الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا﴾ أَيْ مِنْ إِلْحَاقِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ بِهِ فَطَلَبُوهُ فَمَا وَجَدُوهُ لِأَنَّهُ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ قِبْطِيًّا فَنَجَّاهُ اللَّهُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَالْهَاءُ عَلَى هَذَا لِمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِمُوسَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ. "وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ" قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ حَاقَ يَحِيقُ حيقا وحيوقا إذ نَزَلَ وَلَزِمَ. ثُمَّ بَيَّنَ الْعَذَابَ فَقَالَ: "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها" وَفِيهِ سِتَّةُ أَوْجُهٍ: يَكُونُ رَفْعًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ "سُوءُ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى هُوَ النَّارُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَكُونُ مَرْفُوعًا بِالْعَائِدِ عَلَى مَعْنَى النَّارُ عَلَيْهَا يُعْرَضُونَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي الرَّفْعِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ النَّصْبَ، لِأَنَّ بَعْدَهَا عَائِدًا وَقَبْلَهَا مَا يَتَّصِلُ بِهِ، وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ الْخَفْضَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ "الْعَذابِ". وَالْجُمْهُورُ عَلَى أن هذا العرض في البرزخ. احتج بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَثْبِيتِ عَذَابِ الْقَبْرِ بِقَوْلِهِ: "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا" مَا دَامَتِ الدُّنْيَا. كَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ كُلُّهُمْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الدُّنْيَا، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ عَنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ". وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ أَرْوَاحَ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ تُعْرَضُ عَلَى النَّارِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فَيُقَالُ هَذِهِ دَارُكُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا: إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ تَغْدُو عَلَى جَهَنَّمَ وَتَرُوحُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَذَلِكَ عَرْضُهَا. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ [[في نسخ الأصل ميمون بن ميسرة وهو تحريف، والتصويب عن "التهذيب".]] يَقُولُ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا أَصْبَحَ يُنَادِي: أَصْبَحْنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَعُرِضَ آلُ فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ. فَإِذَا أَمْسَى نَادَى: أَمْسَيْنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَعُرِضَ آلُ فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ، فَلَا يَسْمَعُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَحَدٌ إِلَّا تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ. وَفِي حَدِيثِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَى النَّارِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ثُمَّ تَلَا:" النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا "وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ عُرِضَ رُوحُهُ عَلَى الْجَنَّةِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ" وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الغداة والعشي بمقادير دلك فِي الدُّنْيَا. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ: "غُدُوًّا وَعَشِيًّا" قَالَ: مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ: قَالَ رَجُلٌ لِلْأَوْزَاعِيِّ رَأَيْنَا طُيُورًا تَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ تَأْخُذُ نَاحِيَةَ الْغَرْبِ، بِيضًا صِغَارًا فَوْجًا فَوْجًا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا كَانَ الْعِشَاءَ رَجَعَتْ مِثْلَهَا سُودًا. قَالَ: تِلْكَ الطُّيُورُ فِي حَوَاصِلِهَا أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ، يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، فَتَرْجِعُ إِلَى أَوْكَارِهَا وَقَدِ احْتَرَقَتْ رِيَاشُهَا وَصَارَتْ سُودًا، فَيَنْبُتُ عَلَيْهَا مِنَ اللَّيْلِ رِيَاشُهَا بِيضًا وَتَتَنَاثَرُ السُّودُ، ثُمَّ تَغْدُو فَتُعْرَضُ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى وَكْرِهَا فَذَلِكَ دَأْبُهَا مَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ" وَهُوَ الْهَاوِيَةُ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فبلغنا أنهم أَلْفَا أَلْفٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَ "غُدُوًّا" مَصْدَرٌ جُعِلَ ظَرْفًا عَلَى السَّعَةِ. "وَعَشِيًّا" عَطْفٌ عَلَيْهِ وتم الكلام. ثم تبتدى و "يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ" عَلَى أَنْ تَنْصِبَ يَوْمًا بِقَوْلِهِ: "أَدْخِلُوا" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِ "يُعْرَضُونَ" عَلَى مَعْنَى "يُعْرَضُونَ" عَلَى النَّارِ فِي الدُّنْيَا "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ" فَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "أَدْخِلُوا" بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْخَاءِ مِنْ أَدْخِلْ وَهِيَ اخْتِيَارُ أبي عبيد، أي يأمر الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُدْخِلُوهُمْ، وَدَلِيلُهُ "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها". الْبَاقُونَ "أَدْخِلُوا" بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَضَمِّ الْخَاءِ مِنْ دَخَلَ أَيْ يُقَالُ لَهُمُ: "أَدْخِلُوا" يَا "آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ" وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ. قَالَ: فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: "آلَ" مَفْعُولٌ أَوَّلُ وَ "أَشَدَّ" مَفْعُولٌ ثَانٍ بِحَذْفِ الْجَرِّ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ مَنْصُوبٌ، لِأَنَّهُ نِدَاءٌ مُضَافٌ. وَآلُ فِرْعَوْنَ: مَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ وَعَلَى مَذْهَبِهِ، وَإِذَا كَانَ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ وَمَذْهَبِهِ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ كَانَ هُوَ أَقْرَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: "إِنَّ الْعَبْدَ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وُلِدَ مُؤْمِنًا وَحَيِيَ مُؤْمِنًا وَمَاتَ مُؤْمِنًا وَإِنَّ الْعَبْدَ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا مِنْهُمْ فِرْعَوْنُ وُلِدَ كَافِرًا وَحَيِيَ كَافِرًا وَمَاتَ كَافِرًا" ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَجَعَلَ الْفَرَّاءُ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا مَجَازُهُ: "أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ". "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا" فَجَعَلَ الْعَرْضَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ انْتِظَامِ الْكَلَامِ عَلَى سياقه على ما تقدم. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب