الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى. "يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ" هَذَا مِنْ قَوْلِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَفِي قَوْلِهِ "يَا قَوْمِ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قِبْطِيٌّ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: "يَا قَوْمِ" لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى قَبُولِ وَعْظِهِ "لَكُمُ الْمُلْكُ" فاشكروا الله على ذلك. "ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ" أَيْ غَالِبِينَ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ فِي حَالِ ظُهُورِكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُ مِصْرَ فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِ، كقوله: ﴿وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾ [يوسف: ٢١] أَيْ فِي أَرْضِ مِصْرَ. "فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا" أَيْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ نِقَمِهِ إِنْ كَانَ مُوسَى صَادِقًا، فَذَكَّرَ وَحَذَّرَ فَعَلِمَ فِرْعَوْنُ ظُهُورَ حُجَّتِهِ فَقَالَ: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى ". قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَا أُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا أَرَى لِنَفْسِي. "وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ" فِي تَكْذِيبِ مُوسَى وَالْإِيمَانِ بِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ﴾ زَادَهُمْ فِي الْوَعْظِ "إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ" يَعْنِي أَيَّامَ الْعَذَابِ الَّتِي عُذِّبَ فِيهَا الْمُتَحَزِّبُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِيمَا بَعْدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ﴾ زَادَ فِي الْوَعْظِ وَالتَّخْوِيفِ وَأَفْصَحَ عَنْ إِيمَانِهِ، إِمَّا مُسْتَسْلِمًا مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى الْقَتْلِ، أَوْ وَاثِقًا بِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَهُ بِسُوءٍ، وَقَدْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمْ بِقَوْلِهِ الْحَقَّ "فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا". وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ "التَّنادِ" بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ: وَبَثَّ الْخَلْقَ فِيهَا إِذْ دَحَاهَا ... - فَهُمْ سُكَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُنَادَاةِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، فَيُنَادِي أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ، وَيُنَادِي أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ: "أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا" وَيُنَادِي أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ: "أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ" وَيُنَادِي الْمُنَادِي أَيْضًا بِالشِّقْوَةِ وَالسَّعَادَةِ: أَلَا إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَدْ شَقِيَ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا، أَلَا إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَدْ سَعِدَ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا. وَهَذَا عِنْدَ وَزْنِ الْأَعْمَالِ. وَتُنَادِي الْمَلَائِكَةُ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ: ﴿أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ٤٣] وَيُنَادَى حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ. وَيُنَادَى كُلُّ قَوْمٍ بِإِمَامِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّدَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ السميقع ويعقوب وابن كثير ومجاهد: "التناد" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ "يَوْمَ التَّنادِ" بِتَشْدِيدِ الدَّالِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: هَذَا لَحْنٌ، لِأَنَّهُ مِنْ نَدَّ يَنِدُّ إِذَا مَرَّ عَلَى وَجْهِهِ هَارِبًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ [[هو طرفة. في اللسان: نواديه أمشى. يقول: إبل باركة نيام، ونواديها أي ما ند منها. ويروى هواديه أي أواثلها. أي أثارت مخافتي نوادي هذا البرك حال مشى إليه بالسيف.]]: وَبَرْكٍ هُجُودٍ قَدْ أَثَارَتْ مَخَافَتِي ... نَوَادِيَهَا أَسْعَى بِعَضْبٍ مُجَرَّدِ قَالَ: فَلَا مَعْنَى لِهَذَا فِي الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ وَالْقِرَاءَةُ بِهَا حَسَنَةٌ عَلَى مَعْنَى يَوْمَ التَّنَافُرِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: ذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا زَفِيرَ جَهَنَّمَ نَدُّوا هَرَبًا، فَلَا يَأْتُونَ قُطْرًا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ إِلَّا وَجَدُوا صُفُوفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "يَوْمَ التَّنادِ". وَقَوْلُهُ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الرحمن: ٣٣] الآية. وقوله: ﴿وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها﴾ [الحاقة: ١٧] ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِمَعْنَاهُ. قَالَ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَلْمَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ" ثُمَّ تَسْتَجِيبُ لَهُمْ أَعْيُنُهُمْ بِالدَّمْعِ فَيَبْكُونَ حَتَّى يَنْفَدَ الدَّمْعُ، ثُمَّ تَسْتَجِيبُ لَهُمْ أَعْيُنُهُمْ بِالدَّمِ فَيَبْكُونَ حَتَّى يَنْفَدَ الدَّمُ، ثُمَّ تَسْتَجِيبُ لَهُمْ أَعْيُنُهُمْ بِالْقَيْحِ. قَالَ: يُرْسَلُ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَمْرٌ فَيُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ تَسْتَجِيبُ لَهُمْ أَعْيُنُهُمْ بِالْقَيْحِ، فَيَبْكُونَ حَتَّى يَنْفَدَ الْقَيْحُ فَتَغُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالْخِرَقِ فِي الطِّينِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا يَكُونُ عِنْدَ نَفْخِ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصُّوَرِ نَفْخَةَ الْفَزَعِ. ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ فَتَكُونُ الْأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ فَيَمِيدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا وَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا وتشيب الولدان وتتطاير الشياطين هَارِبَةً فَتَلْقَاهَا الْمَلَائِكَةُ تَضْرِبُ وُجُوهَهَا وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ" الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ وَتَكَلَّمْنَا عليه هناك. وروي عن علي ابن نَصْرٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو إِسْكَانُ الدَّالِ مِنَ "التَّنَادِ" فِي الْوَصْلِ خَاصَّةً. وَرَوَى أَبُو مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ زِيَادَةَ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ خَاصَّةً وَهُوَ مَذْهَبُ وَرْشٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو حَذْفُهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ سَائِرُ السَّبْعَةِ سِوَى وَرْشٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ وَسِوَى ابْنِ كَثِيرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمَ التَّنَادِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يُنَادَى فِيهِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَالْحَسْرَةِ. قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ أَيْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمِ التَّنَادِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. "يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ" عَلَى الْبَدَلِ مِنْ "يَوْمَ التَّنادِ" وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ" أَيْ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الضَّلَالَ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَفِي قَائِلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا مُوسَى. الثَّانِي مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب