الباحث القرآني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الشُّورَى مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْهَا أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ: ﴿قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ﴾[[آية ٢٣]] [الشورى: ٢٣] إلى آخرها. وهي ثلاث وخمسون آية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) قوله تعالى: "حم. عسق" قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ: سَأَلْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ [[في ز: الحسن بن المفضل وفي ل: الحسن بن الفضل.]]: لِمَ قَطَعَ "حم" مِنْ "عسق" وَلَمْ تُقْطَعْ "كهيعص" وَ "المر" وَ "المص"؟ فَقَالَ: لِأَنَّ "حم. عسق" بَيْنَ سُوَرٍ أَوَّلُهَا "حم" فَجَرَتْ مَجْرَى نَظَائِرِهَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، فَكَأَنَّ "حم" مُبْتَدَأٌ وَ "عسق" خَبَرُهُ. وَلِأَنَّهَا عُدَّتْ آيَتَيْنِ، وَعُدَّتْ أَخَوَاتُهَا اللَّوَاتِي كُتِبَتْ جُمْلَةً آيَةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ: إِنَّ الْحُرُوفَ الْمُعْجَمَةَ كُلَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أُسُّ الْبَيَانِ وَقَاعِدَةُ الْكَلَامِ، ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيُّ. وَكُتِبَتْ "حم. عسق" مُنْفَصِلًا وَ "كهيعص" مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ قِيلَ: حم، أَيْ حُمَّ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَفَصَلُوا بَيْنَ مَا يُقَدَّرُ فِيهِ فِعْلٌ وَبَيْنَ مَا لَا يُقَدَّرُ. ثُمَّ لَوْ فُصِلَ هَذَا وَوُصِلَ ذَا لَجَازَ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ "حم. سق" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْرِفُ الْفِتَنَ بِهَا. وَقَالَ أَرْطَاةُ بْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: أَخْبِرْنِي عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "حم. عسق"؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى أَعَادَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: أَنَا أُنَبِّئُكَ بِهَا، قَدْ عَرَفْتُ لِمَ تَرَكَهَا، نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْإِلَهِ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ، يَنْزِلُ عَلَى نَهَرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْمَشْرِقِ، يَبْنِي عَلَيْهِ مَدِينَتَيْنِ يَشُقُّ النَّهَرُ بَيْنَهُمَا شَقًّا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ زَوَالَ مُلْكِهِمْ وَانْقِطَاعَ دَوْلَتِهِمْ، بَعَثَ عَلَى إِحْدَاهُمَا نَارًا لَيْلًا فَتُصْبِحُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً، فَتُحْرَقُ كُلُّهَا كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكَانَهَا، فَتُصْبِحُ صَاحِبَتُهَا مُتَعَجِّبَةً، كَيْفَ قُلِبَتْ! فَمَا هُوَ إِلَّا بَيَاضُ يَوْمِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، ثُمَّ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهَا وَبِهِمْ جَمِيعًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "حم. عسق" أَيْ عَزْمَةٌ [[أي حق من حقوقه.]] مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ، وَفِتْنَةٌ وَقَضَاءٌ حم: حُمَّ. "ع": عَدْلًا مِنْهُ، "س": سَيَكُونُ، "ق": وَاقِعٌ فِي هَاتَيْنِ الْمَدِينَتَيْنِ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا رَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (تُبْنَى مَدِينَةٌ بَيْنَ دِجْلَةَ وَدُجَيْلٍ وَقُطْرُبُّلَ [[وروى بفتح أوله وطائه.]] وَالصَّرَاةِ، يَجْتَمِعُ فِيهَا جَبَابِرَةُ الْأَرْضِ تُجْبَى إِلَيْهَا الْخَزَائِنُ يُخْسَفُ بِهَا- وَفِي رِوَايَةٍ بِأَهْلِهَا- فَلَهِيَ أَسْرَعُ ذَهَابًا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْوَتَدِ الْجَيِّدِ فِي الْأَرْضِ الرِّخْوَةِ (. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ "حم. سق" بِغَيْرِ عَيْنٍ. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْحَاءُ" حِلْمُهُ [[في بعض النسخ. "حكمه" بالكاف.]]، وَ "الْمِيمُ" مَجْدُهُ، وَ "الْعَيْنُ" عِلْمُهُ، وَ "السِّينُ" سَنَاهُ، وَ "الْقَافُ" قُدْرَتُهُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِحِلْمِهِ وَمَجْدِهِ وَعُلُوِّهِ وَسَنَاهُ وَقُدْرَتِهِ أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ عَاذَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وسعيد بن جبير: "الحاء" من الرحمن، "والميم" مِنَ الْمَجِيدِ، وَ "الْعَيْنُ" مِنَ الْعَلِيمِ، وَ "السِّينُ" مِنَ الْقُدُّوسِ، وَ "الْقَافُ" مِنَ الْقَاهِرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: إِنَّهُ اسْمُ الْجَبَلِ الْمُحِيطِ بِالدُّنْيَا. وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ وَاللَّفْظُ لِلثَّعْلَبِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عرفت الكآبة في وجهه، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْزَنَكَ؟ قَالَ: (أُخْبِرْتُ بِبَلَايَا تَنْزِلُ بِأُمَّتِي مِنْ خَسْفٍ وَقَذْفٍ وَنَارٍ تَحْشُرُهُمْ وَرِيحٍ تَقْذِفُهُمْ فِي الْبَحْرِ وَآيَاتٍ مُتَتَابِعَاتٍ مُتَّصِلَاتٍ بِنُزُولِ عِيسَى وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ (. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: هَذَا فِي شَأْنِ النَّبِيِّ ﷺ فَ "الْحَاءُ" حَوْضُهُ الْمَوْرُودُ، وَ "الْمِيمُ" مُلْكُهُ الْمَمْدُودُ، وَ "الْعَيْنُ" عِزُّهُ الْمَوْجُودُ، وَ "السِّينُ" سَنَاهُ الْمَشْهُودُ، وَ "الْقَافُ" قِيَامُهُ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَقُرْبُهُ فِي الْكَرَامَةِ» مِنَ الْمَلِكِ الْمَعْبُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ صَاحِبِ كِتَابٍ إِلَّا وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ: "حم. عسق"، فَلِذَلِكَ قَالَ: "يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ" الْمَهْدَوِيُّ: وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ ( "حم. عسق" مَعْنَاهُ أَوْحَيْتُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ). وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَمُجَاهِدٌ "يُوحَى" (بِفَتْحِ الْحَاءِ) عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مُضْمَرًا، أَيْ يُوحَى إِلَيْكَ الْقُرْآنُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ، وَيَكُونُ اسْمُ اللَّهِ مَرْفُوعًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، التَّقْدِيرُ: يُوحِيهِ اللَّهُ إِلَيْكَ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي بَكْرٍ" يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [[راجع ج ١٢ ص ٢٧٥]] رِجالٌ" [النور: ٣٧ - ٣٦] أي يسبحه رجال. وأنشد سيبويه: لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ بِخُصُومَةٍ ... وَأَشْعَثُ مِمَّنْ طَوَّحَتْهُ الطوائح [[رواية البيت كما في كتاب سيبويه وخزانة الأدب: لبيك يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ وهذا البيت نسبه سيبويه للحارث بن نهيك. ونسبه صاحب خزانة الأدب لنهشل بن حري في مرثية يزيد. (راجع الشاهد الخامس والأربعين).]] فقال: لبيك يَزِيدُ، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَبْكِيَهُ، فَالْمَعْنَى يَبْكِيهِ ضَارِعٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُ يُوحِيهِ. أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ أَيِ الْمُوحِي اللَّهُ. أَوْ يَكُونُ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ "الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". وَقَرَأَ الْبَاقُونَ "يُوحِي إِلَيْكَ" بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَرَفْعِ الِاسْمِ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ. "لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" تَقَدَّمَ في غير موضع [[راجع ج ٢ ص ٦٩ طبعه ثانية. وج ٣ ص ٢٧٨.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب