الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا﴾ أَيْ وَإِنْ يَشَأْ يَجْعَلْ الرِّيَاحَ عَوَاصِفَ فَيُوبِقِ السُّفُنَ، أَيْ يُغْرِقْهُنَّ بِذُنُوبِ أَهْلِهَا. وَقِيلَ: يُوبِقْ أَهْلَ السُّفُنِ. "وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ" مِنْ أَهْلِهَا فَلَا يُغْرِقُهُمْ مَعَهَا، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: "وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ" أَيْ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الذنوب فينجيهم الله من الهلاك. قال القشري: وَالْقِرَاءَةُ الْفَاشِيَةُ "وَيَعْفُ" بِالْجَزْمِ، وَفِيهَا إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنُ الرِّيحَ فَتَبْقَى تِلْكَ السُّفُنُ رَوَاكِدَ وَيُهْلِكُهَا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا، فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُ "يَعْفُ" عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ [[في ح: لأنه إن يشأ يعف.]] الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يَعْفُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى ذَلِكَ بَلِ الْمَعْنَى الْإِخْبَارُ عَنِ الْعَفْوِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمَشِيئَةِ، فَهُوَ إِذًا عَطْفٌ عَلَى الْمَجْزُومِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَدْ قرأ قوم "وَيَعْفُ" بِالرَّفْعِ، وَهِيَ جَيِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى. "وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ" يَعْنِي الْكُفَّارَ، أَيْ إِذَا تَوَسَّطُوا الْبَحْرَ وَغَشِيَتْهُمُ الرِّيَاحُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَوْ بَقِيَتِ السُّفُنُ رَوَاكِدَ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ سِوَى اللَّهِ، وَلَا دَافِعَ لَهُمْ إِنْ أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَهُمْ فَيُخْلِصُونَ لَهُ الْعِبَادَةَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ [[راجع ج ٨ ص ٣٢٥ وج ١٣ ص ٣ (٢٢٣)]]، وَمَضَى الْقَوْلُ فِي رُكُوبِ الْبَحْرِ فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٢ ص ١٩٥ طبعه ثانية.]] وَغَيْرِهَا بِمَا يُغْنِي عن إعادته. وقرا نافع وابن عامر "وَيَعْلَمَ" بِالرَّفْعِ، الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. فَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ:" وَيُخْزِهِمْ [[آية ﴿١٤)]] وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٤] ثُمَّ قَالَ: ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ﴾ [التوبة: ١٥] رَفْعًا. وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ: إِنْ تَأْتِنِي آتِكَ وَيَنْطَلِقُ عَبْدُ اللَّهِ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ. وَالنَّصْبُ عَلَى الصَّرْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾[[آية ١٤٢ سورة آل عمران.]] [آل عمران: ١٤٢] صُرِفَ مِنْ حَالِ الْجَزْمِ إِلَى النَّصْبِ اسْتِخْفَافًا كَرَاهِيَةً لِتَوَالِي الْجَزْمِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ: فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ [[أبو قابوس: كنيته النعمان بن المنذر، يريد أنه كان كالربيع في الخصب لمجتديه، وكالشهر الحرام لجاره، أي لا يوصل إلى من أجاره. والمعنى: إن يمت النعمان يذهب خير الدنيا لأنها كانت تعمر به وبجوده وعدله ونفعه للناس، ومن كان في ذمته وسلطانه فهو آمن على نفسه محقون الدم كما يأمن الناس في الشهر الحرام على أموالهم ودمائهم.]] وَيُمْسِكُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ [[ذناب كل شي: عقبه ومؤخره. واجب الظهر مقطوع السنام. يقول: إن مات بقينا في طرف عيش قد مضى صدره ومعظمه وختره، وقد بقي منه ذنبه.]] وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ، قَالَ: وَلَوْ جَزَمَ "وَيَعْلَمَ" جَازَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نُصِبَ عَلَى إِضْمَارِ "أَنْ" لِأَنَّ قَبْلَهَا جَزْمًا، تَقُولُ: مَا تَصْنَعُ أَصْنَعُ مِثْلَهُ وَأُكْرِمُكَ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: وَأُكْرِمْكَ بِالْجَزْمِ. وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ "وَلِيَعْلَمَ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصْبَ بِمَعْنَى: وَلِيَعْلَمَ أَوْ لِأَنْ يَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَالْمُبَرِّدُ: النَّصْبُ بِإِضْمَارِ "أَنْ" عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْأَوَّلَ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ، أَيْ وَيَكُونُ مِنْهُ عَفْوٌ وَأَنْ يَعْلَمَ، فَلَمَّا حَمَلَهُ. عَلَى الِاسْمِ أَضْمَرَ أَنْ، كَمَا تَقُولُ: إِنْ تَأْتِنِي وَتُعْطِينِي أُكْرِمُكَ، فَتَنْصِبُ تُعْطِينِي، أَيْ إِنْ يَكُنْ مِنْكَ إِتْيَانٌ وَأَنْ تُعْطِيَنِي. وَمَعْنَى "مِنْ مَحِيصٍ" أَيْ مِنْ فِرَارٍ وَمَهْرَبٍ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. السُّدِّيُّ: مِنْ مَلْجَأٍ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَاصَ بِهِ الْبَعِيرُ حَيْصَةً إِذَا رَمَى بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يحيص عن الحق أي يميل عنه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب