الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا". وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ نزلت في القدرية فَلَا أَدْرِي فِيمَنْ نَزَلَتْ. قَالَ أَبُو قَبِيلٍ: لَا أَحْسِبُ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ إِلَّا الَّذِينَ يُجَادِلُونَ الَّذِينَ آمَنُوا. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْقَدَرِيَّةِ" ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ﴾ أَيْ عَنْ قَرِيبٍ يَعْلَمُونَ بُطْلَانَ مَا هُمْ فِيهِ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ وَغُلَّتْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ. قَالَ التَّيْمِيُّ: لَوْ أَنَّ غُلًّا مِنْ أَغْلَالِ جَهَنَّمَ وُضِعَ عَلَى جَبَلٍ لَوَهَصَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءَ الْأَسْوَدَ. "وَالسَّلَاسِلُ" بِالرَّفْعِ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ عَطْفًا عَلَى الْأَغْلَالِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: "يُسْحَبُونَ" مُسْتَأْنَفٌ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: "إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ" مَسْحُوبِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ "وَالسَّلاسِلُ" بِالنَّصْبِ "يُسْحَبُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالتَّقْدِيرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَيَسْحَبُونَ السَّلَاسِلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا كَانُوا يَجُرُّونَهَا فَهُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ "وَالسَّلَاسِلِ" بِالْجَرِّ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى أعناقهم في الأغلال والسلاسل، قال الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَنْ قَرَأَ "وَالسَّلَاسِلِ يُسْحَبُونَ" بِالْخَفْضِ فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ وَفِي "السَّلَاسِلِ يُسْحَبُونَ". قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالْخَفْضُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ لَمْ يَحْسُنْ أَنْ تُضْمِرَ "فِي" فَتَقُولَ زَيْدٌ الدَّارِ، وَلَكِنَّ الْخَفْضَ جَائِزٌ. عَلَى مَعْنَى إِذْ أَعْنَاقُهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ، فَتَخْفِضُ السَّلَاسِلَ عَلَى النَّسَقِ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَغْلَالِ، لِأَنَّ الْأَغْلَالَ فِي تَأْوِيلِ الْخَفْضِ، كَمَا تَقُولُ: خَاصَمَ عَبْدُ اللَّهِ زَيْدًا الْعَاقِلَيْنِ فَتَنْصِبُ الْعَاقِلَيْنِ. وَيَجُوزُ رَفْعُهُمَا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إِذَا خَاصَمَ صَاحِبَهُ فَقَدْ خَاصَمَهُ صَاحِبُهُ، أنشد الفراء: قد سالم الحيات منه القدماء ... الأفعون وَالشُّجَاعَ الشَّجْعَمَا [[الشجعم: الضخم من الحيات.]] فَنَصَبَ الْأُفْعُوَانَ عَلَى الْإِتْبَاعِ لِلْحَيَّاتِ إِذَا سَالَمَتِ الْقَدَمَ فَقَدْ سَالَمَتْهَا الْقَدَمُ. فَمَنْ نَصَبَ السَّلَاسِلَ أَوْ خَفَضَهَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهَا. "الْحَمِيمِ" لا لمتناهي في الحر. وقيل: الصديد المغلي. "ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ" أَيْ يُطْرَحُونَ فِيهَا فَيَكُونُونَ وَقُودًا لَهَا، قَالَ مُجَاهِدٌ. يُقَالُ: سَجَرْتُ التَّنُّورَ أَيْ أَوْقَدْتُهُ، وَسَجَرْتُهُ مَلَأْتُهُ، وَمِنْهُ ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ [الطور: ٦] أَيِ الْمَمْلُوءُ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا تُمْلَأُ بِهِمُ النَّارُ وَقَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ وَعْلًا: إِذَا شَاءَ طالع مسجورة ... وترى حَوْلَهَا النَّبْعَ وَالسِّمْسِمَا أَيْ عَيْنًا مَمْلُوءَةً. "ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ" وَهَذَا تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ. "قالُوا ضَلُّوا عَنَّا" أَيْ هَلَكُوا وَذَهَبُوا عَنَّا وَتَرَكُونَا فِي الْعَذَابِ، مِنْ ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ أَيْ خَفِيَ. وَقِيلَ: أَيْ صَارُوا بِحَيْثُ لَا نَجِدُهُمْ. "بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً" أَيْ شَيْئًا لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. وَلَيْسَ هَذَا إِنْكَارًا لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، بَلْ هُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ كَانَتْ بَاطِلَةً، قَالَ اللَّهُ تعلى: "كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ" أَيْ كَمَا فَعَلَ بِهَؤُلَاءِ مِنَ الْإِضْلَالِ يَفْعَلُ بِكُلِّ كَافِرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكُمْ﴾ أَيْ ذَلِكُمُ الْعَذَابُ "بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ" بِالْمَعَاصِي يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا أَيْ إِنَّمَا نَالَكُمْ هَذَا بِمَا كُنْتُمْ تُظْهِرُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ السُّرُورِ بِالْمَعْصِيَةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْأَتْبَاعِ وَالصِّحَّةِ. وَقِيلَ إِنَّ فَرَحَهُمْ بِهَا عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلرُّسُلِ: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا لَا نُبْعَثُ وَلَا نُعَذَّبُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [غافر: ٨٣]. "وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ" قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: أَيْ تَبْطَرُونَ وَتَأْشَرُونَ. وَقَدْ مَضَى فِي "سُبْحَانَ" [[راجع ج ١٠ ص ٢٦٠ طبعه أولى أو ثانيه.]] بَيَانُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَرَحُ السُّرُورُ، وَالْمَرَحُ الْعُدْوَانُ. وَرَوَى خَالِدٌ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إن اللَّهَ يُبْغِضُ الْبَذِخِينَ الْفَرِحِينَ وَيُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ وَيُبْغِضُ أَهْلَ بَيْتٍ لَحِمِينَ وَيُبْغِضُ كُلَّ حَبْرٍ سَمِينٍ" [[الحديث في النهاية "إن الله ليبغض أهل البيت اللحمين".]] فَأَمَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَحِمِينَ: فَالَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ بِالْغِيبَةِ. وَأَمَّا الْحَبْرُ السَّمِينُ: فَالْمُتَحَبِّرُ بِعِلْمِهِ وَلَا يُخْبِرُ بِعِلْمِهِ النَّاسَ، يَعْنِي الْمُسْتَكْثِرَ مِنْ عِلْمِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ. ذكره الماوردي. وقد قيل في اللَّحِمِينَ: إِنَّهُمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ أَكْلَ اللَّحْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ: اتَّقُوا هَذِهِ الْمَجَازِرَ فَإِنَّ لَهَا ضَرَاوَةً [[الضراوة في قول عمر العادة في النفس الطلابة لأكل اللحم، وهى حال ناشئة عن الاعتياد.]] كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. "ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ" أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ﴾ [الحجر: ٤٤]. "فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ" تَقَدَّمَ جَمِيعُهُ [[راجع ج ١٠ ص ٣٠ وص ١٠٠ طبعه أولى أو ثانيه.]]. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ هَذَا تَسْلِيَةٌ للنبي عليه السلام، أي إنا لينتقم لَكَ مِنْهُمْ إِمَّا فِي حَيَاتِكَ أَوْ فِي الْآخِرَةِ. "فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ" فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالشَّرْطِ وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَكَذَا النُّونُ وَزَالَ الْجَزْمُ وَبُنِيَ الْفِعْلُ عَلَى الْفَتْحِ. "أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ" عَطْفٌ عَلَيْهِ "فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ" الْجَوَابُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ﴾ عَزَّاهُ أَيْضًا بِمَا لَقِيَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ. "مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ" أَيْ أَنْبَأْنَاكَ بِأَخْبَارِهِمْ وَمَا لَقُوا مِنْ قَوْمِهِمْ. "وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ" لا يأتي بها من قبل نفسه وإنما هي من عند اللَّهِ أَيْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ "إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ" أَيْ إِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُسَمَّى لِعَذَابِهِمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا التَّأْخِيرُ لِإِسْلَامِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ إِسْلَامَهُ مِنْهُمْ وَلِمَنْ فِي أَصْلَابِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْقَتْلِ بِبَدْرٍ. "قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ" أَيِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْبَاطِلَ والشرك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب