. وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا قَالَ "وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي" قَالَ مَعَ ذَلِكَ: فَأَيْنَ عَبْدُ الله ابن جُدْعَانَ، وَأَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَيْنَ عَامِرُ بْنُ كَعْبٍ وَمَشَايِخُ قُرَيْشٍ حَتَّى أَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ. فَقَوْلُهُ "أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ" يَرْجِعُ إِلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ. قُلْتُ: قَدْ مَضَى مِنْ خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي سُورَةِ (الْأَنْعَامِ) عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى﴾[[راجع ج ٧ ص ١٨]] [الانعام: ٧١] مَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ، إِذْ كَانَ كَافِرًا وَعِنْدَ إِسْلَامِهِ وَفَضْلِهِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ "أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ". "وَهُما" يَعْنِي وَالِدَيْهِ. "يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ" أَيْ يَدْعُوَانِ اللَّهَ لَهُ بِالْهِدَايَةِ. أَوْ يَسْتَغِيثَانِ بِاللَّهِ مِنْ كُفْرِهِ، فَلَمَّا حَذَفَ الْجَارَّ وَصَلَ الْفِعْلَ فَنُصِبَ. وَقِيلَ: الِاسْتِغَاثَةُ الدُّعَاءُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَغُوَاثَهُ. "وَيْلَكَ آمِنْ" أَيْ صَدِّقْ بِالْبَعْثِ. "إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" أَيْ صِدْقٌ لَا خُلْفَ فِيهِ. "فَيَقُولُ مَا هَذَا" أَيْ مَا يَقُولُهُ وَالِدَاهُ. "إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ" أَيْ أَحَادِيثَهُمْ وَمَا سَطَرُوهُ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ. "أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ" يَعْنِي الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمُ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي قَوْلِهِ أَحْيُوا لِي مَشَايِخَ قُرَيْشٍ، وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ "وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي". فَأَمَّا ابْنُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ فِيهِ دُعَاءَ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ [الأحقاف: ١٥] على ما تقدم. ومعنى "حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ" أَيْ، وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، وَهِيَ كَلِمَةُ اللَّهِ:] هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي [. "فِي أُمَمٍ" أي مع أمم "قَدْ خَلَتْ" تقدمت ومضت. "مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ" الْكَافِرِينَ "إِنَّهُمْ" أَيْ تِلْكَ الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ "كانُوا خاسِرِينَ" لِأَعْمَالِهِمْ، أَيْ ضَاعَ سعيهم وخسروا الجنة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب