قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَذلِكَ﴾ أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَيُوقَفُ عَلَى "كَذلِكَ". وَقِيلَ: أَيْ كَمَا أَدْخَلْنَاهُمُ الْجَنَّةَ وَفَعَلْنَا بِهِمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، كَذَلِكَ أَكْرَمْنَاهُمْ بِأَنْ زَوَّجْنَاهُمْ حُورًا عِينًا. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعِينِ فِي "وَالصَّافَّاتِ" [[راجع ج ١٥ ص ٤]]. وَالْحُورُ: الْبِيضُ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَالْعَامَّةِ، جَمْعُ حَوْرَاءَ. وَالْحَوْرَاءُ: الْبَيْضَاءُ الَّتِي يُرَى سَاقُهَا مِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهَا، وَيَرَى النَّاظِرُ وَجْهَهُ فِي كَعْبِهَا، كَالْمِرْآةِ مِنْ دِقَّةِ الْجِلْدِ وَبَضَاضَةِ الْبَشَرَةِ وَصَفَاءِ اللَّوْنِ. وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهَا فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" بِعِيسٍ [[العيس (بالكسر): بياض يخالطه شيء من شقرة.]] عِينٍ". وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحسين قال حدثنا حسين قَالَ حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ فَقَرَأَ فِي "حم" الدُّخَانِ "بِعِيسٍ عِينٍ. لَا يَذُوقُونَ طَعْمَ الْمَوْتِ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى". وَالْعِيسُ: الْبِيضُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْإِبِلِ الْبِيضِ: عِيسٌ، وَاحِدُهَا بَعِيرٌ أَعْيَسُ وَنَاقَةٌ عيساء. قال امرؤ القيس: ي
رعن إِلَى صَوْتِي إِذَا مَا سَمِعْنَهُ ... كَمَا تَرْعَوِي عِيطٌ إِلَى صَوْتِ أَعْيَسَا [[العيط (جمع عيطاء). الناقة الفتية التي لم تحمل.]]
فَمَعْنَى الْحُورِ هُنَا: الْحِسَانُ الثَّاقِبَاتُ [[الثاقب: المضي.]] الْبَيَاضِ بِحُسْنٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَيُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَمِنْ تَحْتِ سَبْعِينَ حُلَّةً، كَمَا يُرَى الشَّرَابُ الْأَحْمَرُ فِي الزُّجَاجَةِ الْبَيْضَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْحُورُ حُورًا لِأَنَّهُنَّ يَحَارُ الطَّرْفِ فِي حُسْنِهِنَّ وَبَيَاضِهِنَّ وَصَفَاءِ لَوْنِهِنَّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُنَّ حُورٌ لِحَوَرِ أَعْيُنِهِنَّ. وَالْحَوَرُ: شِدَّةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ فِي شِدَّةِ سَوَادِهَا. امْرَأَةٌ حَوْرَاءُ بَيِّنَةُ الْحَوَرِ. يُقَالُ: احْوَرَّتْ عَيْنُهُ احْوِرَارًا. وَاحْوَرَّ الشَّيْءُ ابْيَضَّ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَا أَدْرِي مَا الْحَوَرُ فِي الْعِينِ؟ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْحَوَرُ أَنْ تَسْوَدَّ الْعَيْنُ كُلُّهَا مِثْلَ أَعْيُنِ الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ. قَالَ: وَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ حَوَرٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلنِّسَاءِ: حُورُ الْعِينِ لِأَنَّهُنَّ يُشَبَّهْنَ بِالظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ. وَقَالَ الْعَجَّاجُ:
بِأَعْيُنٍ مُحَوَّرَاتٍ حُورِ [[في الأصول:
بأعين محورات بيض
والتصويب عن أراجيز العجاج. وقيله:
إذ ترتمي من خلل الخدور
وبعده:
خزر بالباب إلى صور]]
يَعْنِي الْأَعْيُنَ النَّقِيَّاتِ الْبَيَاضِ الشَّدِيدَاتِ سَوَادِ الْحَدْقِ. وَالْعِينُ جَمْعُ عَيْنَاءَ، وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَظِيمَةُ الْعَيْنَيْنِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (مُهُورُ الْحُورِ الْعِينِ قَبَضَاتُ التَّمْرِ وَفِلَقُ الْخُبْزِ). وَعَنْ أَبِي قِرْصَافَةَ [[أبو قرصافة (بكسر أوله) اسمه جندرة بن خيشنة الكناني.]] سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (إِخْرَاجُ الْقُمَامَةِ مِنَ الْمَسْجِدِ مُهُورُ الْحُورِ الْعِينِ). وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (كَنْسُ الْمَسَاجِدِ مُهُورُ الْحُورِ الْعِينِ) ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ أَفْرَدْنَا لِهَذَا الْمَعْنَى بَابًا مُفْرَدًا فِي (كِتَابِ التَّذْكِرَةِ) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَاخْتُلِفَ أَيُّمَا أَفْضَلُ فِي الْجَنَّةِ، نِسَاءُ الْآدَمِيَّاتِ أَمِ الْحُورُ؟ فَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: وَأَخْبَرَنَا رشدين عن ابن أنعم عن حبان بن أَبِي جَبَلَةَ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَ الْآدَمِيَّاتِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُنَّ الْجَنَّةَ فُضِّلْنَ عَلَى الْحُورِ الْعِينِ بِمَا عَمِلْنَ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا إِنَّ (الآدميات أفضل من الحور العين سبعين أَلْفِ ضِعْفٍ). وَقِيلَ: إِنَّ الْحُورَ الْعِينَ أَفْضَلُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ: (وَأَبْدِلْهُ زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ). وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ "بِحُورِ عِينٍ" مُضَافٌ. وَالْإِضَافَةُ وَالتَّنْوِينُ فِي "بِحُورٍ عين" سواء.
{"ayah":"كَذَ ٰلِكَ وَزَوَّجۡنَـٰهُم بِحُورٍ عِینࣲ"}