الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ﴾ أَيْ أَمْرُنَا طَاعَةٌ، وَيَجُوزُ (طَاعَةً) بِالنَّصْبِ، أَيْ نُطِيعُ طَاعَةً، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ وَالْحَسَنِ وَالْجَحْدَرِيِّ. وَهَذَا فِي الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ يَقُولُونَ إِذَا كَانُوا عِنْدَكَ: أَمْرُنَا طَاعَةٌ، أَوْ نُطِيعُ طَاعَةً، وَقَوْلُهُمْ هَذَا لَيْسَ بِنَافِعٍ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدِ الطَّاعَةَ لَيْسَ بِمُطِيعٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحَقِّقْ طَاعَتَهُمْ بِمَا أَظْهَرُوهُ، فَلَوْ كَانَتِ الطَّاعَةُ بِلَا اعْتِقَادٍ حَقِيقَةً لَحُكِمَ بِهَا لَهُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ الطَّاعَةَ بِالِاعْتِقَادِ مَعَ وُجُودِهَا. (فَإِذا بَرَزُوا) أَيْ خَرَجُوا (مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) فَذَكَرَ الطَّائِفَةَ لِأَنَّهَا في معنى رِجَالٍ. وَأَدْغَمَ الْكُوفِيُّونَ التَّاءَ فِي الطَّاءِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ، وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ عِنْدُ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرُ قَبِيحٍ. وَمَعْنَى (بَيَّتَ) زَوَّرَ وَمَوَّهَ. وَقِيلَ: غَيَّرَ وَبَدَّلَ وَحَرَّفَ، أَيْ بَدَّلُوا قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِهِ. وَالتَّبْيِيتُ التبديل، ومنه قول الشاعر [[هو الأسود بن يعفر، كما في اللسان مادة (نكر).]]: أتوني فلم أرض ما بيتو ... وَكَانُوا أَتَوْنِي بِأَمْرٍ نُكُرْ لِأُنْكِحَ أَيِّمَهُمْ مُنْذِرًا ... وهل ينكح العبد حر لحر آخر [[هو الأسود بن عامر الطائي، يعاتب رجلا كما في الطبري ج ٥ ص ١٧٤ طبع بولاق، في البحر: وتبيبت قولي. قاتلك إلخ.]]: بَيَّتَ قَوْلِيَ عَبْدُ الْمَلِي ... كِ قَاتَلَهُ اللَّهُ عبدا كفورا وبيَّت الرجل الامر إذا دبره لَيْلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ [[راجع ص ٣٧٩ من هذا الجزء.]]. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَمْرٌ بُيِّتَ بِلَيْلٍ إِذَا أُحْكِمَ. وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّيْلُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتٌ يُتَفَرَّغُ فِيهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا ... أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ وَمِنْ هَذَا بَيَّتَ الصِّيَامَ. وَالْبَيُّوتُ: الْمَاءُ يَبِيتُ لَيْلًا. وَالْبَيُّوتُ: الْأَمْرُ يَبِيتُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ مُهْتَمًّا بِهِ، قَالَ الْهُذَلِيُّ [[راجع ديوان الهذليين ج ٢ ص ١٩٠ طبع دار الكتب.]]: وَأَجْعَلُ فِقْرَتَهَا عُدَّةً ... إِذَا خِفْتُ بَيُّوتَ أَمْرٍ عُضَالٍ وَالتَّبْيِيتُ وَالْبَيَاتُ أَنْ يَأْتِيَ الْعَدُوُّ لَيْلًا. وَبَاتَ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ لَيْلًا، كَمَا يُقَالُ: ظَلَّ بِالنَّهَارِ. وبئت الشَّيْءَ قَدَّرَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي ابْتِدَائِهِ بِذِكْرِ جُمْلَتِهِمْ ثُمَّ قَالَ: (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ)؟ قِيلَ: إِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حَالِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ، وَصَفَحَ عَمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حَالِ مَنْ شَهِدَ وَحَارَ فِي أَمْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ سَمِعَ وَسَكَتَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ) أَيْ يُثْبِتُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى يُنَزِّلُهُ عَلَيْكَ فِي الْكِتَابِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: طَاعَةٌ، وَلَفَظُوا بِهَا وَلَمْ يُحَقِّقِ اللَّهُ طَاعَتَهُمْ وَلَا حَكَمَ لَهُمْ بِصِحَّتِهَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوهَا. فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْمُطِيعُ مُطِيعًا إِلَّا بِاعْتِقَادِهَا مَعَ وُجُودِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أَيْ لَا تُخْبِرْ بِأَسْمَائِهِمْ، عَنِ الضَّحَّاكِ، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: لَا تُعَاقِبْهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالثِّقَةِ بِهِ فِي النَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [[راجع ج ٨ ص ٢٠٤.]]) ثُمَّ عَابَ الْمُنَافِقِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ وَفِي مَعَانِيهِ. تَدَبَّرْتُ الشَّيْءَ فَكَّرْتُ فِي عَاقِبَتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ (لَا تَدَابَرُوا) أَيْ لَا يُوَلِّي بَعْضُكُمْ بَعْضًا دُبُرَهُ. وَأَدْبَرَ الْقَوْمُ مَضَى أَمْرُهُمْ إِلَى آخِرِهِ. وَالتَّدْبِيرُ أَنْ يُدْبِرَ الْإِنْسَانُ أَمْرَهُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ عَاقِبَتُهُ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [[راجع ج ١٦ ص ٢٤٥.]]) عَلَى وُجُوبِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ [[في ط وج: للقرآن.]] لِيُعْرَفَ مَعْنَاهُ. فَكَانَ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْسِيرِهِ إِلَّا مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَنَعَ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى مَا يُسَوِّغُهُ لِسَانُ الْعَرَبِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ أَيْ تَفَاوُتًا وَتَنَاقُضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ. وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْقِرَاءَاتِ وَأَلْفَاظِ الْأَمْثَالِ وَالدَّلَالَاتِ وَمَقَادِيرِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ. وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِلَافَ [[كذا في الأصول، والإضافة للبيان وفى ابن عطية: ... وظهر فيه التناقض والتنافي.]] التَّنَاقُضِ وَالتَّفَاوُتِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ كَانَ مَا تُخْبِرُونَ بِهِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَاخْتَلَفَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُتَكَلِّمٍ يَتَكَلَّمُ كَلَامًا كَثِيرًا إِلَّا وُجِدَ فِي كَلَامِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، إِمَّا فِي الْوَصْفِ [[في ج: الرصف. هو الكلام الثابت المحكم.]] وَاللَّفْظِ، وَإِمَّا فِي جَوْدَةِ الْمَعْنَى، وَإِمَّا فِي التَّنَاقُضِ، وَإِمَّا فِي الْكَذِبِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآنَ وَأَمَرَهُمْ بِتَدَبُّرِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِيهِ اخْتِلَافًا فِي وَصْفٍ [[في ج: الرصف. هو الكلام الثابت المحكم.]] وَلَا رَدًّا لَهُ فِي مَعْنًى، وَلَا تَنَاقُضًا وَلَا كَذِبًا فِيمَا يُخْبِرُونَ به من الغيوب وما يسرون.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب