الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ إِنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْعَذَابَ، إِذْ لَيْسُوا خَيْرًا مِنْ قَوْمِ تُبَّعٍ وَالْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ، وَإِذَا أَهْلَكْنَا أُولَئِكَ فَكَذَا هَؤُلَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَهُمْ أَظْهَرُ نِعْمَةً وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ. وَقِيلَ: أَهُمْ أَعَزُّ وَأَشَدُّ وَأَمْنَعُ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِتُبَّعٍ رَجُلًا وَاحِدًا بَلِ الْمُرَادُ بِهِ مُلُوكُ الْيَمَنِ، فَكَانُوا يُسَمُّونَ مُلُوكَهُمُ التَّبَابِعَةَ. فَتُبَّعٌ لَقَبٌ لِلْمَلِكِ مِنْهُمْ كَالْخَلِيفَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكِسْرَى لِلْفُرْسِ، وَقَيْصَرَ لِلرُّومِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ منهم تبعا لِأَنَّهُ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالتَّبَابِعَةُ مُلُوكُ الْيَمَنِ، وَاحِدُهُمْ تُبَّعٌ. وَالتُّبَّعُ أَيْضًا الظِّلُّ، وَقَالَ: يَرِدُ الْمِيَاهَ حَضِيرَةً وَنَفِيضَةً ... وِرْدَ الْقَطَاةِ إِذَا اسْمَأَلَّ التُّبَّعُ [[البيت لسعدي- وقيل لسلمى- الجهنية ترثي أخاها أسعد. والحضيرة والنقيضة: جماعة القوم، وقيل: النفر يغزي بهم. وقيل غير هذا. وأسمال الظل: قصر وضمر، وذلك عند نصف النهار.]] وَالتُّبَّعُ أَيْضًا ضَرْبٌ مِنَ الطَّيْرِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: تُبَّعٌ اسْمٌ لِكُلِّ مَلِكٍ مَلَكَ الْيَمَنَ وَالشِّحْرَ وَحَضْرَمَوْتَ، وَإِنْ مَلَكَ الْيَمَنَ وَحْدَهَا لَمْ يُقَلْ لَهُ تُبَّعٌ، قَالَهُ الْمَسْعُودِيُّ. فَمِنَ التبابعة: الحارث الرائش، هو ابْنُ هَمَّالٍ ذِي سُدَدٍ [[وردت هذه الأسماء محرفة.]]. وَأَبْرَهَةُ ذُو الْمَنَارِ. وَعَمْرٌو ذُو الْأَذْعَارِ. وَشِمْرُ بْنُ مَالِكٍ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ سَمَرْقَنْدُ. وَأَفْرِيقِيسُ بْنُ قَيْسٍ، الَّذِي سَاقَ الْبَرْبَرَ إِلَى أَفْرِيقِيَّةَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ، وَبِهِ سُمِّيَتْ إِفْرِيقِيَّةُ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَرَادَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ بِهَذَا الِاسْمِ أَشَدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَلَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ لَعِينٌ أَمْ لَا). ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا) فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُ كان واحدا بعينه، وهووالله أعلم- أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غَزَا الْمَدِينَةَ وَأَرَادَ خَرَابَهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا لما أخبر أنهم مُهَاجَرُ نَبِيٍّ اسْمُهُ أَحْمَدُ. وَقَالَ شِعْرًا أَوْدَعَهُ عِنْدَ أَهْلِهَا، فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ إِلَى أَنْ هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ فَأَدَّوْهُ إِلَيْهِ. وَيُقَالُ: كَانَ الْكِتَابُ وَالشِّعْرُ عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ. وَفِيهِ: شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أَنَّهُ ... رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَارِي النَّسَمْ فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إِلَى عُمْرِهِ ... لَكُنْتُ وَزِيرًا لَهُ وَابْنَ عَمْ وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ حُفِرَ قَبْرٌ لَهُ [[لفظة له ساقطة من ن ك هـ.]] بِصَنْعَاءَ- وَيُقَالُ بِنَاحِيَةِ حِمْيَرَ- فِي الْإِسْلَامِ، فَوُجِدَ فِيهِ امْرَأَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَعِنْدَ رُءُوسِهِمَا لَوْحٌ مِنْ فِضَّةٍ مَكْتُوبٌ فِيهِ بِالذَّهَبِ "هَذَا قَبْرُ حُبَّى وَلَمِيسَ" وَيُرْوَى أَيْضًا: حُبَّى وَتُمَاضِرَ، ويروى أَيْضًا: هَذَا قَبْرُ رَضْوَى وَقَبْرُ حُبَّى ابْنَتَا تُبَّعٍ، مَاتَتَا وَهُمَا يَشْهَدَانِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا يُشْرِكَانِ بِهِ شَيْئًا، وَعَلَى ذلك مات الصالحون قبلهما. قُلْتُ: وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكَ، وَأَنَا عَلَى دِينِكَ وَسُنَّتِكَ، وَآمَنْتُ بِرَبِّكَ وَرَبِّ كُلِّ شي، وَآمَنْتُ بِكُلِّ مَا جَاءَ مِنْ رَبِّكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَدْرَكْتُكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ لَمْ أُدْرِكْكَ فَاشْفَعْ لِي وَلَا تَنْسَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنِّي مِنْ أُمَّتِكَ الْأَوَّلِينَ وَبَايَعْتُكَ قَبْلَ مَجِيئِكَ، وَأَنَا عَلَى مِلَّتِكَ وَمِلَّةِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ". ثُمَّ خَتَمَ الْكِتَابَ وَنَقَشَ عَلَيْهِ: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾[[راجع ج ١٤ ص ١.]] [الروم: ٤]. وَكَتَبَ عَلَى عِنْوَانِهِ (إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَبِيُّ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﷺ. مِنْ تُبَّعٍ الْأَوَّلِ". وَقَدْ ذَكَرْنَا بَقِيَّةَ خَبَرِهِ وَأَوَّلُهُ في "اللمع اللؤلؤية شَرْحُ الْعَشْرِ بَيِّنَاتٍ النَّبَوِيَّةِ" [[اضطربت الأصول في هذا الكتاب وفي اسم مؤلفه، ولم نعثر عليه.]] لِلْفَارَابِي رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ تُبَّعٌ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَلْفَ سَنَةٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ نَبِيًّا أَوْ مَلِكًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ تُبَّعٌ نَبِيًّا. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ تُبَّعٌ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ قَوْمُهُ كُهَّانًا وَكَانَ مَعَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَمَرَ الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يُقَرِّبَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ قُرْبَانًا فَفَعَلُوا، فَتُقُبِّلَ قُرْبَانَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَسْلَمَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا. وَحَكَى قَتَادَةُ أَنَّ تُبَّعًا كَانَ رَجُلًا مِنْ حِمْيَرٍ، سَارَ بِالْجُنُودِ حَتَّى عَبَرَ الْحِيرَةَ وَأَتَى سَمَرْقَنْدَ فَهَدَمَهَا، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ تُبَّعٌ الْحِمْيَرِيُّ، وَكَانَ سَارَ بِالْجُنُودِ حَتَّى عَبَرَ الْحِيرَةَ. وَبَنَى سَمَرْقَنْدَ وَقَتَلَ وَهَدَمَ الْبِلَادَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: تُبَّعٌ هُوَ أَبُو كَرْبٍ أسعد بن ملكيكرب، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تُبَّعًا لِأَنَّهُ تَبِعَ مَنْ قَبْلَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي كَسَا الْبَيْتَ الْحِبَرَاتَ [[الحبرات (بالكسر ففتح جمع حبرة وحبرة): ضرب من برود اليمن منمّر.]]. وَقَالَ كَعْبٌ: ذَمَّ اللَّهُ قَوْمَهُ وَلَمْ يَذُمَّهُ، وَضَرَبَ بِهِمْ لِقُرَيْشٍ مِثْلًا لِقُرْبِهِمْ مِنْ دَارِهِمْ وَعِظَمِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ، فَلَمَّا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ قَبْلَهُمْ- لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ- كَانَ مَنْ أَجْرَمَ مَعَ ضَعْفِ الْيَدِ وَقِلَّةِ الْعَدَدِ أَحْرَى بِالْهَلَاكِ. وَافْتَخَرَ أَهْلُ الْيَمَنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ جَعَلَ اللَّهُ قَوْمَ تُبَّعٍ خَيْرًا مِنْ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: سُمِّيَ أَوَّلُهُمْ تُبَّعًا لِأَنَّهُ اتَّبَعَ قَرْنَ الشَّمْسِ وَسَافَرَ فِي الشَّرْقِ مَعَ العساكر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ﴾ "الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعِ عَطْفٍ عَلَى "قَوْمُ تُبَّعٍ". "أَهْلَكْناهُمْ" صِلَتُهُ. وَيَكُونُ "مِنْ قَبْلِهِمْ" مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "مِنْ قَبْلِهِمْ" صِلَةَ "الَّذِينَ" وَيَكُونُ فِي الظَّرْفِ عَائِدٌ إِلَى الْمَوْصُولِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ "أَهْلَكْناهُمْ" عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ مَعَهُ "قَدْ" فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. أَوْ يُقَدَّرُ حَذْفٌ مَوْصُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَوْمٌ أَهْلَكْنَاهُمْ. وَالتَّقْدِيرُ أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ أَنَّا إِذَا قَدَرْنَا عَلَى إِهْلَاكِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ قَدَرْنَا عَلَى إِهْلَاكِ الْمُشْرِكِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" ابْتِدَاءٌ خَبَرُهُ "أَهْلَكْناهُمْ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى "تُبَّعٍ" كَأَنَّهُ قَالَ: قَوْمُ تُبَّعٍ الْمُهْلِكِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ "أَهْلَكْناهُمْ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ﴾ أَيْ غَافِلِينَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وقيل: لاهين، وهو قول الكلبي. "وما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ" أَيْ إِلَّا بِالْأَمْرِ الْحَقِّ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: إِلَّا لِلْحَقِّ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ والحسن. وقيل: إلا لإقامة الحق وإظهاره مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْتِزَامِ طَاعَتِهِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي "الْأَنْبِيَاءِ" [[راجع ج ١١ ص ٢٧٦.]]. "وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ" يَعْنِي أكثر الناس. "لا يَعْلَمُونَ" ذلك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب