الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ اسْتَثْنَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ حَرَامًا فِي الْأَصْلِ وَأَنْتَ تُحِلُّهَا وَلَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ بِظُلْمِنَا، فَنَزَلَ "لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" وَالرَّاسِخُ هُوَ الْمَبَالِغُ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ الثَّابِتِ فِيهِ، وَالرُّسُوخُ الثُّبُوتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "آلِ عِمْرَانَ" [[راجع ج ٤ ص ١٦ وما بعدها.]] وَالْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَنُظَرَاؤُهُمَا. "وَالْمُؤْمِنُونَ" أَيْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. "وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَجَمَاعَةٌ: "وَالْمُقِيمُونَ" عَلَى الْعَطْفِ، وَكَذَا هُوَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا حَرْفُ أُبَيٍّ فَهُوَ فِيهِ "وَالْمُقِيمِينَ" كَمَا فِي الْمَصَاحِفِ. وَاخْتُلِفَ فِي نَصْبِهِ عَلَى أَقْوَالٍ سِتَّةٍ، أَصَحُّهَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّهُ نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ، أَيْ وَأَعْنِي الْمُقِيمِينَ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذَا بَابُ مَا يَنْتَصِبُ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَمِنْ ذَلِكَ "وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" وَأَنْشَدَ: وَكُلُّ قَوْمٍ أَطَاعُوا أَمْرَ سَيِّدِهِمْ ... إِلَّا نُمَيْرًا أَطَاعَتْ أَمْرَ غَاوِيهَا وَيُرْوَى (أَمْرَ مُرْشِدِهِمْ). الظَّاعِنِينَ [[قوله: (الظاعنين ولما يظعنوا أحدا) أي يخافون من عدوهم لقلتهم وذلهم فيظعنون، ولا يخاف منهم عدوهم فيظعن عن دارهم خوفا منهم. وقوله: (لمن دار نخليها) أي إذا ظعنوا عن دار لم يعرفوا من يحلها بعدهم لخوفهم من جميع القبائل. والبيتان لابن خياط.]] وَلَمَّا يُظْعِنُوا أَحَدًا ... وَالْقَائِلُونَ لِمَنْ دَارٌ نُخَلِّيهَا وَأَنْشَدَ [[البيتان لخرنق بنت عفان من بني قيس، وصفت قومها بالظهور على العدو، ونحر الجزر للأضياف والملازمة للحرب: والعفة عن الفواحش.]]: لَا يَبْعَدْنَ قَوْمِي الَّذِينَ هُمْ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ النَّازِلِينَ بِكُلِ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي "الْمُقِيمِينَ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: "وَالْمُقِيمِينَ" مَعْطُوفٌ على "بِما". قَالَ النَّحَّاسُ قَالَ الْأَخْفَشُ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ وَيُؤْمِنُونَ بِالْمُقِيمِينَ. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ [[في الأصول: محمد بن يزيد.]] أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْمُقِيمِينَ هَاهُنَا الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِدَوَامِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ، وَحَكَى أَنَّ النَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَدْحَ إِنَّمَا يَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ الْخَبَرِ، وَخَبَرُ الرَّاسِخِينَ فِي "أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً" فَلَا يَنْتَصِبُ "الْمُقِيمِينَ" عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: "وَالْمُؤْتُونَ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هُمُ الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ. وَقِيلَ: "وَالْمُقِيمِينَ" عَطْفٌ عَلَى الْكَافِ الَّتِي فِي "قَبْلِكَ" أَيْ مِنْ قَبْلِكَ وَمِنْ قَبْلِ الْمُقِيمِينَ. وَقِيلَ: "الْمُقِيمِينَ" عَطْفٌ عَلَى الْكَافِ الَّتِي فِي "إِلَيْكَ". وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ، أَيْ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُقِيمِينَ، وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ الثَّلَاثَةُ لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهَا عَطْفَ مُظْهَرٍ عَلَى مُضْمَرٍ مَخْفُوضٍ. وَالْجَوَابُ السَّادِسُ- مَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ هَذِهِ الآية وعن قوله:" إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [٢٠: ٦٣]" [طه: ٦٣] [[راجع ج ١١ ص ٢١٥.]] وَقَوْلِهِ: "وَالصَّابِئُونَ" [[راجع ج ٢٤٦ من هذا الجزء.]] فِي] الْمَائِدَةِ: ٦٩]، فَقَالَتْ لِلسَّائِلِ: يَا ابن أخي [[في الطبري (بابن أختي).]] الكتاب أخطئوا. وقال أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: كَانَ الْكَاتِبُ يُمْلَى عَلَيْهِ فَيَكْتُبُ فَكَتَبَ "لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ" ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا أَكْتُبُ؟ فَقِيلَ لَهُ: اكْتُبْ "وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" فَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ هَذَا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا الْمَسْلَكُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا الْكِتَابَ كَانُوا قُدْوَةً فِي اللُّغَةِ، فَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ يُدْرِجُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَمْ يُنْزَلْ. وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ، وَقَوْلُ الْكِسَائِيِّ هُوَ اختيار القفال والطبري، [والله أعلم] [[من ك.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب